الأحد 5 مايو 2024

د. رفعت المحجوب الفارس النبيل .. يسبح ضد التيار

مقالات16-1-2024 | 14:37

  • كان المحجوب صاحب دور كبير فى تأجيل مفهوم الرؤية التى طرحها الزعيم جمال عبدالناصر عن الاشتراكية العربية، وشرح أهم معالم النظام الاشتراكى فى مصر من خلال العديد من مؤلفاته
  • جاهر المحجوب بأنه أحد أبناء ثورة يوليو ومن المدافعين عن إنجازات تلك الثورة العظيمة، كما كان أحد ممثلى التيار المعتدل فى الناصرية كما كان أحد كبار مفكرى الاشتراكية العربية
  • كانت رؤية المحجوب المستنيرة تجعله يؤكد دوماً على أن مجلس النواب يجب أن يكون على يسار الحكومة يراقب ويصحح المسار، وكثيرا ما ترك المنصة ليعبر عن رأيه كعضو فى المجلس بحرية
  • يرى المحجوب أن التشريع ليس انتصارا لطبقة وهزيمة لطبقة لكنه التزام بمصالح المجتمع وبمنطق العصر، لأنه أداة للتحرير والتطوير، أداه للتأصيل والتنوير

 

 

حجة فى القانون .. يمتلك ناصية الكم رائد الأدب السياسى.. فى زمن طغى فيه الهزال على لغة التعبير والكلام يحاور بالحجة والمنطق فى حنكة ودراية.. عف اللسان.. قوى البيان.. يمتلك شخصية كارزمية تفرض حضورها فى كل المحافل مهذب يرعى التقاليد يرفع دوما راية المبادئ الواضحة.. والمواقف الجادة.. يتسم بالجدية والصرامة.. ويجسد الاتزان والرزانة وينثر محبته على كل من حوله .. لم تتغير أفكاره ولم تتبدل رؤاه شديد الوطنية والالتزام القومى يدعو إلى السلام الاجتماعى ويؤمن بأهداف الوحدة الوطنية ويسعى إلى نشر كل أسباب العدالة الاجتماعية .. صلب فى الدفاع عن أرائه ورؤاه علم فى الدراسات الأكاديمية ورغم ذلك لم يتعامل مع السياسة من خلال النظريات والأفكار المجردة مثل رجال مراكز الأبحاث والدراسات وفى المقابل لم يتحول إلى مجرد سياسى ممارس ومحترف ولكنه نسيج وحده فهو السياسى المستنير والمفكر الحسيس ولذلك لم يكن غريبا أن يصبح ألمع الرجال فى صفوف الحكم والتشريع والحياة السياسية إنه الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب الأسبق الذى عانى طويلا من السباحة ضد التيار فكان العقبة الكأ داء أمام محترف المناورات السياسية ولذلك جعلوه (منصة للتنشين) واتهموه بالديكتاتورية الباطشة.. وفى النهاية كتبت يد الارهاب الأسود الفصل الأخير فى حياة هذا العالم النبيل.

ولد رفعت السيد المحجوب فى 23 أبريل 1926فى بلدة الزرقا بمحافظة دمياط لأب يعمل مدرسا للغة العربية وينتمى كغالبية المصريين فى ذلك الوقت إلى حزب الوفد وكان هذا الأب يقود الوفديين فى الزرقا ضد مؤيدى السعديين  بزعامة ابراهيم عبدالهادى.

التحق الفتى بالكتاب لحفظ القرآن الكريم ثم حصل على الابتدائية من مدرسة بنبا قادن الابتدائية بالقاهرة وحصل على التوجيهية من مدرسة التوفيقية بالقاهرة عام 1944 والتحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة ليحصل على الليسانس عام 1948 ورغم تفوقه إلا أن انتماء للوفد منعه من الالتحاق بالنيابة وحتى عندما صدر قرار بتعيينه معيداً بالكلية تأخر تنفيذ القرار لمدة عام كامل رغم أنه كان ينتمي إلى ما يمكن أن نطلق عليه (يسار الوفد) الذى ضم د.عزيز فهمى - د.محمد مندور- أحمد الخواجة وغيرهم وهذا الانتماء الحزبى لم يمنعه من التفوق فى دراسته وأبحاثه حيث حصل على دبلوم الدراسات العليا فى القانون الخاص عام 1949.. ودبلوم الدراسات العليا فى القانون العام من جامعة باريس التى سافر إليها للحصول على الدكتوراه.. كما حصل على دبلوم الدراسات العليا فى الاقتصاد من جامعة باريس أيضا ثم دكتوراه الدولة فى الاقتصاد من ذات الجامعة عام 1953.

