الأربعاء 27 نوفمبر 2024

مقالات

السير على حد السكين معالم خارطة طريق الإبداع المقاوم في فكر «مريد البرغوثي»


  • 11-12-2023 | 10:21

خالد جودة أحمد

طباعة
  • خالد جودة أحمد

● يرى البرغوثى أن الشعر ليس إلهامًا بل حالة انتباه حادة بالحواس الخمس، لما يدور في عالمه الداخلي، وما يدور حوله، حيث يرى ويلاحظ ويتوقف ويندهش لما قد لا يثير دهشة الآخرين

● في أدبه المقاوم يبصر مريد البرغوثي لب القضية بوضوح حيث إنها معركة تكسير إرادات، حيث يحاول العدو كسر إرادته وحرمانه حقه في وطنه

● الحديث عن معالم خارطة طريق الإبداع في فكر مريد البرغوثى، مبحث أظنه يحتاج إلى الكثير من التأمل والتمحيص، لأنه يقدم أنموذجًا وافيًا ضروريًا وإرشاديًا للأدباء

الشاعر والناثر الفلسطيني الكبير "مريد البرغوثي" أحد رموز أدب المقاومة الفلسطيني. قدم منجزا أدبيا راقيًا رفيع المستوى في خدمة القضية العربية الأولى. صرح أكثر من مرة – بتواضعه الجم - أنه حاول رواية القضية الفلسطينية بالشعر والنثر، وأن أهم ما يشغله أن يقدم في الأساس عملا فنيا، وانتقد ما أطلق عليه "أدب التضامن" الصلد المغلف بالحماسة والشعارات والتبسيط، الصاخب بالطنين، وأن هكذا أدب ليس أدبا حقيقيًا، والشواهد النصية من أفق منجزه الكتابي كثر، يقول موضحًا الفارق بين العمق والضحالة أدبيًا: "تساءلت مجددا عن ذلك الركام المسمي "شعر الحجارة" والقصائد التضامنية مع "أطفال الحجارة". إنه التسطيح الذي يأخذ القريب السهل من حالة إنسانية فيطمسها بدلا من أن يظهرها، ويسئ إليها في نفس اللحظة التي يزعم فيها أنه يمجدها. إنه الفرق الأبدي بين العمق والضحالة. إنه الفارق بين الفن وحصص الإنشاء السياسي، واللافت للنظر أن هناك كتابا فشلوا في النفاذ إلى جوهر مادتهم الشعرية حتى وهم يكتبون تجاربهم الحية". 
وفي موطن آخر من سيرته الذاتية العذبة، يقول: "السياسة تسربت إلى منمنمات النفس الجوانية منذ وقف المشروع الصهيوني يدق على زجاج نوافذنا بأظافره الحادة ثم على الأبواب التي ركلها ليدخل إلى غرف الدار كلها ويلقي بنا إلى الصحراء. لكن هذا الوضع ليس مبررا كافيا للمباشرة السياسية والانكشاف الفكري في الشعر الفلسطيني لا في داخل الوطن ولا في خارجه. ولاستغراب الجميع قلت إن الفكاهة والسخرية عنصران لابد منهما للكتابة العربية والفلسطينية".
ورؤية الأديب النابغة لمعالم خارطة طريق أدب المقاومة، رؤية صافية مبصرة لها دعائمها الفكرية وبصيرتها السياسية دون أن يرهقها ضباب الأوجاع، أو يخرسها صخب الآلام والحنين الممرض. 
حيث إن الرؤية المضمونية لأدبه ترتكز علي "الأمل" المحفز إلى "الفعل"، وسبر أغوار القضية، والوعي بمصادرها ومواردها، لذلك لم يكن أدبه قاتمًا، وقد يقرأ القارئ أدبه فيبكي قلبه متأثرًا بما يقرأ، رغم  أن أدبه ليست محاولة للندب والتوجع. 
يصف في كتابه المقالي القصصي السيرذاتي "ولدت هناك، ولدت هنا" حقيقة أزمة العدو الصهيوني الأمنية، عندما أبلغ السائق "محمود" ركاب الحافلة المتجهة إلى "أريحا" أن هناك اجتياحا صهيونيا قريبا: "لا يبد على الركاب اضطراب استثنائي من خبر الاجتياح الوشيك الذي أعلنه محمود، بل إن الراكب البدين الجالس أمامي علق متهكما: كأن الفيلم ناقصة "أكشن"! يقتلوننا "بالفرد" يوميًا، وبين فترة وأخرى يشتاقون لقتلنا "بالجملة"، المهم أنهم اجتاحونا مائة مرة بلا فائدة، أفلسوا. و"اللي بيجرب المجرب عقله مخرب". ما عندهم إلا الطخ والقتل، كل مرة يهاجموا ويطخطخوا وبيقصفوا بالطيارات وبيروحو. وبعدين؟".

