الإثنين 27 مايو 2024

بعد لقاء ترامب ونتنياهو.. فلسطين بين وهم الحل الإقليمى والدولة المسخ

22-2-2017 | 13:45

بقلم –  د. حسن أبوطالب

معروف أن الرئيس الأمريكى ترامب أثناء حملته الانتخابية عبر مرارا وتكررا عن تأييده المطلق للدولة الإسرائيلية الصهيونية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة باعتبارها دولة مهمة ويفخر بدعمها ومساندتها بلا حدود، وواعدا إياها بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس لتكريسها عاصمة أبدية لإسرائيل على حساب حقوق العرب والمسلمين فيها.

 

 

وطوال حملته لم يذكر كلمة طيبة واحدة عن الفلسطينيين، بل اعتبرهم خطرا على أمن دولته المحبوبة والمحاطة بالأعداء حسب قناعاته، الأمر الذى كان يُنذر بانقلاب كامل على السياسة الأمريكية التقليدية التى رفعت مقولات وخيارات ظاهرها تأييد نسبى لحقوق الشعب الفلسطيني فى دولة مستقلة، وجوهرها حماية إسرائيل والتلاعب بالحقوق الفلسطينية من خلال إدارة الصراع والتفنن فى تأجيل الالتزامات الواردة فى اتفاقات أوسلو الموقعة فى سبتمبر ١٩٩٣، فى الآن ذاته التمسك بأمن إسرائيل وتفوقها على كافة جيرانها وعدم الضغط عليها بأى صورة كانت.

انقلاب الرئيس ترامب تجاه القضية الفلسطينية كان متوقعا ولا يمثل مفاجأة، وهذا هو الجانب الإيجابى أنه كشف عن عجز الولايات المتحدة عن استيعاب قناعات الشعوب العربية والمسلمة ومدى تمسكهم بحقوقهم مهما كانت الصعوبات والعقبات أمامهم. ومع ذلك كان هناك بعض أمل لدى المتمسكين بنهج التفاوض السلمى فى أن تكون مقولات الحملة الانتخابية لترامب مجرد شعارات لكسب الأصوات، وأن دخول البيت الأبيض وتحمل مسئولية صنع القرار وتحديد السياسات التى تراعى الوقائع على الأرض والمصالح القريبة والبعيدة على السواء قد تدفع الرجل الى إعادة النظر فى الوعود الانتخابية الصارخة، وتقديم رؤية مسئولة بشأن حل الصراع العربى الإسرائيلى وفى القلب منه القضية الفلسطينية، لكن الرجل أثبت أن شعاراته الجوفاء هى قناعاته الصارخة سواء توافقت أو لم تتوافق مع القانون الأمريكي أو المصالح العليا للدولة الأمريكية بما فى ذلك روابطها الاستراتيجية الرئيسية مع حلفائها فى مواقع العالم المختلفة.

تصورات إسرائيلية مجنونة

بالنسبة للقضية الفلسطينية وجوهرها الحالى المتمثل فى كيف يمكن تأمين مفاوضات جادة فى مدى زمنى معقول لتطبيق القرارات الدولية والتفاهمات الكبرى التى ترسخت طوال عقدين ونصف حول حل الدولتين كنوع من التسوية التاريخية المتضمنة تنازلات متبادلة، فلم يمر سوى ثلاثة أسابيع على استلام الرئيس ترامب السلطة رسميا، وإذا به يُقابل رئيس وزراء الكيان الإسرائيلى لقاء دافئا فى البيت الأبيض، ويخرج بعده ليكشف عن ملامح سياسة أمريكية جديدة قوامها نسف حل الدولتين أو على الأقل عدم التقيد به كحل وحيد، وتخلى إدارته عن لعب دور مباشر فى المفاوضات، والتبشير بحل ستؤيده إدارته شرط أن يقبله الطرفان الإسرائيلى والفلسطيني بعد أن يتخلى عن بث الكراهية ضد الإسرائيليين حسب أقواله، وأن يكون مدعوما بتأييد أو غطاء إقليمى، مع نصيحة خفيفة للصديق القادم من تل أبيب بأن يتريث قليلا فى النشاط الاستيطانى.