فى عام 1951 زار محمد صلاح الدين وزير الخارجية فى حكومة الوفد باريس والتقى بالطلبة المبعوثين ودار نقاش حاد.. حول المقاومة للاحتلال الانجليزى وعدم تقديم حكومة الوفد الدعم الكافى لتلك المقاومة وتزعم هذا النقاش - رفعت المحجوب- طعيمة الحرف- لبيب شقير وكان المحجوب قد أخذ على الوفد تحالفه مع سراى عابدين (الملك) وسراى المندوب السامى (الانجليز) وهذه الرؤية جعلته يسارع بإعلان تأييده لثورة يوليو 1952 فور قيامها رغم وجوده فى باريس فى ذلك الوقت.

عاد إلى القاهرة بعد حصوله على الدكتوراه ليتم تعيينه مدرسا للاقتصاد والمالية فى كلية الحقوق عام 1953 وواصل صعود السلم الاكاديمى ليصبح أستاذ مساعدا عام 1959 ثم استاذا للاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية 1964 بعد أن كان أحد مؤسسيها ثم رئيسا لقسم الاقتصاد  من 1970-1971 ثم عميدا لكلية من 1971-1972 ورغم هذا التفوق فى المسار الأكاديمى إلا أن ذلك لم يمنعه من الانخراط والتميز فى عالم السياسة مستثمرا السياسة التى انتجها الزعيم جمال عبدالناصر باحتضان الشباب أصحاب الكفاءات ووضعهم فى الاماكن والمؤسسات التى تستفيد بجهدهم وإجتهادهم ومن هذا المنطلق شارك د.رفعت المحجوب فى العديد من اللجان الفنية بمختلف الوزارات والأجهزة الاقتصادية وشارك كعضو فى وفد مصر لمفاوضات الوحدة بين مصر وسوريا 1958 وثم تعيينه (أمين عام) فنيا للجنة الاقتصادية للوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 ثم أصبح المستشار الاقتصادى للمؤسسة المصرية العامة للبنوك عام 1963 كما تم اختياره عضوا باللجنة التحضيرية للميثاق الوطنى 1962 وخلال هذه الفترة شغل أيضا عضوية المجلس القومى للإنتاج وعضوية الاتحاد القومى عن دائرة الزرقا 1962 .

وقد كان الدكتور رفعت المحجوب صاحب دور كبير فى تأجيل مفهوم الرؤية التى طرحها الزعيم جمال عبدالناصر (عن الاشتراكية العربية) وشرح أهم معالم النظام الاشتراكى فى مصر من خلال العديد من مؤلفاته (الاقتصاد السياسى) (ثلاثة أجزاء صدرت من 56-1960) - النظم الاقتصادية (1960) إعادة توزيع الدخل القومى 1941م - النظام الاشتراكى فى الجمهورية العربية المتحدة (1964) الاشتراكية (1964)- الطلب الفعلي مع دراسة خاصة بالبلاد الأخذة فى النحو (1963) وهو الكتاب الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية السياسة المالية وتحديد سعر الفائدة (رسالة الدكتوراه) - المالية العامة (النفقات والايرادات) كما كتب عددا كبيرا من المقالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية فى مختلف الصحف والمجلات وهذا التوجه الاشتراكى لم يمنعه من اصدار كتابه المهم (دراسات اقتصادية اسلامية عام 1979) .. وقد كان د.المحجوب من أوائل الاقتصاديين العرب الذين نقلوا فكر (جون مينا ردكينز)  وسياساته رلى الوطن العربى وحصل بحثه حول البلاد الاخذة فى النحو من خلال نظرية كينز على جائزة الدولة التشجيعية وتؤكد هذه النظرية على أن الركود يحدث عندمال يتخطى معدل الادخار معدلات الاستثمار مما يستلزم تدخل الحكومة.

وقد جاهر د.رفعت المحجوب بأنه أحد أبناء ثورة يوليو ومن المدافعين عن إنجازات تلك الثورة العظيمة كما كان أحد ممثلى التيار المعتدل فى الناصرية كما كان أحد كبار مفكرى الاشتراكية العربية عكس ما كان ينادى به على صبرى بأن الاشتراكية واحدة فى كل العالم ولكن المحجوب كان يضع الكثير من الفوراق بين الاشتراكية العربية .. والاشتراكية الماركسية وفى هذا الإطار يأتى واحد من أهم كتبه (الاشتراكية العربية) والتى وضعها بأنها لاشرقية ولا غربية.. ومن هذا المنطلق لم يكن غريبا أن يكون أحد أبرز أعضاء اللجنة التحضيرية لمؤتمر قوى الشعب العامل الذى أقر تحالف القوى الوطنية مع بعضها وأقر صدور الميثاق عام 1962 وقد أبدع د. المحجوب فى وضع العديد من الرؤى الفكرية للثورة مثل (تذويب الفوارق بين الطبقات) ورغم تأييده المطلق لثورة يوليو وزعيمها جمال عبدالناصر إلا أنه كان حريصا على معارضة أى سياسا لاتتفق مع مبادئ الثورة مثل قانون الجامعات الذى حاول على صبري تحريره منتصف الستينيات ذلك القانون الذى يحجر على استقلاليه الجامعات فكتب المحجوب فعلا مهما بعنوان (حتي لا تضل الطريق إلى الجامعة) ونشره فى الأهرام مستثمرا رفض الاستاذ هيكل لقانون على صبري.

وبعد رحيل عبدالناصر فى ستبمبر 1970 وتخلص السادات من كل الفريق الذى عمل مع الرئيس عبدالناصر والزج بهم إلى غياهب السجن فيما سمى وقتها (ثورة التصحيح) مايو 1971 لم يجد السادات إلا المفكر الاشتراكى رفعت المحجوب ليستند عليه فقام بتعيينه أولا وزيرا برئاسة الجمهورية عام 1972 ثم نائبا لرئيس الوزراء برئاسة الجمهورية عام 1975 وبالتوازى مع ذلك تم اختياره أمينا عاما للدعوة والفكر والاعلام بالاتحاد الاشتراكى عام 1972 ثم أمين أول اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى عام 1975 ورغم أن توجهات الرئيس السادات فى الانقلاب على كل ما هو اشتراكى قد ظهرت واضحة جلية منذ بداية الانفتاح (السداح مداح) فى عام 1974.. إلا أن د. المحجوب ظل حائط (الصد الاخير) فى الدفاع عن المكتساب الاشتراكية حيث قال فى عام 1976 وهو امين عام الاتحاد الاشتراكى (هناك من يحاولون ضرب المكاسب الاشتراكية.. اشتراكية التحالف.. التى قامت من أجل حرية الخبز وحرية؟؟؟؟؟ من أجل التضامن العربى والوحدة العربية من أجل البناء والدولة الجديدة والمجتمع الجديد مجتمع الملايين لا مجتمع أصحاب الملايين) وفى هذا الإطار كان الرجل من أكبر أنصار التضامن العربى والقضية الفلسطينية وقد عمل بكل الطرق على ترشيد هو جه الانفتاح وراح يهاجم (هليبة الانفتاح) وأطلق عليهم اسم (القطط السمان) وحذر من تغولهم ومن وصولهم إلى مرحلة (البقرات السمان) فغضب السادات من هذا الهجوم ليقرر المحجوب ترك العمل السياسى والعودة إلى الجامعة  ليغرس أفكاره ومبادئه فى عقول الأجيال الجديدة .. ومن هذا المنطلق كان حريصا على تدريس مادة (الاقتصاد السياسى) لطلبة السنة الاولى فى كلية الحقوق وقد واظب على ذلك حتى أخر يوم فى حياته وقد عاش مؤمنا بحتمية الحل الاشتراكى وأكد على ذلك فى كتابه المهم (الاشتراكية) وقبل أن يترك الاتحاد الاشتراك بث العديد من الافكار والرؤى.. مثل التأكيد على الوحدة الوطنية وفلسفة التحالف وحقوق العمال والفلاحين وراح يؤكد على أن الحاضر الواعى هو الذى يأذن للمستقبل أن يولد ولادة طبيعية كما شارك بفاعلية فى ميلاد تجربة المنابر التى تعكس اتجاها فكريا مستقرا بل وضع لها الإطار الفكري من خلال مقولته (ثورة يوليو تنتقل من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية) وذلك بالتحول من التنظيم الواحد (الاتحاد الإشتراكي) إلى التعددية الحزبية من خلال اصلاح التنظيم السياسى وانشاء المنابر التى تحولت إلى أحزاب سياسية وهو الذى صك العديد من مصطلحات المرحلة الجديدة مثل دولة المؤسسات سيادة القانون الشرعية الدستورية ووضع كل البنية الفكرية لمرحلة الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية وقد ظلت عباراته حية ونابضة..