وراكب آخر يصف المشروع الصهيوني: "لكن يا عمي مشروعهم مش ماشي، دولة إسرائيلية على حسابنا مش زابطة معاهم، وين بدهم يروحوا منا؟ بدهم يقتلونا كلنا؟ مشروعهم ورطهم ورطة ما إلها أول ولا آخر، هم عارفين إنهم في ورطة بتكبر سنة بعد سنة. معك حق والله إنهم أفلسوا". 
والأديب عندما يمحص الوعي الشعبي الفلسطيني المبصر، بلغته التداولية الطازجة، يتضامن معه فنيًا، وينفي عن أدبه القتامة، حيث لا يكتب من منطلق الحنين "الرخو" كما يصفه، بل من منطلق الغضب، لذلك ينفي السوداوية ويحطم البكائية، ويؤكد الصمود مع إعلام بالمشاعر السيالة والاعتراف بالألم، يقول في نصه الشعري ذا العنوان الدال -ثريا القصيد- "ولدان يصعدان جبلا": (... / والأمل / ذروة اليأس يا صاحبي / الأمل / توجع قليلا توجع كثيرا / توجع .. فإن الأمل ذاته موجع / حين لا يتبقي سواه / سنصعد هذا الجبل). ويقول عن الأمل الموجع أيضًا: "الأمل يضغط على صاحبه كما يضغط الألم".

في أدبه المقاوم يبصر لب القضية بوضوح حيث إنها معركة تكسير إرادات، حيث يحاول العدو كسر إرادته وحرمانه حقه في وطنه، وأنه لا يحن إلى الجغرافيا، وإنما الغضب لأن العدو "كسر إرادتي"، ويتفق بهذا مع مقولة الفيلسوف "ديفيد هوم" حول الحرية بأنها "القدرة على التصرف طبقا لما تحدده الإرادة". يتحدث الشاعر عندما سأله صحفي عن معنى الحنين: "أنه كسر الإرادة، بالتالى لا علاقة له برخاوة الذكرى والاستحضار". 
وفي الصفحات الأخيرة، وفقرات أخرى منثورة، من سيرته الروائية "رأيت رام الله" عرض واعي تاريخي آني، بقلم بليغ لمراحل القضية وتطورها، وأفضي منها إلى غاية الاحتلال لإخماد حيوية المجتمع الفلسطيني وإيقاف أناقة الحياة –على حد تعبيره-  وتعطيل نموه وتقدمه الطبيعي

لذلك أولى الأديب عنايته البالغة وأوقف فكره وقلمه النابة لخدمة القضية، وسعى أشد السعى لإتقان فنه، يصف كيف يعبر حالتي السعادة والتعاسة في مراحل الكتابة، حيث بدايات نصه يكتبها بالقلب ويسعد بها، ثم إذا فرغ منها بدأت رحلة المعاناة والشك وعدم اليقين بصحبه عقله الناقد، ويبدأ في التنقيح والحذف والإضافة، أو قد ينتهي الأمر بتمزيق مسودات الكتابة، فهو يكتب بممحاة كما يقول، ويوقن أن الكتابة في حقيقتها هي إعادة الكتابة. لذلك لم يكن غريبا أن يعلن قلقه الدائم وعدم اطمئنانه المبالغ فيه للكتابه، لدرجه التصريح بندمه علي نشر دواوينه الأولى، ويراها تمارين علي الكتابة.

