الأربعاء 26 يونيو 2024

إبراهيم طوقان ونشيده "الشهيد " شاعر من صميم المأساة


د. يسري عبد الغني

مقالات6-12-2023 | 15:18

د. يسري عبد الغني

● عاش طوقان في صميم مأساة فلسطين، لكنه لم يقدر له أن يعيش حتى يشهد ذروتها الفاجعة، فلم يشهد أهله يكرهون على الخروج من ديارهم ، وينبذون في الخيام بالعراء لاجئين مقهورين
● قصيدة "الشهيد" من وحي المأساة ، وقد نظمها طوقان وهو يتمثل إخوانه الفدائيين الذين خاضوا المعركة مع الإسرائيليين في جولاتها الأولى، فاستطاع أن يحلق بشاعريته في أفق إنساني رحيب


إبراهيم طوقان (1905 م – 1941 م) : من أشهر شعراء فلسطين في العصر الحديث، ولد في نابلس، وتعلم في مدارسها وأتم دراسته بالجامعة الأمريكية ببيروت، ثم عمل مدرسًا للغة العربية بالمدارس الثانوية، حتى أختير سنة 1931 م مدرسًا بالجامعة التي تخرج فيها، وشارك في المنتديات الأدبية ببيروت، واشتهر بالشعر حتى لقب بشاعر الجامعة .


ولإبراهيم طوقان جولات موفقة في عالم الشعر ، وبخاصة الشعر القومي الذي وقفه على تسجيل آلام الأمة وآمالها خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين: رثى الشهداء، وهاجم الاستعمار وندد بالحزبية البغيضة التي تعوق مسيرة الأمة عن المضي في طريق التقدم ، كما دعا العرب إلى نبذ الأحقاد وضم الصفوف لليوم الفاصل المرتقب .


لقد عاش طوقان في صميم مأساة فلسطين، لكنه لم يقدر له أن يعيش حتى يشهد ذروتها الفاجعة، بل رحمه الموت في شبابه، فلم يشهد أهله يكرهون على الخروج من ديارهم، وينبذون في الخيام بالعراء لاجئين مقهورين، ولم يشهد المؤامرة الخبيثة التي مكنت لإسرائيل من اغتصاب الحمى المستباح.


غير أنه لمح بوادر النكبة ونذر الإعصار، بحسه المرهف، فظل يرسل النشيد تلو النشيد نذيرًا لقومه بما يتراءى له من بعيد، ومستثيرًا فيهم بواعث الحمية والجهاد.
وقصيدته (الشهيد) من وحي المأساة، وقد نظمها وهو يتمثل الفدائيين من إخوانه، الذين خاضوا المعركة مع الإسرائيليين في جولاتها الأولى، ونراه مع ـ خصوصية المناسبة ـ استطاع أن يحلق بشاعريته في أفق إنساني رحيب.


شهيد لكل زمان ومكان


يقول إبراهيم طوقان : 
عبس الخطب فابتسم وطغي الهول فاقتحم
رابط الجأش والنهى ثابت القلب والقدم
لم يبال الأذى، ولم يثنه طارئ الألم
نفسه طوع همة وجمت دونها الهمم
تلتقي في مزاجها بالأعاصير والحمم
تجمع الهائج الخضم إلى الراسخ الأشم
وهي من عنصر الفداء ومن جوهر الكرم
ومن الحق جذوة لفحها حرر الأمم


يرسم طوقان في هذا المقطع صورة للشهيد، يواجه الموقف الصعب في بسالة وثبات وإيمان: قد عبس له الخطب الذي ألم ، فلقي عبوسه بابتسامة الثقة والشجاعة، وطغى الهول أمامه، فلم يتردد في اقتحامه، رابط الجأش، ثابت القلب، راسخ القدم، لا يبالي أذى يصيبه، ولا يرده عن غايته ما يلقى من ألم ، فلقد راض نفسه على احتمال عبء الفداء، فسارت طوع همة عالية ، لا تتطاول إليها الهمم، بل تقصر دونها واجمة أمام ما تقذف به من حمم الغضب والإباء، وما يتفجر منها من أعاصير الحمية، فكأنها في صمودها واحتدامها قد جمعت بين الخضم الهادر ، والجبل الراسخ الأشم ، فيالها من نفس صيغت من عنصر التضحية والفداء، ومن جوهر العزة والكرامة، فهي جذوة متوهجة من الحق، بلفحها المقدس انصهرت قيود الاستعباد. 


من معارج المجد إلى أبواب الخلود 


يقول : 
سار في منهج العلا يطرق الخلد منزلاً
لا يبالي مكبلاً ناله أم مجندلاً
فهو رهن بما عزم
ربما غاله الردى وهو بالسجن مرتهن
لم يشيع بدمعة من حبيب ولا سكن
ربما أدرج الترا ب سليبًا من الكفن
لست تدري: بطاحها غيبته أم القٌنن ؟
لا تقل: أين جسمه ؟ واسمه، في فم الزمن
إنه كوكب الهدى لاح في غبهب المحن
أرسل النور في العيو ن فما تعرف الوسن
ورمى النار في القلو ب فما تملكُ الضعن
أي وجه تهللا يردُ الموت مقبلاً
يسعد الروح مرسلاً لحنه ينشد العلا
أنا لله والوطن


في هذا المقطع صورة شعرية للشهيد، وهو يمضي مستبسلاً في طريق العلا، ويرقى معارج المجد إلى باب الخلود، يطرقه ويلتمس هناك منزله  غير مغال بما يلقى من صعاب ، وما يواجه من مخاطر ، ويستوي عنده أن يبلغ غايته النبيلة مكبلاً بأغلال الأسر ، أو صريعًا في ساحة الاستشهاد، فإنما هو رهن بما عقد عليه العزم من بذل وفداء.


