الثلاثاء 14 مايو 2024

البرلمان ودستور 1923م

د. غادة دياب

برلمان10-1-2024 | 10:36

د. غادة دياب

● أطلق سعد زغلول لقب "لجنة الأشقياء" على لجنة وضع دستور 1923؛ لأنه رأى أنه من المفترض أن يصاغ الدستور علي يد جمعية منتخبة من الشعب وليس بواسطة لجنة حكومية
● مع تتبع الانقلابات الدستورية التي جرت في إطار التجربة الدستورية يتضح كيف كان القصر هو المحرك الأول والحقيقي لهذه الانقلابات ولم تكن هناك وزارة أيا كان توجهها السياسي تجرؤ علي ذلك    
● إن كان دستور 1923 من الناحية الشكلية "منحة" فإنه من الناحية الموضوعية كان تعبيرا عن التطورات السياسية ونمو الروح الوطنية والوعي السياسي التي كان يشهدها المجتمع وقتذاك 
كان انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) بمثابة ميلاد فجر جديد لمصر، حمل بين طياته بذور الأمل لشعبها الذي كان يصبو إلى التخلص من نير الاحتلال الإنجليزي الغاشم، وشهد عام 1919م قيام ثورة بل ملحمة عظيمة شارك فيها كل أطياف المجتمع المصري، ولم يرض المصريون بديلًا عن الاستقلال، وإقامة حياة نيابية ديمقراطية كاملة، وفي سبيل هذا الحلم المشروع ضحى المصريون بالغالي والنفيس، وليس هناك أغلى من الروح لتقديمها فداء للوطن، وأمام هذا الفيضان الذي ترنح أمامه الإنجليز وأعوانهم، لم يجد المحتل بدًا من الرضوخ لمطالب المصريين، وأسفرت ثورتهم عن صدور تصريح 28 فبراير 1922م، وتم الاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة "مع وجود تحفظات أربعة"، كما تضمن إنهاء الحماية البريطانية على مصر، وبدأ الحلم بتأسيس نظام نيابي وإعداد دستور يقرر مبدأ المسئولية الوزارية أمام البرلمان بمجلسيه كما يقرر واجبات الأفراد وحقوقهم طبقا للقوانين والمبادئ الدولية.
كلفت الحكومة المصرية عبد الخالق ثروت بمهمة تحويل الحلم إلى واقع ملموس، وتألفت لجنة في 13 أبريل 1922م سميت بلجنة الثلاثين وسميت بذلك نسبة لعدد أعضائها دون احتساب الرئيس ونائبه، وحملت هذه اللجنة على عاتقها وضع مشروع الدستور المصري المقترح بالإضافة إلى قانون الانتخاب. هذا وقد أخذ بعين الاعتبار أن تكون اللجنة ممثلة لكل الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر فضمت مفتي الديار المصرية ممثلا لعلماء الدين الإسلامي، وبطريرك الأقباط ممثلًا لقطب الأمة الآخر من المسيحيين، وضمت أيضًا حشدا من كبار الأعيان كيف لا وهم أصحاب المصالح الواسعة في البلاد، وأخيرًا كان هناك ممثلون للأقليات أيضًا في لجنة الثلاثين، ولا يمكن لجاحد أن ينكر الدور البارز الذي لعبه (عبد العزيز فهمي) في خضم تلك الفترة الحرجة من تاريخ مصر، وقد لقب بأبو الدستور لمجهوداته في الاتفاق علي مواده وبنوده من خلال نقاشاته مع أعضاء اللجنة وإبداء رأيه الحكيم كلما تطلبت المصلحة الوطنية منه ذلك.
من الملاحظ أن التجارب السياسية الغربية طبعت بصماتها علي دستور 1923م، فبدلًا من أن تتخذ لجنة الثلاثين من التجارب الدستورية المصرية السالفة مرجعًا لها في صياغه مواد الدستور، نجد أنه تم توجيه اللجنة بالرجوع إلى الدساتير الأوروبية خاصة الدستور البلجيكي، والعمل علي دراسة مواده وصياغة الدستور المصري الجديد بما يلائم مصالح الملك، كما حرصت الحكومة عند تأسيس اللجنة على تجاهل حزب الوفد والحزب الوطني، ولم يشارك أي من أعضاء الحزبين في لجنة الثلاثين، وأعلنا مقاطعتهما لتلك اللجنة، وأطلق عليها سعد زغلول لقب "لجنة الأشقياء"؛ لأنه رأى أنه من المفترض أن يصاغ الدستور علي يد جمعية منتخبة من الشعب وليس بواسطة لجنة حكومية وذلك كي لا يغدو الدستور منحة يمكن التلاعب بها، أو التعامل مع اللجنة التي