المواقف التى عبر عنها الرئيس ترامب تضع القضية الفلسطينية أمام واقع دولى وإقليمى جديد، وهو ما عبرت عنه المندوبة الأمريكية فى الأمم المتحدة نيكى هايلى بقولها أن بلادها ما زالت تؤيد حل الدولتين ولكنها تفكر خارج الصندوق. ومعنى العبارة أن حل الدولتين ليس سوى مجرد صيغة مطروحة، وأن هناك صيغًا أخرى يمكن التفكير فيها، دون أن تحدد هذه الصيغة أو الصيغ الأخرى. وهو ما يعنى أن الأمر مفتوح على مشاهد وسيناريوهات متعددة، منها أن تكون هناك دولة فلسطينية وصفها نتنياهو بأنها دولة ناقصة، أى بلا سيادة ولا أمن ومحدودة جغرافيا ولا علاقة لها بالقدس من قريب أو بعيد، وتقبل ضمنيا بطرد الفلسطينيين المقيمين فى إسرائيل وحاملى جنسيتها باعتبارهم دخلاء على الدولة اليهودية النقية، وفى كل الأحوال على هذا المسخ أن يعترف بأن إسرائيل دولة يهودية خالصة. وأن يكون الأمن ما بين البحر إلى نهر الأردن مسئولية خالصة للدولة اليهودية.

ومن الأفكار المتداولة إسرائيليا أن تُعطى للسلطة الفلسطينية حق إدارة شئون السكان الفلسطينيين فى أماكنهم الراهنة وهى فى حدود ٤٠٪ من مساحة الضفة الغربية، دون التطلع إلى مزيد من أراضى الضفة التى تشكل ٦٠٪ ويستوطن فيها أكثر من ٨٠٠ ألف يهودى محتل، وقبول ضمها إلى إسرائيل، على أن يدخل هذا الكيان الوهمى فى كونفيدرالية إما مع الأردن أو مع إسرائيل. ومن المطروح أيضا أن يتم تبادل سكانى بين نسبة من المستوطنين فى الضفة الغربية مع الفلسطينيين العرب حاملى الجنسية الإسرائيلية، كنوع من التطهير العرقى بحجة ضمان نقاء الدولة اليهودية.

ويلاحظ هنا أن مثل هذه الصيغ غير المنطقية والتى لا يقبلها عاقل هى محاولة إسرائيلية للالتفاف على البديل المنطقى لنهاية حل الدولتين؛ أى بديل دولة واحدة ثنائية القومية، ديمقراطية، وتضمن حقوق كل من يحمل جنسيتها من اليهود والمسلمين والمسحيين. وهو البديل الذى يعنى حال تحققه نهاية حتمية لدولة الاحتلال الاستيطانى ذات اللون الدينى الواحد. ولذا ستستمر إسرائيل ونتنياهو ورموز اليمن كنوع من الخداع فى استخدام لفظة الدولة شكلا، ولكن دون مضمون الدولة فعلا.

ومن المنظور اليمينى الإسرائيلى السائد فإن الدولة العبرية لديها فرصة تاريخية قد لا تتكرر لاحقا، وهى فرصة تمزج بين تشرذم وتفكك العالم العربى الذى يسوده القلق على الحاضر والمستقبل معا وبما يجعله قابلا للتطويع للطموحات الإسرائيلية، وبين وجود إدارة أمريكية تؤمن بحق إسرائيل فى الهيمنة على مقدرات المنطقة ومستعدة لفعل كل ما يمكن فعله من أجل تحقيق هذه الطموحات.

المظلة الإقليمية الموهومة

ويفترض وفق تفكير الرئيس ترامب وصديقه نتنياهو أن أى صيغة لدولة أو لمسمى دولة فلسطينية أو كيان فلسطينى وهمى مندمج مع الأردن أو إسرائيل أن تكون تحت مظلة إقليمية أو برعاية إقليمية مباشرة تضمن التزام الفلسطينيين بما سيتم التوصل إليه، وهو ما يمكن فهمه بأن البيت الأبيض يرى أن أى حل يمكن التوصل إليه سواء بمفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين يجب أن يكون بدون شروط مسبقة وبدون التزام بقرارات دولية. أو من خلال تحرك إقليمى تدعمه الولايات المتحدة يستند إلى تأييد وضمانات من القوى الإقليمية الرئيسة ذات الصلة بأطراف الصراع، وهى مصر والأردن وتركيا والسعودية. وهى نفسها الأطراف التى يتردد فى الإعلام الأمريكى أنها القوى الرئيسة فى أى نظام أمن إقليمى قد يسعى ترامب لتشكيله من أجل عزل إيران كمرحلة أولى ومواجهتها فى مرحلة ثانية.

