تحقيق: بسمة أبو العزم
«رأس المال جبان».. حتى أشهر قليلة مضت كانت القاعدة تلك تحكم «سوق البيزنس»، غير أن التغيرات المتعاقبة التى شهدتها الأسواق المصرية المختلفة، على خلفية القرارات الاقتصادية التى لجأت إليها مؤخرا حكومة المهندس شريف إسماعيل، والتى يأتى فى مقدمتها قرار تحرير سعر الصرف، المعروف إعلاميا بـ»تعويم الجنيه»، أبطل مفعول تلك القاعدة، ليس هذا فحسب، لكن بمرور الأيام تحول «رأس المال» إلى لص يستحل سرقة أموال الشعب تحت مرأى ومسمع من الحكومة, فبحجة الحفاظ على رءوس الأموال من التآكل رفع التجار أسعار كافة السلع مباشرة بعد قرار «تعويم الجنيه»، محققين مكاسب بالمليارات بفضل البضائع التى تمكنوا من تخزينها فى الفترة التى سبقت القرار الصادم.
حالة الانخفاض التى أصابت العملة الصعبة «الدولار» خلال الأيام الماضية، دفعت البعض للحديث عن حتمية انخفاض الأسعار، غير أن التجار كان لهم رأى آخر، حيث اشترطوا الحصول على مهلة شهرين لتنخفض الأسعار، بحجة الخوف من تكبدهم خسائر فادحة، واكتفوا - فى الوقت ذاته، بإحداث تخفيضات لا تزيد على خمسة بالمائة من هامش أرباحهم الخيالى لتهدئة الناس فى انتظار أى ارتفاعات مستقبلية فى سعر الصرف للتنصل من وعد التخفيض .
«دائرة مفرغة» تسعى مافيا الأسواق لإقحام الشعب بها، فالحكومة - من جهتها- لا تعرف التكلفة الحقيقية لكل سلعة وهوامش أرباح المتعاملين فيها، وهو ما أتاح الفرصة الكاملة للتجار إلى استخدام الدولار والعرض والطلب كشماعة لرفع الأسعار بمعدلات تجاوزت ٣٠٠ بالمائة لبعض السلع مؤخرا، وللأسف حينما انخفض سعر الصرف للدولار، سادت حالة من الترقب ومحاولة التخلص من المخزون بأقل تخفيضات ممكنة خاصة بمجال السلع الغذائية والأجهزة الكهربائية، لتؤكد مافيا الأسواق بأنها سلع أساسية لن يستطيع الشعب التنازل عنها فهو مجبر على الشراء مهما ارتفع السعر .
أما السلع الكمالية، فكانت صاحبة النصيب الأكبر من الانخفاض لتنشيط حركة البيع، فقد بدأ قطاع السيارات بتقديم تخفيضات على السيارات موديل ٢٠١٧ تتراوح بين ١٠ إلى ٨٠ ألف جنيه للتخلص من المخزون لديهم وشراء موديلات ٢٠١٨ خاصة أن حالة الركود ضربت مبيعات السيارات بقوة .
وشهدت أيضا أسعار الذهب انخفاضا هى الأخرى، وصل إلى ٧٠ جنيها بالجرام فكما يقول رفيق عباسى، رئيس شعبة المشغولات الذهبية باتحاد الصناعات: أسعار الذهب عالميا ارتفعت بشكل طفيف بمعدل ٥٠ دولارا بالأوقية فوصل سعرها إلى ألف و٢٤٠ دولارا، لكن انخفاض الدولار محليا كان أقوى، وبالتالى انخفض سعر الذهب محليا من ٦٣٠ جنيها إلى ٥٤٨ جنيها بما يعادل ٨٢ جنيها، وللأسف لم تتأثر حركة البيع لمشغولات الزينة، لكننا شهدنا خلال الأيام القليلة الماضية زيادة معدلات البيع من السبائك، فالمضاربون ومكتنزو الذهب تخلصوا من كميات كبيرة خوفا من حدوث مزيد من الانخفاض.
«للسلع الغذائية موقف مختلف».. هذا ما أكده يحيى كاسب، «رئيس شعبة تجار المواد الغذائية بغرفة الجيزة التجارية»، وأكمل بقوله: القطاع التجارى يشهد حالة ترقب وقلق فنحن كتجار تجزئة مجرد وسيط بين المورد أو المنتج وبين المستهلك، فأى تخفيض يرد إلينا من الشركات سنقوم بتفعيله مباشرة .
«كاسب» أوضح أيضا أن موردى السلع الغذائية يسعون حاليا للتخلص مما لديهم من كميات بالمخازن بالسعر الغالى فلم يطرحوا تخفيضات، بل يتم تقديم تسهيلات أهمها البيع بالآجل فتقوم الشركات والمصانع بالسماح بتأجيل سداد قيمة البضائع لمدة أسبوع فأكثر وتوفير أى كميات يطلبها البقال وعلى رأس هذه السلع الزيت وهو السلعة الوحيدة تقريبا التى انخفض سعرها بمعدل ٥ بالمائة بما يعادل نصف جنيه للزجاجة, أما الأرز فرغم عدم ارتباطه بالدولار، إلا أن سعر الطن انخفض بنحو مائة جنيه، وبالطبع الرقم غير مؤثر ولن يصل إلى المستهلك وسيشعر به تاجر التجزئة فقط .
فى ذات السياق، قال محمد شكرى، رئيس غرفة الصناعات الغذائية باتحاد الصناعات: أسعار السلع لن تنخفض قبل شهرين بشرط ثبات سعر الدولار, فدورة الصناعة فى مصر تتراوح بين شهرين حتى ثلاثة أشهر، خاصة أن ٦٠ بالمائة من احتياجاتنا الغذائية نستوردها من الخارج ومنها الزيوت واللحوم والأسماك وغيرها من السلع, فالبضائع المتاحة بالأسواق حاليا تم شحنها ودفع تكلفتها بالدولار منذ ٦٠ يوما حتى وصلت إلى مصر من ماليزيا وأمريكا وأوربا حينما كان سعر الدولار يتجاوز ١٨ جنيها، وبالتالى لا يمكن أن نخسر ونخفض الأسعار مباشرة فلا بديل عن استكمال دورة الإنتاج .
ومن جهته أكد فتحى الطحاوى «مستورد»، نائب رئيس شعبة تجار الأدوات المنزلية بغرفة القاهرة التجارية أن انخفاض الأسعار ليس بالأمر السهل فهناك فارق بين النزول والصعود, معترفا باتجاه التجار لرفع أسعار السلع مباشرة بعد ارتفاع سعر الدولار دون انتظار اكتمال دورة الإنتاج حفاظا على رأس المال من التآكل، وقال: مخزون القيمة للمستورد أو التاجر لم يعد الجنيه المصرى بل إما بضائع أو ما يعادل قيمتها بالدولار، وبالتالى بيع المخزون بالسعر المنخفض واستيرادنا للخامات والبضائع بأسعار أعلى يقلل من حجم البضائع لدينا وبالتبعية يقلل مكاسبنا, إضافة إلى ذلك اضطررنا لرفع هوامش أرباحنا على السلع تحت بند تكلفة غير مباشرة، نظرا لانخفاض الطلب وحالة الركود بالأسواق أيضا لنستطيع الإنفاق على شركاتنا وعمالنا وأسرنا لمواكبة ارتفاع تكاليف المعيشة .
«الطحاوى» واصل حديثه بقوله: أسعار الأجهزة الكهربائية والأدوات المنزلية انخفضت حاليا بمعدل يتراوح بين ٧ إلى ١٠ بالمائة بعد مبادرة توافقنا عليها كتجار، وهذا التخفيض من أصل هامش أرباحنا ولن تتكرر انخفاضات أخرى إلا إذا استقر سعر الدولار على السعر المنخفض لمدة لا تقل عن أسبوعين يليها نحو شهرين، مدة دورة الإنتاج والاستيراد.
وحول الحلول المناسبة والواقعية للتخلص أو السيطرة على أزمة الغلاء، قال نائب رئيس شعبة الأدوات المنزلية: هناك حلول أخرى لأزمة الغلاء، فانخفاض الدولار يتطلب وقتا لنشعر بنتائجه لكن هناك حلولا سريعة، أولها إلغاء قرار الفحص المسبق رقم ٩٩١ وتداول المستندات من بنك إلى بنك بما يوفر نحو ٥.٣ مليار دولار يتم إنفاقها لإنهاء أوراق ٣,٥ مليون حاوية مستوردة سنويا، وللأسف كل الدولارات نسحبها من السوق السوداء لإرسالها للدول الموردة، فالحكومة لا تستفيد منها وبالطبع تلك الأموال نضطر لتحميلها على المستهلك, أيضا تعنت وزارة الصناعة والتجارة الخارجية فى تطبيق قرار ٤٣ وتعطيل تسجيل المصانع تسبب فى نقص المعروض من السلع وبالتالى ارتفاع السعر .
وأضاف: انخفاض الأسعار لن يتم مرة واحدة بل سنشهد انخفاضا تدريجيا فـ»دورة بلع» الأسعار الزائدة تتطلب ستة أشهر لتنخفض الأسعار بمعدل ٢٠ بالمائة وهى تعادل ما فقده الدولار خلال الأسبوعين الماضيين.
على صعيد آخر قال أحمد شيحة، رئيس شعبة المستوردين بغرفة القاهرة التجارية: ثبات الأسعار وعدم انخفاضها يرجع لوجود مجموعة من المحتكرين الذين يتحكمون فى حنفية الأسعار وليس من مصلحتهم التخفيض، فهناك مجموعة من اللصوص سرقوا أموال الشعب حيث تربحوا بالمليارات عقب قرار التعويم، ولا يرغبون فى التخفيض حاليا رغم انخفاض سعر الدولار الرسمى والجمركى , وللأسف عناصر هذه المافيا لا يتجاوز عددهم ١٠٠ شخص وجميعهم من كبار الصناع والمستوردين، فكل صاحب مصنع هو مستورد فى المقام الأول وبالتالى تكاليف الإنتاج فى أيديهم من البداية حتى النهاية, وللأسف الارتفاعات السابقة لم تتوازى مع نفس معدلات ارتفاع الدولار والذى زاد بمعدل ١١٠ بالمائة، فى حين ارتفعت العديد من السلع بمعدلات تجاوزت ٣٠٠ بالمائة خاصة الأجهزة الكهربائية .
«شيحة» أكمل قائلا: البضائع التى دخلت الأسواق بعد تخفيض قيمة الدولار الجمركى إلى ١٦ جنيها يجب أن تنخفض أسعارها فى الأسواق ويظهر ذلك خلال عشرة أيام من الآن والانخفاض يتناسب مع معدل تراجع الدولار الجمركى ونسبته ١١ بالمائة من التكلفة الجمركية لكل سلعة وعدم الالتزام بتلك التخفيضات دليل على جشع المحتكرين .
من جهتها قالت د. يمن الحماقى، أستاذ الاقتصاد بجامعة عين شمس: التجار استغلوا الشعب فى ظل انعدام الرقابة الحكومية، فهناك ازدواجية فى المعايير لدى التجار فكيف يتعاملون مع نفس الحالة بأسلوبين مختلفين، فحينما يرتفع الدولار يرفعون الأسعار مباشرة، أما حينما يهبط سعره ينتظرون اكتمال دورة الإنتاج, فلا توجد دولة فى العالم تتعامل بهذه العشوائية فإذا تعرض سعر العملة فى أى دولة للتذبذب تتم محاسبة البضائع المخزنة لديهم بالسعر القديم، وبالتالى من الناحية الاقتصادية لم يكن رفع الأسعار مباشرة عقب التعويم إجراء صحيحا اقتصاديا، لكن حاليا ليس أمامنا سوى الانتظار لمدة تتراوح بين شهرين إلى ثلاثة أشهر لنشعر بانخفاض حقيقى فى الأسعار بعد اكتمال دورة الإنتاج .
«د. يمن» طالبت بضرورة طباعة الأسعار على السلع كافة وبالتالى نتلافى ألاعيب التجار, مشددة على سرعة تعديل قوانين حماية المستهلك وحماية المنافسة ومنع الاحتكار وتغليظ العقوبات للمتلاعبين فى الأسعار، موكدة أنه يجب إعادة النظر فى منظومة التجارة الداخلية وكفاءة الأسواق .
فى حين اعتبر د. رشاد عبده، الخبير الاقتصادى وعد المنتجين والتجار بخفض الأسعار بعد شهرين بمثابة حيلة حتى يعاود الدولار فى الارتفاع من جديد، وبالتالى يتبخر حلم انخفاض الأسعار من جديد .
وتقدم د.عبده بمجموعة من الحلول لإعادة الاستقرار للأسواق وتخفيض الأسعار أهمها احترام الحكومة لنفسها وشعبها، وسرعة تفعيل قرار مجلس الوزراء بوضع هامش ربح لكل سلعة, ثانيا خلق دور منافس للقطاع الخاص فهناك تعليمات رئاسية بتوفير ١,٨ مليار دولار لوزارة التموين لتوفير احتياطى استراتيجى من السلع، وبالتالى على وزارة التموين استيراد السلع وبيعها بالمجمعات الاستهلاكية والسرادقات والمنافذ المتنقلة بعد حصولها على هامش ربح محدود خاصة السلع الأساسية بما يجبر كبار التجار على تخفيض أسعارهم, أيضا هناك دور مرتقب لوزارة التموين فعليها إلغاء دور الوسيط الجشع واستخدام أسطول السيارات لديها للتعاقد مباشرة مع الفلاحين بالمزارع للبيع فى المناطق الشعبية بأسعار مخفضة وبالتالى تنخفض أسعار الخضر والفاكهة مباشرة.