بقلم – أ.د نادر نور الدين
خرج علينا أمين عام الغرف التجارية ليقول إن الأسعار لن تنخفض إلا بعد ثلاثة أشهر مهما انخفضت أسعار الدولار! الأمر واضح وجلى بأنهم يرفعون الأسعار فى يوم ولكنهم يخفضونة فى ثلاثة وستة أشهر!
فمن بديهيات الأمن الغذائى لأى دولة أن مخزونها الاستراتيجى من الغذاء لا يقل عن ثلاثة أشهر، وبالتالى فعند تعويم الجنيه المصرى فى الثالث من نوفمبر الماضى كان لدى مصر مخزون من الأغذية يكفيها حتى شهر فبراير الجارى وهى بضاعة مشتراه بالسعر القديم للدولار البالغ وقتها أقل من تسعة جنيهات، وبالتالى كان ينبغى أن تشهد الأسواق المصرية استمرار لأسعار ما قبل التعويم لمدة ثلاثة أشهر على الأقل، إلا أن التجار قاموا برفع أسعار كل شئ وفورا بدأ من ٣ نوفمبر وما استوردوه بسعر ٨.٨٨ جنيه للدولار باعوه للشعب المصرى المستهدف بسعر ٢٠ جنيها، وبذلك تضاعفت أرباحهم غير المشروعة بنسبة ١٢٠٪ دون جهد أو زيادة استثمارات وتضاعف رأس مالهم من ربح حرام ودون رقابة ومتابعة من الدولة مثلما فعلت دولة الإمارات عام ٢٠١٠ حين منعت بيع السلع التى تم استيرادها بالأسعار القديمة بالأسعار العالية التى شهدتها أزمة ارتفاع الأسعار الشهيرة وقتها. نفس الأمر تكرر مع المصانع المصرية ومنتجاتها المحلية، فمصانع السمن البقرى المصرى غير المستورد رفعت أسعار العبوة وزن ٩٠٠ جرام من ٥٦ جنيها إلى ١٠٦ جنيهات! ولما سألنا عن السبب كان الرد لتبرير هذا الربح السهل الغشيم بأن الزبدة البقرى النيوزيلندى المستوردة وغير المخلوطة رفع المستوردون سعرها إلى ١٠٠ جنيه للكيلوجرام (رغم أنها قديمة ومستوردة بالدولار القديم وكان سعرها ٤٠ جنيهًا فقط قبل ٣ نوفمبر) وليس من المعقول أن تكون الزبدة البلدى بنصف سعر الزبدة المستوردة؟! هذا معناه أن الأسعار لا ترتبط فى مصر بتكاليف المنتح المحلى والذى يجب أن يكون متماشيًا مع أسعار المواد الخام المستخدمة فى الإنتاج، ولكن يرتبط بأسعار مثيلة المستورد الذى يكلفنا نقلا بحريا ثم تفريغ فى الموانى ثم نقل برى داخلى من الموانئ إلى جميع المحافظات والقرى والمدن، ولكن يتم تناسى كل هذا والتعامل فقط مع السعر النهائى للمنتج المستورد وأرباحة الجشعة!، رغم أن أسعار اللبن البقرى لم تتم زيادة أسعار استلامها من المزارعين الغلابة ومازالت أقل من أربعة جنيهات وليس هناك أمل فى زيادتها بأكثر من ٢٠٪ حاليا ومستقبلا، ليتم تحويله إلى عشرات المنتجات من أجبان وقشطة ورايب وزبدة وسمن ومش، ولكن المنتج النهائى يتضاعف سعره بنسبة ١٠٠٪ ليزيد من التضخم وليلهب كاهل الغلابة والفقراء بارتفاع الأسعار والحجة الجاهزة “الدولار” وغباوته وتحكمه فى أسعار كل شئ فى مصر. نفس الأمر يتكرر مع الأرز المصرى الخالص والذى لم تمر على فترة حصاده إلا ثلاثة أشهر، ومع ذلك يسير فى برنامج معد سلفا من التجار برفع أسعاره بنحو جنيه أسبوعيا وليس بأقل من جنيهين شهريا، حيث وصل سعر الكيلوجرام من الأرز المعبأ للدرجة الأولى إلى ١٣ جنيها، بينما وصل السعر السائب منه إلى عشرة جنيهات، وأرز الدرجة الثالثة الكسر لم يقل عن ثمانى جنيهات فى جشع بالغ وعدم تناسب ما بين سعر الشراء وتكاليف التعبئة وبين سعر البيع. هذا الأرز اشتراه التجار من الفلاحين فى أكتوبر الماضى بأقل من ثلاثة جنيهات ونصف للكيلوجرام للأرز الشعير، ويصل سعره بعد الضرب والتبييض والتعبئة إلى ٤.