ستتكفل بوضع دستور لمصر على أنها منة أو فضل من الحكومة على الشعب، فهو حق أصيل للشعب ولا بد أن يشارك فيه فعليًا وليس مجرد أعضاء مختارين من قبل الحكومة. هذا وقد رفض سعد زغلول دعوة حكومة عبد الخالق ثروت بتمثيل حزب الوفد في اللجنة بعضوين أو ثلاثة، وأرجع سبب رفضه إلى أن هذا العدد قليل مقارنة بعدد الأعضاء الموالين للحكومة والقصر، وبات معلومًا أن النية مبيتة على إفساد هذا الحلم المصري بحياة نيابية وديمقراطية لصالح القصر وأعوانه. ومع غياب القوي الشعبية أصبح واضحًا أن اللجنة ليس لها سند سوي الحكومة وسوف نري في السطور المقبلة كيف تدخل القصر في عملية صياغة الدستور لكي يصدر الدستور في ثوبه النهائي متسقًا مع توجهات الملك ويعمل على تكريس دعائم حكمه.
وقد تم إقرار القواعد والأسس التي سوف يبني عليها الدستور بمعرفة لجنة مشكلة من ثمانية عشر عضوًا انتخبتها لجنة الثلاثين، وضعت لجنة المبادئ العامة مائة وعشرين قرارًا خاص بالقواعد العامة لمشروع الدستور وكان من ضمنها أن شكل الحكومة ملكية وراثية دستورية في عائلة محمد علي، وأن الملك والبرلمان شريكان في السلطة التشريعية فلا يصدر قانون إلا إذا أقره البرلمان وصدق عليه الملك وأعطت للأخير حق حل مجلس النواب كما جاء في المادة 38 من مواد الدستور.
علي أية حال قامت اللجنة بوضع مشروع الدستور وكان من أهم مواده النص علي أن الملك يتولى سلطانه بواسطة وزرائه وهو نص أساسى مترتب عليه ارتفاع مسئولية الحكم عن الملك وتحديدًا لمسئولية الوزارة كما قضى المشروع بحق الملك في تعيين الوزراء وإقالتهم وهذا قضي به إسناد للسلطة التنفيذية للملك وتوليه إياها بواسطة وزرائه علي الرغم إن القصر قد مارس ضغوطه علي لجنة الثلاثين ومارس الملك كافة سلطاته للاستئثار بكافة السلطات ومع تتبع الانقلابات الدستورية التي جرت في إطار التجربة الدستورية يتضح كيف كان القصر هو المحرك الأول والحقيقي لهذه الانقلابات ولم تكن هناك وزارة أيا كان توجها السياسي تجرؤ علي ذلك    
فقد استطاع القصر من خلال الوزارات المتعاقبة والموالية له أن يدخل الكثير من التعديلات علي مشروع الدستور المكون من مائة وسبعون مادة والذي صدر في 19 أبريل 1923م، وكان مختلفًا اختلافًا شاسعًا عن الدستور الأول الذي وضعت اللجنة مسودته، وكان في الواقع وفاقا قبلته اللجنة فقط اعتقادًا منها أن دستورا معيبًا خير من لا دستور ولعلمها أن الملك فؤاد كان علي استعداد أن يكافح للحفاظ علي امتيازاته لذلك لم تجد أمامها سوي القبول بهذا الأمر.
 صدر دستور 1923م وقد حاد عن النموذج النيابي الصحيح الذي يفرض أن الملك يملك ولا يحكم إذ أن السلطات التي خولها للجالس علي العرش قد جعلته يملك ويحكم في آن واحد، لكن أخذ الدستور النظام النيابي البرلماني القائم علي أساس الفصل والتعاون بين السلطات ونظمت العلاقة بين السلطتين "التشريعية والتنفيذية " على أساس مبدأ الرقابة والتوازن فجعل الوزارة هي المسئولة أمام البرلمان الذي يملك حق طرح الثقة فيها بينما جعل من حق الملك حل البرلمان ودعوته للانعقاد ولكنه أعطي للبرلمان حق الاجتماع بحكم الدستور إذا لم يدع في الموعد المحدد وذلك بمقتضى نص المواد "38-39-40"
كما أخذ دستور عام 1923م بنظام المجلسين وهما:  مجلس الشيوخ والنواب فبالنسبة لمجلس النواب نص الدستور علي أن جميع أعضائه منتخبون، ومده عضوية المجلس خمس سنوات.