ويستغرق شاعرنا في تأمله بعد أن ودع الشهيد في رحلته المحفوفة بالمخاطر، وتذهب به الظنون في مصيره كل مذهبٍ: ربما غاله الردى وهو في السجن أسير القضبان ، ففاضت روحه دون أن تشيعه دمعة يذرفها عليه حبيب ، أو ربما غيبه القبر مدرجًا بالتراب ، عاريًا من كفن .


جدوى السؤال عن مثوى الجسد الطاهر


ولكن فيما السؤال عن مثوى الجسد الطاهر؟، ليكن في أي مكان: تحت البطاح، أو فوق القنن (ذروة الجبل) ، فاسم الشهيد باق على فم الزمن، وطيفه الماثل يلوح كوكبًا هاديًا في الليل البهيم، يهدي السائرين المُدلجين في الظلمات، ويرسل شعاعه الوضاء في عيون الراقدين من قومه، فيذود عنها وسن الغفلة، وخدر النعاس، ويرمي النار في قلوب أهل الحمى، فتتأجج غضبًا، ولا تعود تملك كبح جماح حقدها على العدو الباغي.


ويرفع الشاعر تحية البطولة إلى الشهيد الباسل، إذ يرد حياض الموت مهلل الوجه مرتلاً للعلا لحن الاستشهاد: (أنا لله وللوطن).


نظرة نقدية 


هذا النشيد بإيقاعه المثير ووزنه الموسيقي يلائم الموقف الشعري، ويتدرج معه بانسجام في مختلف مقاطعه، فالنغم يعلو هادرًا أمام بسالة الشهيد واقتحامه الأهوال والمخاطر، حيث نسمع زئير الأعاصير، ودمدمة الحمى، وهدير الخٍضم، وطغيان الهول ، وصليل الأغلال ، وفحيح النار ، حتى إذا غاب الشهيد في غمار المعركة ، وانطلق مصعدًا في طريقه إلى منزل الخلود ، تغير الإيقاع، وعاد ترتيلاً حزينًا، وأنينًا شجيًا، ونغمات حائرة ، تلتمس المثوى التائه لجسد الشهيد: في غيابة السجن، أو في جوف التراب، وفي مجاهل البطاح، أو فوق أعالي القمم .. فإذا أدرك الشاعر عقم المحاولة، وكف عن البحث العقيم عن جثة الشهيد، وانتفض يوقع تحية البطولة ولحن الانتصار .


ولعل القارئ الكريم قد انتبه معي إلى التجديد في التوزيع الموسيقي للقصيدة (بالنسبة للوقت الذي كتبت فيه )، دون أن تخرج على ضوابط الإيقاع أو تخل بنسق الوزن: فالمقطع الأول يبدأ بأبيات ثمانية موحدة القافية، تتلوها رباعية لامية، يخمسها شطر على روي الأبيات الثمانية الأولى ، ينسجم به النغم .


ويمضي على هذا النسق في المقطع الثاني، الذي يبدأ بثمانية أبيات نونية، على روي الشطر الأخير قبلها، تتلوها رباعية لامية، تأتلف بها الوحدة الموسيقية مع مثيلتها في المقطع الأول، ثم يخمسها شطر على روي الأبيات الثمانية المفتتح بها هذا المقطع.


هذه القصيدة ـ كما ذكرنا ـ من وحي مأساة فلسطين (جرحنا النازف الذي لا يندمل)، لكن الشاعر حلق بشاعريته في أفق إنساني رحب ، بحيث يمكن أن تعد القصيدة نشيدًا عامًا، في كل شهيد ، يستبسل في الذود عن وطنه، ويجود بروحه ودمه فداءًا للحمى (وهذه هي سمات الأدب الخالد الذي يلح لكل زمان ومكان، ويردده الناس على مدى الدهور).. 


لقد لقى الشاعر / إبراهيم طوقان ربه راضيًا مرضيا ، لكن أناشيده بقيت ملء سمع أهله وعشيرته، تذكرهم بالشاعر الملهم الذي أنذرهم بالإعصار قبل أن يجتاح الديار، وأطلق صوته للجهاد والفداء قبل نكبة 1948 م، وها هي أخته الشاعرة / فدوى طوقان تقف على أنقاض الحمى فتناجي طيف شقيقها الراحل في قصيدتها التي عنوانها: (حلم الذكرى ـ ضمن ديوانها (وجدتها) ، بيروت ، 1957 م ) : 


أخي أرأيت القضية كيف انتهت ؟ أرأيت المصير الرهيب ؟
أتذكر إذ أنت ترسل شعرك يطوي الحمى عاصفًا من لهيب 
تحذرهم من هوان المآل كأنك تقرأ لوح الغيوب .
رحم الله تعالى الشاعر / إبراهيم طوقان، والشاعرة / فدوى طوقان ، جزاءً وفاقًا لما قدما للأدب العربي الحديث بوجه عام، وللشعر العربي بوجه خاص. 
والله تعالى ولي التوفيق ،،،