٥ جنيها ولكنهم يبعوه مابين عشرة إلى ثلاثة عشر جنيها فأى عدل وأى مستوى سعرى أو ربحى فى العالم تبلغ فيه أرباح السلع الغذائية ١٥٠٪ من تكاليف الشراء؟!. الدولة كانت السبب الأول لاحتكار الأرز وارتفاع أسعاره منذ أن أمنت لوزير قادم من غرفة التجار بأن يتولى شئون الغلابة فى مصر بعد أن قضى عمره يخطط للتجار لكيفية تعظيم أرباحهم، فكانت الطامة الكبرى بأن “كتف” الفلاحين الغلابة فى مصر للتجار وأعلن عن أسعار توريد الأرز للدولة بما لا يزيد عن ٢٤٠٠ جنيها للطن (أى ٢٤٠ قرشا للكيلوجرام) وهو رقم لا يمكن أن يقبله الفلاح أبدا، ويعلم الوزير والتجار ذلك جيدا، ولكن الغرض كان إخراج الدولة من منظومة شراء الأرز المحلى وتسليمه كاملا للتجار بمزايدتهم على الدولة برفع أسعار شرائهم للأرز من الفلاحين إلى مابين ٣٢٠٠ إلى ٣٤٠٠ جنيه للطن، بينما الدولة ممثلة فى الوزير الجديد للتموين والذى تولى الأمر بعد فضيحة فساد منظومة القمح المحلى والتى أطاحت بالوزير السابق، رفض مجاراة التجار فى الشراء من الفلاحين بنفس أسعارهم وبما لا يزيد عن ثلاثة جنيهات ونصف للكيلوجرام واكتفى فقط برفع السعر إلى ثلاثة جنيهات للكيلوجرام أى ثلاثة آلاف جنيه للطن وكأن الفلاح سيورد للدولة بالخسارة ويطعم أولاده وطنية ويضحى بنحو ألفى جنيه فى محصول فدانه من أجل أن يترك سعر التجار المرتفع ويورد بأسعار وزارة التموين المنخفضة! والنتيجة أن ذهب الأرز المصرى الفاخر كله للتجار وأعلن وزير التموين أن رصيد الوزارة من الأرز المصرى صفرا وأن مخازن الدولة خالية من الأرز المصري. أنعكس الأمر على وزارة التموين نفسها بسبب نقص المرونة وعدم الحرفية فى التعامل مع آليات السوق ومراهنة التجار على تشدد الوزير متناسيًا أن للأسواق مرونة وسرعة بديهة وحسن تصرف مع واقع شرس، فتسول من التجار توريد أرز الغلابة المقيدين على البطاقات التموينية فقدموا عروضهم فى ثلاث مناقصات متتالية بأسعار تتراوح بين ٦.٥ إلى ٨.٥ جنيه للكيلوجرام من أرز الدرجة الثالثة وشهدت مناقصات هيئة السلع التموينية رفضا للأمر لأن التجار مسيطرون تماما وليس أمام الدولة إلا الشراء منهم بسعر الإذعان هذا أو التحول إلى استيراد الأرز الهندى الأقل جودة من المصرى وبسعر واصل إلى مصر لن يقل عن ٩ جنيهات للكيلوجرام ولن يجد إقبالا من المواطنين الذين سبق أن جربوا الأرز الهندى ورفضوه ولم يتناسب مع نمط استهلاكهم للأرز والذى تعودوا عليه. هذا الأمر يوضح أن حتى المنتجات المحلية تضاعفت أسعارها بسبب زيادة أسعار المستورد وأن الأمر لم يعد يرتبط بتكاليف الإنتاج فى الظروف المصرية ولا بأسعار الخام المحلى الرخيص بل بأسعار المستورد، حيث ارتفعت أسعار اللحوم البلدية إلى ١٣٠ جنيها للكيلوجرام، لأن الدولة قامت برفع أسعار اللحوم السودانية المستوردة إلى ٧٥ جنيهًا بعد ارتفاع أسعار الدولار، وبالطبع لا يمكن أن تتساوى أو أن تقترب أسعار اللحوم المستوردة بأسعار اللحوم البلدية، ثم تضاعفت ولنفس الأسباب أسعار الدواجن المصرية ثم