ويعبر دائما عن هذا الشك: "قبل النشر مباشرة أفقد الحماس وأتشكك في قيمة النص الذي يوشك على الإفلات من سيطرتي ... أحب القصيدة وهي تتخلق بين أصابعي، وتتشكل صورة بعد صورة، حرفا بعد حرف. بعد ذلك يبدأ الخوف ويهرب اليقين، تنتهى عندي تلك اللحظة الراضية التي يسمونها فتنة الخالق بالمخلوق”.

أما عن صلة القضية المحورية "فلسطين" في أدبه ونظرته لقضايا الكتابة ذاتها، فتجلت في مفهومه للحظة الإضاءة، حيث يعلي جانب الحرفة والصناعة، وأعلن أكثر من مرة: "أتعامل مع القصيدة بصفتها بناء لا غناء"، وينتقد المفهوم الشائع حول "الإلهام" وشياطين الشعر، ويرى أن الشعر ليس إلهامًا بل حالة انتباه حادة بالحواس الخمس، لما يدور في عالمه الداخلي، وما يدور حوله، حيث يرى ويلاحظ ويتوقف ويندهش لما قد لا يثير دهشة الآخرين، وأن حالة الانتباه تلك هي حافز الكتابة في الأساس.

والانتباه مفردة مركزية مهيمنة في كتابات الأديب، ودال بصيرته بمعالم القضية، ومهمة الفن وضرورته وجاذبيته في خدمتها. 

فيصف الأمومة بالمنتبهة في نثر شعري عن وجه أمه المرهق الذى اكتسب حيوية مضافة بفعل الرغبة في تحدى الصعوبة والتبعثر، ويصف أخيه "مجيد" بأن له قلبا شديد الانتباه، ويصف أبناء الشهداء شباب زي الورد لهم عيون شديدة الانتباه. وهكذا .. والانتباه حاكم لتمحيص القضية والتأمل حولها، ثم هو في الأخير حافز الإبداع وقاطرة تجويده ليقدم أدبًا مجيدًا دافعًا.

وإذا كان الناقد د.مصطفى عبد الغني – الذى قدم أكثر من دراسة حول الرواية الفلسطينية- قد وصف لونا من القص –ويمكن سحب الوصف علي كتابات من ألوان أدبية أخرى- بأنه: "يظل مكشوفًا، سافرًا، لا قصدًا، بل لأنه ضعيف فنيًا، غير متملك لتقنيات السرد الفني"، وبرر ذلك: "أنه بداعي الانحياز الذي يجسد دور المثقف المثقل في العالم الثالث بقضايا كثيرة". فإن الأديب الفلسطيني "مريد" اجتاز بانتباهه الأثير الصراط المشدود مثل نصل حاد، هذا الجسر الذي يتزلزل تحت أقدام كتاب الأدب القيمي وأدب مدافعة العدواني ليسقطوا في جهنم المباشرة والصوت الزاعق.

وقد تعددت مناحي التحديث في أدب "مريد"، فنجد تخصيب الكتابة الإبداعية بالعنصر السير ذاته، فكتب قصيدة السيرة، وعبر عن التفاصيل اليومية المعيشة لجيل الشتات، والجيل المقاوم تحت سنابك الاحتلال الشرس، فتحدث عن "يوم القيامة اليومي" في سيرته، وأفرد لها فقرة خاصة. 

