السبت 18 مايو 2024

«الطنطورية» لرضوى عاشور وجماليات الكتابة السردية عن المكان الأثير

الدكتور أحمـد فـؤاد

ثقافة28-12-2023 | 16:53

أد. أحمـد فـؤاد

يشغل (المكان الأثير) حيزًا كبيرًا من اهتمام الكُتَّاب في نصوصهم السردية، ويرتبط ذلك بالطبع بما يكون لهذا الحضور المكاني من ارتباط عاطفي ومعرفي وفكري وتاريخي في وجدانهم وأذهانهم ومخيلاتهم، هم والقراء والنقاد الذين ينتمون لبيئاتهم المكانية وهوياتهم الثقافية، ويأسرهم جميعًا المكان المؤثِّر في نفوسهم، والمقرَّب إلى ذاكرتهم المعرفية، والمرتبط بواقعهم الحالي ومستقبلهم المنشود.

تتنوع النصوص الروائية التي أبدعها الكُتَّاب عبر الزمن في ذلك بين نمطين، نمط يحتفي أكثر بالتعاطف الوجداني والذاكرة التاريخية والمضامين المعرفية والرؤى الواقعية والأحلام المستقبلية بصورة أكثر مباشرة، وربما أكثر تقريرية وخطابية، ونمط آخر يحتفي بكل ذلك، ولكن من وراء تماسك فني وتقنيات جمالية وأسلوبية، تجعلنا أمام نص سردي جمالي يقدم الإحساس والمعرفة والواقع والمستقبل عن طريق الإيحاء الفني وحده، ولا يخفى أمام القارئ أن النمط الثاني هو الأجدر فنيًّا على إعادة طرح القضايا المتصلة بالمكان الأثير طرحًا أدبيًّا فريدًا والإيحاء بأفكار ومضامين وإحساسات كامنة وراء الحكي والوصف والحوار بين شخصيات العمل السردي.

في هذا الإطار يجدر بنا في هذا المقال مناقشة رواية (الطنطورية) للكاتبة الكبيرة الراحلة رضوى عاشور ( 1946م – 2014م)، باعتبارها أولاً من النصوص السردية التي كانت (فلسطين) الحبيبة محورا لها، ودارت أحداثها حول الحقوق الفلسطينية المشروعة والمقاومة والنضال والصراع من أجل عودة المُهجَّرين إلى الوطن وعودة الحقوق لأصحابها، وغيرها من القضايا الأثيرة حول مكان أثير في وجدان كل عربي، وذاكرته المعرفية والتاريخية، وباعتبارها ثانيًا ممثلة للنمط الثاني الذي يعد نموذجًا واضحًا للنصوص السردية الجمالية التي لا تطغى فيها المضامين الواقعية والأحاسيس الوجدانية حول المكان الأثير على أفق التخيُّل المتوقع في النص السردي ووسائله الجمالية والأسلوبية المنشودة.

عُرفت الدكتورة رضوى عاشور بأنها ذات مشروع إبداعي متكامل (وطنيًّا وتاريخيًّا وإنسانيًّا)، وهي زوجة الأديب الفلسطيني الكبير مريد البرغوثي، ووالدة الشاعر تميم البرغوثي، ولها أعمال روائية على قدر كبير من الأهمية من حيث توظيف التراث التاريخي توظيفًا فنيًّا وواقعيًّا، مثل (ثلاثية غرناطة).

وتعد (الطنطورية) آخر إبداعات رضوى عاشور الروائية، وعلى الرغم من صدورها في عام 2010 م، فستظل من الإبداعات السردية المهمة حول القضية الفلسطينية، بفضل إحكام كتابتها فنيًّا واحتوائها على كثير من التقنيات الجمالية والتعبيرية عبر مستويات السارد والحبكة والأسلوب، ويمكن مناقشة هذه التقنيات تفصيلاً في هذا المقال.

تدور أحداث الرواية في قرية (الطنطورة) الواقعة على الساحل الفلسطيني جنوب (حيفا)، والتي تعرَّض أهلها في الواقع التاريخي لمذبحة وحشية، قُتل على إثرها المئات، وتشرَّد مثلهم وتم تهجيرهم خارج أرضهم، بعد أن كانوا يعيشون في سكون وراحة بال.

تُقدم الرواية بذلك معاناة الشعب الفلسطيني ونضاله، وتُجسِّد ذلك من خلال تصوير حياة إحدى العائلات الفلسطينية المهجَّرة من هذه القرية، وتضطر (رقية) - الشخصية المحورية في الرواية – إلى الهجرة مع أهلها بعد استشهاد والدها وشقيقيها في هذه المجزرة الوحشية؛ لتبدأ رحلة المعاناة والنضال مع عائلتها، عبر مدن عربية كثيرة، بدءًا من الخليل إلى عمان إلى صيدا إلى بيروت إلى أبو ظبي إلى الإسكندرية، ثم تكون النهاية في الجنوب اللبناني المحرَّر من الاحتلال الصهيوني؛ حيث تتجمع أسرة (رقية) في النهاية للاحتفال بزواج ابنها (حسن)، بعد أن تبعثرت شتات الأسرة في أماكن كثيرة.

وتنتهي الرواية بمشهد لقاء الابن والأم والحفيد، وتعطي الأم لرقية التي كبرت وأصبح عمرها سبعًا وسبعين عامًا، مفتاحًا لباب بيتها في قرية (الطنطورة)، رمزًا للأمل الذي لا ينقطع، والعزيمة التي لا تنتهي، وضرورة العودة إلى الدار المغتصبة والأرض المحتلة، مهما طال الأمد، فالحقوق لا تسقط بالتقادم ولا بسياسة الأمر الواقع.

السارد في هذه الرواية هو البطلة (رقية)، وهي بذلك الساردة / البطلة / المعلِّقة على الأحداث / المُقيَّمة لكل تفاصيل المشهد، ومن وراء كل ذلك المؤلفة بطبيعة الحال، ويقتنع القارئ بحكاياتها المأساوية المهولة التي تُفجِّر الكثير من المواقف الإنسانية الشاهدة على ما تعرضت له من أهوال، ومحاولتها الحفاظ على هويتها العربية / الفلسطينية رغم كل ذلك.

وكل ذلك يمثل لونًا من ألوان التماهي البارعة بين السارد / البطل / المؤلف، في سبيل إقناع القارئ العربي الواثق من صدق ما يتابع من حكايات سردية واقعية أو متخيَّلة، والرواية بذلك تأخذ شكل السيرة الذاتية التي تقدِّمها البطلة عن معاناتها الشخصية، باعتبارها نموذجًا لكثير من أبناء الشعب الفلسطيني المقهورين/ المناضلين، من أجل تأكيد حقوقهم المشروعة في الحياة والعودة إلى أرضهم المغتصبة.

ولعل اختيار ضمير المتكلم على هذا النحو ضميرًا للسرد الحكائي والوصفي في الرواية، مناسب تمامًا لتسليط الأضواء على المجزرة الوحشية التي حدثت في هذه القرية، وما صاحبها من عنف وتدمير وقسوة مفرطة واعتداءات متكررة على شعب أعزل، وكذلك تسليط الأضواء على مجازر أخرى لا تقل وحشية، مثل مجزرة صبرا وشاتيلا، والتي استشهد فيها زوج (رقية)، طبقًا لأحداث الرواية.

 وبذلك يتضح كيف استطاعت (رضوى عاشور) الاستفادة من هذه التقنية السردية في الحكي الذاتي للبطلة، وإن شئنا القول البوح الذاتي على لسانها لكل الأحداث المأساوية المتخيلة التي تجسَّدت أمامنا من خلال متابعة النص الروائي، وهي أحداث متخيلة لا تختلف ضراوة وفداحة عما نشاهده يوميًّا أمام شاشات التلفاز أو من خلال ما يرويه المراسلون الصحفيون ويحدث واقعًا على مرأى ومشهد من الجميع.

وإذا انتقلنا لعنصر جمالي ثانٍ يميز (الطنطورية) فسنجده يتمثل في إحكام الحبكة أو ما يُطلِق عليه النقاد (المبنى الحكائي).

فهناك عنصران أساسييان في الحكايات السردية المتضمنة في أي عمل روائي، المتن الحكائي والمبنى الحكائي، يتمثل الأول في مجموع الأحداث المتصلة فيما بينها والتي تكون مادة أولية للحكاية، بينما يختص الثاني بنظام ظهور هذه الأحداث في الحكي ذاته، والتي لا تتقيَّد بالترتيب الزمني والحدثي للقصة، كما جرت في الواقع، ويكون المتن الحكائي بذلك مرادفًا لأحداث القصة كما تقع في الواقع تقريبًا، أما المبنى الحكائي فهو ما يُطلق عليه (الحبكة الحكائية) التي لا تلتزم إلا بالمنطق الفني الخاص بالرواية.

وتكمن قدرة منتج النص بالطبع في مدى إحكام المبنى الحكائي لنصه السردي، وتحقيقه تناغمًا مع المتن الحكائي، وهو ما استطاعت رضوى عاشور تقديمه في حبكة (الطنطورية).

فالقارئ المتعمق لـ (الطنطورية) سيلاحظ  تناغمًا وانسجامًا واضحين بين الواقع والمتخيَّل داخل النص السردي، من خلال ترابط أحداث الرواية في حبكة منطقية متسلسلة من السبب إلى النتيجة، دون افتعال في المشاهد أو مصادفات غير مبررة، والكاتبة بذلك تنسج أحداثها المتخيلة / المحكية في النص السردي من خيوط الأحداث التاريخية / الواقعية، وتقوم بتضفيرهما معًا في صورة حبكة قصصية مقنعة للقارئ، والذي يجد نفسه في النهاية أمام نص سردي مطابق تمامًا للواقع التاريخي المُشاهَد.

ومن أمثلة هذا الانسجام  بين الواقعي والمتخيل داخل (الطنطورية)، ما يجده القارئ من أحاديث عن شخصيات تاريخية مشهورة في إطار الحكي السردي، مثل ناجي العلي وغسان كنفاني، بجانب تقديم معلومات ومعارف كثيرة عن المواويل الفلسطينية، والتراث الشعبي الفلسطيني، وأنواع من الأكلات الفلسطينية المشهورة، ويضاف لكل ذلك الوصف الواقعي الدقيق للأماكن الحقيقية في فلسطين وعدد من المدن والبلدان العربية، وكل هذه العناصر الواقعية مقدَّمة  في سياق سردي مُحكَم، وليس بصورة مقحمة داخل حكايات (رقية) السردية عبر مشاهد النص الروائي.

وننتقل إلى العنصر الثالث المميز للرواية، وهي لغتها السردية الواقعية السهلة التي تقترب من اللغة اليومية المستخدمة في الحكي والوصف؛ مما جعل القارئ يعيش أجواء الأحداث ويندمج في داخلها ويتعاطف معها، دون أن يشعر بأي صعوبة أو تعقيد أو ابتعاد عن الواقع بتفاصيله المترامية الأطرف والممتدة عبر الزمان والمكان، بل إن لغة الساردة / البطلة كانت محاكية تمامًا للغة الشعب الفلسطيني وأسلوبه في الحديث والحوار والنقاش، وهو ما جعل كثيرًا من الكلمات المنتمية للهجة الفلسطينية تتسرب إلى اللغة السردية.

وتمتزج هذه اللغة الواقعية / اليومية المستخدمة في السرد الروائي، والمصوِّرة للموقف الواقعي المأساوي، بلغة شاعرية في كثير من المواضع التي تتطلب تصوير وعي الشخصية الساردة بهذه المواقف الواقعية وإحساسها العاطفي / الإنساني/ الحزين تجاه ما تتعرض له ويتعرض له أبناء الشعب الفلسطيني.

ويبدو لي أن هذه اللغة المزدوجة بين الواقعية والشاعرية، تخاطب القارئ عقليًّا ووجدانيًّا على الترتيب، لتقديم أكبر قدر ممكن من المعلومات والمعارف الواقعية والتاريخية الصحيحة من ناحية، وتوصيل الإحساسات الوجدانية المنبعثة جرَّاء الغربة والتهجير والإبعاد عن الوطن والوحشية في التعامل مع شعب لا يملك سوى المقاومة والنضال ضد الظلم والطغيان والاحتلال من ناحية أخرى.

يمكن تقديم بعض الأمثلة من السرد الحكائي تؤكد للقارئ بلاغة هذه اللغة المزدوجة الجمالية عبر صفحات (الطنطورية) على لسان الساردة / البطلة.

(أمسى البكاء مبتذلاً، ربما لأن الدموع تستحي من نفسها)، (كنت معهم في القطار ولم أكن. لأنني منذ ذلك اليوم الذي أركبونا فيه الشاحنة ورأيت أبي وأخَوَى على الكون، بقيت هناك لا أتحرك، حتى وإن بدا غير ذلك)، (في الحرب لا يتصرف الناس كما خلقهم ربنا. يجن الخلق ويفلت الميزان، ساعتها لا يكون الشعر وحده أو الثوب مشعثا، بل يتشعث القلب)، (ركضنا طلبا للحياة ونحن نتمنى الموت)، (إحنا اتفرقنا وعلى الله الرجوع والمفرّق والمجمّع ربنا) - من تراث الأغاني الشعبية في الأفراح الفلسطينية ولا يخفى بالطبع دلالتها الرمزية !!

لا أنسى في نهاية المقال أن أشير إلى جمالية اختيار العنوان، وتتمثل في الاكتفاء بكلمة واحدة عنوانا للنص السردي، وهي الكلمة الدالة على انتساب الساردة/ البطلة لاسم القرية التي يخلدها التاريخ منذ عام 1947م، والتي ستظل شاهدا على مجزرة العدو الوحشية، وكأن الانتساب إليها وحدها شرف عظيم ما بعده شرف، وهو بالفعل كذلك بالطبع؛ ومن هنا كان عنوان النص السردي مكونًا من هذه الكلمة وحدها، دون الاحتياج إلى إضافة أي مفردة أخرى لها، أو حتى تقديم أي صفات تكميلية لها.  

كثيرة هي الوسائل الجمالية التي ترابطت وتكاملت في تنمية حبكة (الطنطورية) وترابطها البنائي ومساعدتها على الإيحاء الفني بالصراع العربي الفلسطيني قبل النكبة وأثناءها وفي أعقابها، وتثبت هذه الوسائل قدرة الكاتبة المتميزة الراحلة رضوى عاشور على المزاوجة المتقنة بين الكتابة السردية (التاريخية/ الواقعية/ المعرفية) من ناحية، و(الجمالية / المتخيلة/ الوجدانية ) من ناحية أخرى، دون أن يطغى أحد الجانبين على الجانب الآخر؛ لتظل (الطنطورية) – في رأيي – واحدة من النصوص السردية الجمالية المعبَّرة عن المكان الأثير والقضية الأثيرة في وجدان كل عربي وعقله، دون أدنى مباشرة أو خطابية، بل من خلال الحبكة المقنعة المشوِّقة واللغة المعبِّرة والرمز الإيحائي الدال.

 

الاكثر قراءة