وهنا نلاحظ التداخل والتشابك بين حل القضية الفلسطينية أو بالأحرى تصفيتها تاريخيا، وبين بناء منظومة أمن إقليمية برعاية أمريكية يكون هدفها محاصرة النفوذين الروسى والإيرانى. ووفقا لتصريحات ترامب نفسه والطموحة فى المؤتمر الصحفى مع رئيس وزراء الكيان الإسرائيلى ١٥ فبراير الجارى فإنه يسعى إلى سلام شامل يضم أكبر عدد من الدول وهو سلام سيفوق تخيل الحاضرين فى المؤتمر حسب قوله.

مظلة إقليمية وباب للتطبيع

المظلة الإقليمية بهذا الشكل تعنى فى الأول والأخير بوابة لنيل دعم العالمين العربى والإسلامى لأى اتفاق محتمل فلسطينى إسرائيلى، بما فى ذلك بوابة لتطبيع رسمى وشامل بين العرب والدولة الإسرائيلية، كما تعنى تغيير موازين القوى الخاصة بالمفاوضات ذاتها. فمن شأن وجود هذه المظلة الإقليمية أن تكون المشاركة الفلسطينية ذات طابع معنوى أكثر منها طابع فعلى، وأن تكون الكلمة النافذة هى للقوى الإقليمية التى ستضع يدها فى يد إسرائيل لمواجهة النفوذ الإيرانى على حساب الفلسطينيين وحقوقهم التاريخية. وبمعنى آخر أن إسرائيل تسعى إلى توظيف عداء بعض القوى الإقليمية والعربية لإيران لكى تحصل على مقابل كبير يتعلق بالتخلى عن القضية الفلسطينية وتصفيتها بقبول عربى وإقليمى. وهو أمر موهوم ولا علاقة له بالواقع العربى مهما كان مُعرضا للضغوط.

والمؤكد أن وجود أى مظلة إقليمية – إذا ما حدث ذلك وهو أمر مشكوك فيه أصلا - تدعم أى اتفاق فلسطينى إسرائيلى سوف تمثل نقطة تحول فى طبيعة الصراع، وليس بالضرورة تصفيته كما يأمل نتنياهو وترامب وبعض مؤيدى منهج التسوية. فالطرف الفلسطينى المفترض أنه سيفاوض وقد يقبل الطرح الإسرائيلى المدعوم إقليميا لابد أن يكون ذا كلمة نافذة على الشعب الفلسطينى وهو أمر لا تستطيعه السلطة الفلسطينية مهما كانت الضغوط عليها ومهما كان وضعها الراهن ضعيفا ومفككا. فضلا عن أنها ترفض الطرح الإسرائيلى جملة وتفصيلا، وما زالت تتمسك وبدعم عربى واضح ودعم إسلامى بخيار حل الدولتين مع إدراك تام للصعوبات التى تحيط به خاصة فى ضوء استمرار الاستيطان الصهيونى فى أجزاء كبيرة من الضفة الغربية.

وبالقطع لن تقبل القوى الفلسطينية الأخرى مثل هذا الطرح الإقليمى الرهيب، سواء كانت حماس أو الجهاد الإسلامى أو الحركة الشعبية أو غيرهم. وبالتالى ليس هناك مفاوض فلسطينى يمثل الطرف الآخر المطلوب منه التوقيع على تصفية القضية الفلسطينية بهذا الشكل الساذج سياسيا وإستراتيجيا.

عقدة القوى الإقليمية

غياب الطرف الفلسطينى الذى يقبل حلا وهميا جوهره تصفية القضية ولا يستطيع أن يُسوقه فلسطينيا أو عربيا وإسلاميا ليس هو العقدة الوحيدة فى مثل هذه الأطروحات الإسرائيلية الاستعمارية الساذجة والمفضوحة، فهناك عقدة أخرى أكبر، فالقوى الإقليمية المرشحة أن تكون الجسر الذى تنتحر فوقه القضية الفلسطينية ليست أقل وطنية وعروبة أو إسلامية من الفلسطينيين، ولا أتصور أن دولة كمصر أو السعودية أو الأردن يمكنها أن تقبل من حيث المبدأ التنازل الصريح والتاريخى عن القدس الشرقية بما فيها من مقدسات إسلامية ومسيحية لصالح إسرائيل. فمن جانب أول فإن التمسك بحقوق الفلسطينيين بحدها الأدنى ووفق الصيغة العربية الجماعية وهى دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية يمثل بُعدا أساسيا من شرعية النظم الحاكمة لهذه الدول وغيرها، ولا يُتصور أن هناك من يمكنه التفريط بسهولة فى بُعد مهم من شرعيته نظير الحصول على وعود إسرائيلية لا قيمة لها. ولا يُتصور فى ضوء حالة الوعى السياسى المتنامية لدى الشعوب العربية بدون استثناء أن هناك دولة عربية يمكنها أن تُسوق هذه الصيغة المُذلة والمُهينة لشعبها فى الداخل أو لعموم الشعوب العربية والإسلامية.

ومن جانب ثان، وكما هو معروف هناك تباينات بين هذه القوى الإقليمية الرئيسة عربيا وشرق أوسطيا حول العديد من القضايا المهمة والأزمات الكبرى فى إقليم الشرق الأوسط، ومهما يُقال عن الحاجة إلى تحالف سنى تؤيده واشنطن وتشارك فيه إسرائيل ولو من وراء ستار لردع إيران، فإن هذه الدول ليست مستعدة بعد للقفز على كل خلافاتها من أجل صيغة إقليمية استعمارية فاشلة بكل المقاييس. فإيران ستظل رغم الخلافات العميقة معها دولة أصيلة فى الإقليم وذات نفوذ معنوى وسياسى لدى قطاعات من شعوب المطنقة، ويمكن التحاور معه بكل الطرق والأشكال، وذلك على عكس الدولة الاستعمارية الاستيطانية المحتلة لأرض فلسطين.

فضلا عن أن كل دولة تدرك بعمق أنها أعجز من أن تكون مجرد ضامن لاتفاق لا يتضمن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى وفى المقدمة دولة ذات سيادة قابلة للعيش وتسيطر على مواردها وعاصمتها القدس الشرقية. والمؤكد فى ضوء الضغوط الشعبية المتوقعة فإن أيا من هذه القوى الإقليمية لا يمكنه أن يقبل دور الضامن لاتفاق لن يقبله الفلسطينيون أو العرب أو المسلمون مهما كانت الإغراءات الأمريكية له أو الضغوط عليه. ومنبع التأكيد هنا موصول بأن أى حل لا يرتضيه الفلسطينيون عن بكرة أبيهم أو غالبيتهم العظمى ويحقق لهم الحد الأدنى من الحقوق القومية والإنسانية، سيكون من المستحيل على أى طرف أن يسوقه لدى الرأى العام الداخلى لديه.

وتلك نقطة جوهرية لا يدركها الرئيس ترامب جيدا ويتصور ببساطة أنه يمكن من خلال الضغوط على الحكومات أن تقبل أى اتفاق. ويغيب على ترامب وكثير من الأمريكيين وكل الإسرائيليين أن حل الدولتين ذاته بالصورة التى يطمح إليها القطاع الأكبر من الفلسطينيين مرهون بتسوية وضع القدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية المأمولة، وأن أى صيغة لدولة أو كيان فلسطينى أقل من دولة وبلا سيادة فلسطينية على القدس الشرقية لن يعتبر إنهاء للصراع، بل بداية جولة جديدة منه، تماما مثل ما يدور الآن فى الساحة الفلسطينية والعربية بأن تخلى الولايات المتحدة عن حل الدولتين يعنى دخول المنطقة كلها فى دوامة لا يعلم منتهاها إلا الله سبحانه وتعالى.