وتحدث شعرًا، يقول في قصيدته “مشهد يومي”: (... / ووراء النافذة / استمر المشهد اليومي: / أولاد يعدون المقاليع / وأصوات هتافات ورايات / وعسكر / يطلقون النار في زهو وفوضي / وصبي آخر يهوى شهيدًا / فوق أسفلت الطريق).

كما كتب السيرة الذاتية بمذاق روائي رائق وجذاب. ومارس التجوال في نقاط التماس بين الألوان الأدبية. فرغم أن سيرته الذاتية "رأيت رام الله" ذات أساس مرجعي خالص يؤيد ذلك عشرات الوثائق الدامغة، فقد صنفها بعض النقاد سيرة روائية. وبذلك تحولت السيرة من جانب كونها نوعًا أدبيا له سماته الخاصة إلى موقف فني تعبيري يستوعب معالم الذات والقضية الرئيسة والتجربة الحياتية المعيشة. حيث عبر الأديب عن تجربة الأوبة إلى الوطن بعد ثلاثين سنة من الإقامة في المنافي والمنابذ.

ويتكافل أيضا الموقف التعبيري الخلاق مع مفهوم التناص الثنائي (المضموني / الامتصاصي) كما وصفت بعض الدراسات الشواهد الشعبية والأدبية والدينية في نص "مريد".

والحديث عن معالم خارطة طريق الإبداع في فكر الشاعر الكبير، مبحث أظنه في تقديري يحتاج إلى الكثير من التأمل والتمحيص، لأنه يقدم أنموذجًا وافيًا ضروريًا وإرشاديًا للأدباء، وأيضًا كما يصف الأديب النابه تحقيق ما تحدث عنه ب“المثول أمام الأيام” و”الحياة داخل الوقت” وليس الجغرافيا في ذاتها. ويقدم للأديب خلاصة فكره الإبداعي عبر تثمين ما آراه "الواقعية الانطباعية"، ومفارقة "الواقعية النسخية" المباشرة، حيث الأديب يرى أنه لا يجب مفارقة قضايا الأمة، لكنه يقدمها متقنة في ثوبها الفني الرائق الأنيق، والشواهد النصيه حول موقفه الإبداعي هذا كثر، يقول “تراب الواقع أقوي من سراب النشيد”، وفي تعبير آخر هذا التراب “أقوى من سراب الأفكار المسبقة”. 
لذلك يرى مرور الأحداث عبر مرشح الأدب الفاتن، ووجدان الأدباء، يقول: “المهم هو تلك البصيرة النافذة والحساسية الخاصة التي نتلقي بها التجارب، وليس التواجد في موقع الأحداث فقط. فهذا، على أهميته، لا يكفي للفن. قلت لنفسي إن الفن متطلب. الفن طماع.”

وفي موطن آخر من سيرته: “أنني كشاعر لم أكن مقتنعا أمام نفسي إلا عندما اكتشفت بهتان المجرد والمطلق، واكتشفت دقة المجسد وصدق الحواس الخمس، ونعمة حاسة العين تحديدًا. وعندما اكتشفت عبقرية لغة الكاميرا، التي تقدم مشهدها بهمس مذهل مهما كان المشهد صاخبًا في الواقع أو في التاريخ. بذلت جهدًا كان لابد من بذله من أجل التخلص من قصيدة المجاراة من سهولة النشيد. ومن رداءة البدايات”. 
وعبر أيضا عن فكرة التعلق بالواقع والتعامل معه فنيًا عبر القصيد: (تود الخروج إلى كوكب خارج الأرض / لكن هي الأرض يا أم / ما من سواها لنا / ولنا أن نعيش هنا، هكذا، مثلنا / مثل من لاحقوه طويلًا / وما عاد من مخرج عنده

غير أن يستدير / واقفًا / في مواجهة الهول كي يتدير أمر النجاة).

وختامًا تظل تلك الخارطة التى دشنها "مريد" المفتاح الذهبي للفن المثمر الباحث عن أفق النجاة في غربات الروح العربية الكسيرة.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة