السبت 18 مايو 2024

اسمى: مرافق مريض

23-2-2017 | 11:02

بقلم: نجلاء بدير

 

منذ اكثر من عشرين عاما دخلت مستشفى قصر العينى فى الواحده صباحا خلف سيارة اسعاف تنقل ابى - من واحده من ارقى مستشفيات القاهره فى ذلك الوقت - بين الحياة والموت.

صوت سارينة الاسعاف يختلط بصوت امى صارخه انت (هترمى ابوكى ف قصر العينى.)

كانت دموعى لا تتوقف وكنت اهمس مذعوره (بابا هيموت ف قصر العينى). فيحاول زوجى مواستى قائلا (ايه الفرق يعنى اهو كله موت هو الميت بيحس). فيزداد نحيبى.

تلقى ابى احسن واحدث رعايه طبيه وقتها وانقذ د. شريف مختار وفريق عمله -

حياته وقتها.

اما حياتى انا فتشكلت من جديد واستمر ارتباطى بهذا المكان الذى شهد ولادتى الثانيه والذى تعلمت فيه معنى الحياه والموت والانسانيه وعكسها. تألمت وعانيت فى قصر العينى اكثر كثيرا مما فرحت. لكننى احببته. والغريب ان قصر العينى لم يخذلنى ابدا. لا اذكر عدد المرات التى بكيت فيها من سوء المعامله او العجز عن توفير علاج لمريض، لا اذكر عددها لانها كانت دائما تمحوها مرات اكثر رأيت فيها قدرة الله تتمثل فى يد طبيب/ه او ممرض/ه. ورأيت انسانيه حقيقيه بلا مقابل. ورأيت علم مبهر. وتعرفت على اصدقاء جدد فى كل موقف، ساندونى وساعدوا المرضى بكل طاقتهم بلا مقابل. مات ابى بعد هذا المشهد بسنوات. مات فى قصر العينى. وكنت راضيه لانه تلقى افضل علاج ممكن..

****

منذ اكثرمن عشرين سنه اعتبرت نفسى اعمل فى مستشفيات قصر العينى( كل الوقت ) وفى بعض المستشفيات والعيادات الخاصه (بعض الوقت ) كمرافق مريض، نعم الاسم الذى اخترته لعملى ( الذى فرض على فرضا ) هو مرافق مريض.

تغير عمداء الكليه ومديرى المستشفيات تغيروا عدة مرات، تغير رؤساء الاقسام، وبطبيعة الحال تغير النواب الذين اتعامل معهم كلما اصطحبت مريض الى قصر العينى , ولم يتغير ابدا شعورى بالمكان. قصر العينى هو الملجأ الاخير بالنسبة للمرضى الذين ارافقهم، وهو الملجأ الاول والاخير بالنسبه لملايين البشر الفقراء جدا.

كل فترة يتطاول مسئول او اعلامى على قصر العينى وتبدأ حمله من الهجوم على المكان وتنتهى كما بدأت دون مناقشة الاحتياجات الحقيقيه واوجه العجز الحقيقيه مع اصحاب المكان الحقيقيون.

وبالتالى

تزداد الاحتياجات الحاحا دون وسيلة منظمة لسدها. وتزداد معاناة الاطباء وبالتالى المرضى باطراد، اما معاناة التمريض فحدث ولا حرج، يدفع ثمنها ايضا المرضى ومرافقيهم.

والسؤال المنطقى كيف يصمد هذا الصرح امام كل هذه المعاناه، والاجابة التى رأيتها وعايشتها وشاركت فيها احيانا هى: بصمود ابناءه جيل بعد جيل.

يتعلم طالب الطب فى قصر العينى من اساتذته ان يأخذ من مرتبه الذى يكفى احتياجاته بالكاد ويشترى دواء ناقصا،تماما كما يتعلم منهم الا يرد على اسئلة اهل المريض، وايضا كما يتعلم منهم الضغط على الزميل الاصغر فى العمل.

يتعلم النائب فى قصر العينى من اساتذته ان يحمل اشعة مريض فى سيارته وينطلق لاستشارة استاذه الذى يعمل فى عيادته الخاصة او فى مستشفى خاص قريبه ( حديثا اصبح يرسل الصور على الوتس آب) ويتلقى التعليمات وينفذها، ويترك اهل المريض فريسه للقلق لاعتقادهم ان الذى يشرف على علاج مريضهم هو هذا الشاب الصغير المتلعثم. بل يتعلم النائب ان يحمل طفلا ويجرى به وتجرى الام وراء الطبيب/ه من مستشفى الى اخرى لاجراء تحليل او اشعة غير متوفرة فى المبنى الذى يعالج فيه.

وياللعجب نفس هذا الطبيب الصغير يتعلم فنون واساليب (زحلقة المريض) من قسمه الى قسم اخر او من نوبتجيته الى النوبتجية التالية.

ألم اقل لكم من قبل قصر العينى هذا المربع من المستشفيات يحتوى على كل دراما

الحياه فى مصر- كلها بلا استثناء.

الاسبوع الماضى كنت ارافق مريضا عانى من مرضين متعارضين ( تحدث كثيرا ) المريض يحتاج لاجراء جراحة عاجلة لازالة حصوه تسد الحالب وتمنع الكلية الوحيدة التى تعمل عنده من اداء عملها بكفاءة. لكنه فى الوقت نفسه مصاب بمرض قديم فى صمامات القلب تسبب فى ضعف عضلة القلب ويحتاج الى اجراء جراحة قلب مفتوح. دائره مغلقه لا جراح القلب يوافق على ان يعمل لان الشاب سيصاب بفشل كلوى ولا تخدير المسالك يوافق على التخدير خوفا من هبوط القلب.

استغرق الامر منا شهرين على الاقل حتى اجريت الجراحه، قضيناهما فى الانتقال من تخصص الى اخر ومن مستشفى الى اخرى مع تكاليف باهظه.

فى نفس الوقت دخل والد احد معارفى الملك فهد فى قصر العينى بعقده مشابهه جدا، (تضارب مسالك مع قلب ) اعتقد ان كل صدفه لها معنى. كان ابن المريض يتصل بى ليشكو ان انه لا يفهم ماذا يحدث مع والده، ثم يتصل ليشكو من ان والده يجلس على كرسى فى الممر من ثلاثة ايام، وانا انهره لانه يبحث عن شكليات، وهو يصرخ ابويا مش بينام، وانا اؤكد ان النوم على السرير كماليات.

ويشاء الله ان ينتصر حسن ظنى بقصر العينى وان يجرى المريض العجوز نفس الجراحه التى اجريت للشاب بعد اقل من اسبوع مجانا ويدخل الرعايه فى نفس مستشفى الطوارئ بعد الجراحه.

العلاج تم بطريقه اذهلتنى حتى اننى سألت الابن سؤال مباشر (هو انت عندك واسطه ) فرد بنفاذ صبر (واسطة ايه بقولك ابويا قعد فى الطرقه تلات ايام).

انها بالفعل الحياه داخل قصر العينى

 

    الاكثر قراءة