أسعار عبوات صلصلة الطماطم والتى تصنف مصر بأنها خامس أكبر منتج للطماطم فى العالم بنحو ٧ ملايين طن سنويا ولديها فائض كبير فى الأسواق المحلية وتقوم بتصدير وتغطية كافة احتياجات الدول العربية من الطماطم، وبما أدى إلى ارتفاع أسعار الطماطم إلى أربعة جنيهات والبصل إلى ٨ جنيهات والثوم المصرى إلى ٥٠ جنيها والمستورد إلى ١٠٠ جنيه؟! ما هذه الأسعار التى لم تشهدها مصر أبدًا فى تاريخها والتى لا تتناسب مع دخول المواطن المصرى سواء موظفًا أم عاملًا أو فلاحًا أو صاحب معاش أو “أرزقى” والتى ستصل بنا إلى أن المواطن المصرى الذى ينفق رسميا ما بين ٤٥ إلى ٦٥٪ من دخله على الغذاء فقط أصبح الآن مطالبا أن ينفق ما بين ٩٠ إلى ١٣٠٪ من دخله على الغذاء فقط وبلاها سكن ولا كهرباء ولا مياه تلهب الظهور بأسعارهما ولا كساء ولا علاج ولا تعليم، بينما يفكر البعض فى رفع المجانية عنه ليساهموا فى زيادة نسبة الأمية فى مصر ونسبة العازفين وغير القادرين على ملاحقة مصروفاته، لأن الأغنياء والطبقة المتوسطة يلحقون أبناءهم بالمدارس الخاصة والدولية ولا يلتحق بالمدارس الحكومية إلا أولاد الفقراء من الفلاحين والأرزقية والمكوجى والصنايعى والسايس وغيرهم.
أوضحت الأمم المتحدة هذا الأمر وأطلقت عليه اصطلاح الجوع الخفى Hidden Hunger أو الوجه الجديد للجوع The New Face of Hunger وهو توافر السلع الغذائية فى الأسواق وعلى أرفف محلات البقالة والسوبر ماركت، ولكن بأسعار تفوق قدرات العامة على شرائها، فتعتبر بالنسبة لهم كأنها غير موجودة! فيضطر بعضهم إلى تخفيض مشترياته منها إلى النصف بما سيظهر عليهم أعراض أمراض سوء التغذية والتقزم والنحافة والإنيميا ونقص العناصر الغذائية، مسببًا فى ظهور أجيال ضعيفة مريضة من الفقراء غير قادرة على العمل والتكسب ولا عن خدمة وطنها. هذا هو ما وصلنا إليه الآن من سيادة الجوع الخفى والغذاء على نصف بطن والاعتماد على المنتج النباتى فقط فى الغذاء، أما البروتين الحيوانى والداجنى والسمكى فلن يراه الفقراء إلا فى الأعياد الدينية والزكاة والصدقات، لأن حتى بدائل البروتين الحيوانى أصبحت مرتفعة الأسعار، فقد أصبح العدس بخمسة وعشرين جنيها والحمص بأربعين جنيها والفول بخمسة عشر جنيها، والدولة باقتصادها الضعيف غير قادرة على تحمل أكثر من عشرين جنيها للفرد كمعونة غذا على البطاقات التموينية لا تكفى إلا لشراء زجاجة زيت فقط أو كيلو سكر وكيلو أرز وكأن هذا يساهم فى دعم غذاء الفقراء لشهر كامل!.
الحل فى نظرنا يتلخص فى حتمية قيام الدولة بتحديد هامش ربح على السلع المنتجة محليا ومثيلاتها المستوردة، لأن الغذاء فى دولتنا الفقيرة جدا لا يمكن أن يتسع لجشع التجار أو لتحقيق أرباح تزيد عن ١٢٠٪ من رأس المال، وبالتالى فإن التسعيرة الاسترشادية وتدوين السلع على العبوات وقت إنتاجها أصبحا من الأمور الحتمية المطلوبة لفرض مظلة من الحماية على الفقراء الذى ارتفعت متوسطات نسبة الفقر رسميا إلى ٣٠٪ وفى الصعيد إلى ٦٠٪ وارتفع التضخم الذى يعكس ارتفاع الأسعار لأول مرة فى تاريخ مصر إلى ٣٠٪ وهو رقم مهول ينبغى العمل على تقليصه سريعا حفاظا على الاستقرار المجتمعى وفرضا للعدالة الاجتماعية.