الثلاثاء 24 سبتمبر 2024

المجالس النيابية.. قرنان من التنظيم

زياد عبد التواب

برلمان11-1-2024 | 14:24

زياد عبد التواب

كانت بداية ظهور الروح القومية المصرية في أواخر القرن الثامن عشر، وهى الفترة التي بدأ فيها أول المجالس النيابية تحت اسم "الديوان العام" الذى أنشأته الحملة الفرنسية.
أنشأ محمد على "المجلس العالي" في 1824، ثم أنشأ "مجلس المشورة" فى 1829 بديلا عنه وهو الذى يعتبر النواه الأولى لنظام الشورى؛ حيت تألف من كبار موظفي الحكومة والعلماء والأعيان.
أنشا الخديوي إسماعيل مجلس شورى النواب فى 1866، والذى يعتبر هو البداية الحقيقية للحياة البرلمانية في مصر بصلاحيات حقيقية لا تقتصر على الشورى وتقديم الاستشارات.

بالرغم من أن أول مجلس نيابي حقيقي يمتلك صلاحيات واختصاصات نيابية حقيقة هو ذلك المسمى ب “مجلس شورى النواب" والذي انشأه الخديوي إسماعيل عام 1866 والذي تم إنشاؤه على غرار البرلمانات الأوروبية الحديثة وخاصة البرلمان الفرنسي، الا أن ما سبقه من محاولات لوجود تمثيل ما في العصر الحديث بدأت قبل هذا بفترة.

ففي الجزء الأول من كتاب "تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر" لمؤلفه عبد الرحمن الرافعي و الصادر في طبعته الأولى عام 1929 يشير إلى بداية ظهور الروح القومية المصرية في أواخر القرن الثامن عشر وهى الفترة التي بدأ فيها أول تلك المجالس تحت اسم "الديوان العام" الذى أنشأته الحملة الفرنسية عام 1798 ميلادية أي في العام الأول لقدومها والذى كان يتكون من مجموعة الدواوين التي أنشأت في الأقاليم كتقسيم إدارى للقطر المصري حيث كان كل ديوان يتكون من تسعة أعضاء ثلاثة من الفقهاء وثلاثة من التجار وثلاثة من الفلاحين وشيوخ البلاد و قبائل البدو، يتم تعيينهم جميعا من قبل الحاكم الفرنسي ليكونوا معا مجلسا استشاريا يعاون الحاكم في أداء مهامه وإدارة شؤون البلاد من دون أن تكون لهم أي سلطة تنفيذية او تشريعية مستقلة و لكن ليكونوا حلقة الوصل بين الحاكم وبين الشعب المصري.

أما ما قبل هذا ومنذ الغزو العثماني لمصر على يد السلطان سليم الأول عام 1517 ميلادية فإن نظام الحكم العثماني تطرق أيضا إلى محاولات التنظيم للحكم، ولم تكن البداية على يد السلطان سليم الأول كما قد يشاع بل إن البداية الحقيقة للتنظيم جاءت على يد نجله السلطان سليمان والمعروف بسليمان القانوني والذي يعتبر فترة حكمه كخليفة للمسلمين من أطول الفترات حيث امتدت منذ عام 1520 بعد وفاة والده السلطان سليم الأول إلى عام 1566 ميلادية.

ما وضعه السلطان سليم الأول قبل وفاته كان مجرد شكل مبسط لتقسيم الحكم شمل ثلاث قوى رئيسية الأولى هي الوالي العثماني والثانية رؤساء الجند والثالثة البكوات المماليك الذين عهد إليهم بحكم مديريات القطر المصري.

اما من بين رؤساء الجند تألف ما يسمى "مجلس شورى الباشا" او الديوان والذي كان له سلطة كبيرة في إدارة الحكومة و لم يكن الوالي يستطيع أن يأخذ قرارا إلا بعد موافقة هذا المجلس و حين يحتدم الخلاف بينهما فإن الأمر يتم رفعه إلى الباب العالي للبت فيه، و هذا المجلس لم يستمر طويلا حيث تم تقسيمه إلى ديوانين الأول الديوان الكبير و الثاني الديوان الصغير هذا بجانب السلطة الثالثة السابق الإشارة اليها وهى سلطة المماليك بقسميها البحرية و البرجية كأمراء للمديريات المختلفة و عددها 24 مديرية استمرت في الدمج و الانقسام حتى وصلت إلى ستة عشر مديرية أو إقليم كما تم رصده بنهاية عهد المماليك.