أما مجلس الشيوخ فكان ثلاثة أخماس أعضائه منتخبين، وكان الخمسان معينين وقد أخذ الدستور بمبدأ المساواة في الاختصاص بين المجلسين كأصل عام، مع بعض الاستثناءات. فكان البرلمان الذي نص عليه الدستور المصري  الصادر في عام 1923م خطوة متقدمة في طريق الحياة البرلمانية والنيابية في مصر وجاء دور سعد زغلول زعيم الأمة لتشكيل وزارة برئاسته فقد كان حلما ينتظر الشعب المصري تحقيقه  فكان سعد زغلول أول مصري من أصول ريفية ومعارضا لسياسة القصر والاحتلال الإنجليزي ويسعي لتحقيق الاستقلال للشعب الذي عاني مرارة الوجود الإنجليزي وتسلط القصر لذلك عند تولي سعد زغلول الوزارة سميت بوزارة الشعب ولكن كان من الصعب لدي الملك فؤاد القبول بتلك الوزارة التي من خلالها سوف يرضح للدستور ويتنازل عن صلاحياته التي سعي للاستحواذ بها من أجل النظام الديمقراطي وتنفيذا لمطالب وزارة الشعب، و أظهرت هذه الممارسة العملية لتنفيذ التجربة الدستورية التناقض الشديد بين أهداف القوي السياسية وبين القصر ومحاولته للاحتفاظ بأكبر قدر من السلطات والمشاركة الفعلية في وضع القرار السياسي والقوي الوطنية المتمثلة في الوفد التي تهدف لتصحيح المفهوم الصحيح وآلية تطبيق الدستور والتأكيد علي سلطة الأمة وصون حقوقها. فأصبحت القوي الوطنية التي  كانت تحارب من أجل استقلال الشعب والتخلص من  نير الاحتلال الإنجليزى أصبحت تحارب مع جبهتين هما: الملك الذي يسعي للاستحواذ علي كافة السلطات والجانب الآخر الاحتلال الإنجليزي. 
فكان لتلك الصراعات آثرها بإدراك القصر بأن وجود هذا الدستور يمثل عائقا أمام سلطات الملك ومع اشتداد الخلافات والانقلابات التي نتج عنها استقالة وزارة الشعب  في نوفمبر 1924م وحاول الملك عقب هذه الاستقالة استعادة سيطرته علي مقاليد السلطة في البلاد من خلال تكليف وزاره تدين بالولاء للقصر وذلك ساعد في تعطيل الحياة النيابية في مصر عده شهور والاستفادة من خلال هذا التعطيل وعمل القصر علي إحكام قبضته علي البلاد من خلال إصدار مراسيم تعمل علي التضييق علي الأحزاب السياسية  والإفصاح عن كافة برامجها وفي مقدمتها الوفد ليس هذا فحسب، بل أيضا خول القانون حق حل كل جمعية أو هيئة سياسية لا تتبع هذه الإجراءات وهذا آثار ثائرة الأحزاب السياسية ف مصر علي اختلاف اتجاهاتها وتمثل احتجاجها في دعوه البرلمان إلي عقد اجتماع طبقا للدستور في فندق الكونتننتال في نوفمبر 1925م واحتجوا أثناء اجتماعهم علي الحكومة وقرروا عدم الثقة بها واعتبار البرلمان قائمًا.
 واستمر الوضع بين مشاحنات متمثلة في انقلابات دستورية ألت في النهاية إلى أن القصر ظل كارها للدستور وفكرة الحكم الدستوري  وبلغ الأمر مداه عندما كلف الملك إسماعيل باشا  صدقي بتشكيل حكومة من حزب الأحرار الدستوريين رغم حصول حزب الوفد على الأغلبية في البرلمان وانتهي الأمر بإلغاء دستور 1923م في 22 أكتوبر عام 1930 م وحل البرلمان وإعلان دستور جديد آلا وهو دستور 1930م أو "دستور صدقي" والذي أتاح للقصر سلطات واسعه في الحكم قضت تمامًا علي كل احتمالات قيام حكم ديمقراطي بالبلاد واستمر العمل بدستور 1930 م لمدة خمسة أعوام كانت تلك الفترة بمثابة نكسة للحياة الديمقراطية وقام الشعب بالعديد من التظاهرات الاحتجاجية إلي إجبار الملك علي إلغاء الدستور في 19 نوفمبر برقم 142 لسنه 1935م  ثم عادت البلاد مرة أخرى إلى دستور عام 1923م  الذي ظل قائمًا إلى أن تم إسقاطه في 10 ديسمبر 1952م بموجب أول إعلان دستوري من مجلس  قيادة ثورة 23 يوليو 1952م .
وعند تقييم دستور 1923م يمكن القول بأنه خطوة لابأس بها علي طريق إقرار الحقوق الديمقراطية والنيابية للبلاد، وإن كان من الناحية الشكلية منحة فإنها من الناحية الموضوعية كان تعبيرا عن التطورات والتعبيرات السياسية التي كان يشهدها المجتمع وقتذاك من نمو الروح الوطنية والوعي السياسي وتكوين الأحزاب والرغبة في المشاركة في السلطة.

Dr.Radwa
Egypt Air