استمر الأمر كذلك حتى النصف الثاني من القرن السابع عشر حيث استأثر المماليك بالحكم نتيجة ضعف الدولة العثمانية بسبب حروبها المستمرة ومشكلات وفساد أحوال الحكم الداخلية بها والحقيقة ان الديوان او المماليك من بعده بسلطتهم المطلقة لم يكونوا يعملون من أجل مصلحة الشعب المصري بل من أجل مصالحهم الشخصية وجشعهم في نهب ثروات البلاد والتنكيل بأبنائه، وهو ما استمر حتى دخول الحملة الفرنسية إلى البلاد وإنشاء الديوان العام، والذى أراد نابليون من خلاله ان يستنير بآراء أعيان العاصمة و الأقاليم حيث دعاهم إلى اجتماع  في جمعية عامة اسماها فيما بعد بالديوان العام للتفرقة بينها وبين ديوان القاهرة أو غيره من الدواوين يتألف عددهم ممثلين لكل مديرية من تسعة أعضاء  ماعدا القاهرة فتمثل بثلاثة أضعاف هذا العدد وضعف هذا العدد لكل من الشرقية والمنوفية و قام نابليون من خلال إشراك اثنين من العلماء الفرنسيين  - مونج و برتوليه-  في هذا الديوان بتقديم الطلبات التي يرغب نابليون في أن يقوم أعضاء الديوان العام بإبداء الرأي فيها و منها ما هو أصلح نظام لتأليف مجالس الديوان في المديريات وما هو النظام الذى ينبغي وضعه للقضاء المدني والجنائي وما هو التشريع الذى يكفل ضبط المواريث ومحو أنواع الشكوى والإجحاف الموجودة في النظام الحالي وما الإصلاحات والاقتراحات التي يراها الديوان لإثبات ملكية العقارات و فرض الضرائب وفي أول جلساته أرادوا انتخاب رئيس لهم حيث تعالت بعض الأصوات مطالبة بالشيخ الشرقاوي وهو الأسلوب الذى رفضه الفرنسيان الحاضرين حيث قاموا بتوجيه الأعضاء إلى عمل قرعة -اقتراع سرى- لكتابة اسم المرشح للرئاسة فكان الشيخ الشرقاوي وهنا تعلم الجميع و لأول مرة كيفية الاقتراع بصورة سرية لأخذ أي قرار من القرارات وبالرغم من ذلك الشكل النيابي إلا أن نابليون لم يجعل لهذا الديوان أي سلطة قطعية في أي من الأمور التي عرضت عليه بل كان الغرض مجرد استشارة الأعضاء فعلى الجانب الآخر ألف نابليون لجنة أخرى برئاسته و عضوية مدير مهمات الجيش ومدير الشؤون المالية وكبير المباشرين لتقر بصورة نهائية ما اقترحه او درسه الديوان العام.

من الأمور الرائعة التي حدثت أثناء مناقشة الديوان العام لنظام التوريث عندما سأل بعض العلماء من الأعضاء عن أسلوب تقسيم المواريث وكانت الإجابة أنها تقسم بحسب القواعد الشرعية وأن المصدر هو القرآن الكريم مما دفع المندوبين الفرنسيين إلى الإشارة إلى أن لديهم قواعد أخرى منها عدم توريث الولد على اعتبار أنه قادر على الكسب واستمر الجدل حول هذه النقطة لمدة طويلة حسمه أحد الأعضاء و يدعى ميخائيل كحيل  الذى أيد وجهة نظر العلماء وقال إن الأقباط في مصر موافقون على القواعد الإسلامية مما دفع المندوبين الفرنسيين إلى إنهاء الجدل وطلبا من العلماء ان يكتبوا قواعد المواريث طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية وهو ما أقره نابليون فيما بعد.

 للأسف لم يستمر الديوان في مباشره مهامه طويلا إذ اندلعت الثورة الأولى في 21 أكتوبر 1798 أي بعد ستة أسابيع من الاجتماع الأول له  حيث أصدر نابليون أوامره  بإبطال الديوان و اتهمه بأنه لم يقم بدوره في مقاومة تلك الثورة مما دفع بعض أعضائه وبصورة منفردة إلى إصدار خطابات باسم الديوان  موجهة إلى الشعب تحثه على إيقاف الثورة ضد الفرنسيين وذلك بلغة عربية رصينة و منمقة، و لما شعر نابليون بأن العلاقة أصبحت متوترة بين جيشه وبين الشعب أمر بإعادة الديوان مرة أخرى في ديسمبر من نفس العام و لكن بصورة أخرى أكثر توسعا حيث جعله مؤلفا من هيئتين هما الديوان العمومي أو الكبير والذي لا ينعقد إلا بأمر من حاكم العاصمة والديوان الخصوصي والذى يتم انتخاب أعضائه من أعضاء الديوان العمومي والذين يتم تعيينهم جميعا و ينعقد مجلسهم بصورة يومية و هنا نجد ان تلك الدواوين قد فقدت أي تواصل مع الشعب أو أي عمل حقيقي لصالحه، أما بعد ذلك فلم  تستمر الحملة الفرنسية ولا حكم المماليك طويلا حيث تم تنصيب محمد على باشا واليا على مصر بمباركة شعبية لتبدا مصر مرحلة مهمة من تاريخها الحديث.

في عام 1824 أنشأ محمد على باشا "المجلس العالي" والذى صدرت لائحته في الثالث من يناير عام 1825 ليتكون بعضوية فئات وطوائف الشعب المختلفة فمنهم رؤساء المصالح ونظار الدواوين واثنان من علماء الأزهر يختارهما شيخ الازهر واثنان من التجار يختارهما كبير تجار العاصمة واثنان من العاملين بالحسابات واثنان من الأعيان يتم انتخابهما من الأهالي عن كل مديرية وهنا يظهر ولأول مرة المبدأ الانتخابي في اختيار أعضاء المجالس بالرغم من أن دور المجلس اقتصر على المشورة ومناقشة ما يحيله او يقترحه الوالي من موضوعات فيما يتعلق بسياسته الداخلية أي ان الأمر لم يكن قد ظهر بشكل نيابي كما يعتقد البعض فحتى تلك الايام لم يكن الفصل واضحا بين السلطات مثلما حدث بعد ذلك، أما في عام 1829 فتم إنشاء "مجلس المشورة" بديلا عن المجلس العالي و الذى يعتبر هو النواه الأولى لنظام الشورى حيت تألف من كبار موظفي الحكومة والعلماء و الأعيان وذلك برئاسة إبراهيم باشا حيث يمكن اعتبار هذا المجلس من تحليل الفئات الممثلة فيه أنه جمعية عمومية مؤلفة من 156 عضوا منهم 33 من كبار الموظفين والعلماء و 24 من مأموري الأقاليم و 99 من كبار الأعيان، و لم تكن له أي سلطة سوى سلطة استشارية ركزت على أمور الإدارة و التعليم و الاشغال العمومية وما يقترحه الأعضاء من موضوعات أو ما يرد إليه من شكاوى و ذلك بدورية انعقاد سنوية،  هذا و لم يستمر هذا المجلس طويلا ولم يظهر له من الأثر الكثير حيث تم إلغاؤه عام 1837، تزامن ذلك مع وضع محمد على لقانون في نفس العام لتنظيم عمل الحكومة أطلق عليه اسم "قانون السياستنامة" حصر فيه السلطة في سبعة دواوين هي الديوان الخديوي وديوان الإيرادات وديوان الجهادية وديوان البحر وديوان المدارس وديوان الأمور الأفرنجية والتجارة المصرية وديوان الفبريقات.

أما في عام 1847 فقام محمد على بتأليف ثلاثة مجالس جديدة هي المجلس الخصوصي للنظر في شؤون الحكومة وإصدار اللوائح والقوانين والمجلس العمومي أو الجمعية العمومية بديوان المالية وهي هيئة مؤلفة من مدير المالية ووكيل الديوان الخديوي ومدير المدارس ومدير الحسابات ومدير الفابريقات ومفتش ورؤساء أقلام الدواوين الحكومية وذلك للنظر في شؤون الحكومة ويرسل قراراته إلى المجلس الخصوصي كما انشا مجلس عمومي آخر بالإسكندرية للنظر في شؤونها.

الفترة التالية لذلك في حكم عباس حلمى الأول لم تشهد الكثير من التطور بل على العكس فإن التاريخ يذكر أنه تراجع عن الكثير من خطط التنمية التي اعتمدها محمد على باشا وبشأن المجالس فإنه قام بإنشاء مجلس الأحكام وقام أيضا بإعادة تشكيل المجلس الخصوصي وعدل اسمه إلى "مجلس محافظة مصر" ثم تلاه محمد سعيد باشا الذي أعاد تنظيم الدواوين الحكومية، فجعل منها أربع وزارات هي: "الداخلية"، "المالية"، "الحربية"، "الخارجية"، ولم يهتم كثيرا بالتعليم مثل سابقه ولكنه حقق استقلالا للقضاء بعد أن كان التعيين يتم بواسطة قاضى القضاة المولى من قبل السلطان.

نأتى بعد ذلك إلى عام 1866 حيث أنشأ الخديوي إسماعيل مجلس شورى النواب والذى يعتبر هو البداية الحقيقية للحياة البرلمانية في مصر بصلاحيات حقيقية لا تقتصر على الشورى وتقديم الاستشارات لذا يمكن بالفعل اعتباره البرلمان الأول في مصر حيث كان يتكون من 75 عضوا منتخبا من قبل أعيان القاهرة و الإسكندرية و دمياط وعمد البلاد و مشايخها في باقي المديريات، تلا ذلك إنشاء مجلس شورى القوانين بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882 ثم الجمعية التشريعية والتي انشأها الخديوي عباس حلمى الثاني عام 1913 والتي تم الغاؤها بعد دستور 1923 وظهور غرفتي البرلمان "النواب و الشيوخ" بالانتخاب الكامل للأول وثلاثة أخماس الثاني وهى الانتخابات التي ظهرت فيها الأحزاب ولأول مرة ومنذ ذلك التاريخ وتسير الحياة النيابية في ظل تعاقب الدساتير لتقوم بدورها في مراقبة أداء الحكومة وسن التشريعات وتقديم المشورة أيضا.