بينما توارى هو بإرادته وأختار العمل الجامعى بعد أن كان مفتاح باب الإشتراكية الدولية فقد كان أول من قام بالاتصال مع هذه المجموعة الدولية باسم مصر وبدأت مباحثاته مع (برونوكرايسكي) السكرتير العام لهذه المجموعة وانتهى الأمر بالتعاون بين الاشتراكية الدولية ومصر وبشكل عام فقد كان الدكتور رفعت المحجوب أقرب إلى اليسار الديمقراطى بالمفهوم الغربي.

 وعندما تفرغ للعمل الجامعى وعاد إلى أبحاثه ومؤلفاته حصل على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية عام 1980 وانتخب مرة أخرى عميدا لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1981 وهو العام الذى ثم فيه اغتيال أنور السادات ليجئ حسنى مبارك رئيسا للجمهورية ورغم توحش القطط السمان وانتشار علامات الانفتاح فى كل ربوع مصر سعى الرئيس مبارك فى سنوات حكمه الاولى على فرملة هذه التوجهات الخطيرة فأصدر قرارا بتعيين د.رفعت المحجوب فى مجلس الشعب عام 1984 ليتم انتخابه رئيسا للمجلس فى 22يونيه 1984 ذلك المجلس الذى كان يضم أربعمائه عضو منهم مائة عضو معارض وبه قامات سياسية كبيرة مثل يس سراج الدين النائب الوفدى وابراهيم شكرى ومعهما مأمون الهضيبي عن جماعة الاخوان اضافة إلى عدد من (عتاولة النواب) مثل ممتاز نصار وعلوى حافظ وقد استثمر كل خبراته السياسية والتنظيمية فى جعل جلسات المجلس مباراة حامية الوطيس بين اعضاء الحزب الحاكم (الحزب الوطنى) وأعضاء المعارضة وبين الحكومة ونوابها من ناحية أخرى وامتلك قدرات فائقة جعلته يحتوى أى أراء أو (شغب فكرى) يمكن أن يعكر صفو الجلسات كما كان قادرا على حماية ما تبقى من المكاسب الاشتراكية التى حققتها ثورة يوليو بقيادة الزعيم جمال عبدالناصر حيث قاتل بشراسة للحفاط على القطاع العام السند الاول لمصر ودافع عن السد العالي وتصدي لمحاولات حزب الوفد إلغاء مجانية التعليم..

وقال قولته الشجاعة (لن يدخل الفقير الجامعة بشهادة فقر) وكان هذه المعارك كانت لصالح الأغلبية الساحقة المطحونة من الشعب المصرى وراح يؤكد على أنه لن يبتعد أبدا عن مبادئ ثورة يوليو قائلا (ثورة يوليو انبعثت من ضمير الشعب لتحرر الوطن والمواطن.. فتصدى لها الاعداء بحصار اقتصادى وكبوة عسكرية ولكنها رغم ذلك صنعت مصر المتحررة التى أفلتت من التبعية ومن التخلف وأقامت مجتمع الجماهير العريضة وأيقظت القومية العربية وأنارت الطريق أمام العالم الثالث وتوهم البعض أن الخطوة إلى الأمام قد تتبعها خطوتان إلى الخلف وفاتهم أن مسيرة التاريخ تصحح منحنياته ومنعطفاته).

وكانت رؤيته المستنيرة تجعله يؤكد دوماً على أن مجلس النواب يجب أن يكون على يسار الحكومة يراقب ويصحح المسار وكثيرا ما ترك المنصة ليعبر عن رايه كعضو فى المجلس بحرية، حدث ذلك عند دفاعه عن مجانية التعليم ورفضه بيع مؤسسات القطاع العام وفى هذه القضية كانت له مواجهه شهيرة مع وزير السياحة الأسبق فؤاد سلطان عندما أراد بيع فندق سان استيفانو فى الاسكندرية كما رفض فكرة الجامعة الاهلية التى كانت تعدلا بناء الأغنياء ووضع شروطا صارمة لانشاء مثل هذه الجامعة وتهاوت تلك الشروط بعد رحيله.. وفى كل مواجهاته كان يؤكد على أن الديمقراطية تقوم على الرأى والرأى المعارض والقضية الأساسية هى ضرورة أن تكون السيادة للشعب وقد اتهمه بعض اعضاء مجلس الشعب بأنه يعاملهم مثل التلاميذ فرد عليهم (ليس من حق أحد أن ينكر على أحد رأيه وليكن القرار الذى تنتهى إليه محصلة مختلف الآراء إذ أن رأيا واحد لا يمثل الحقيقة كلها وليست الحرية حقا شخصيا مطلقا يمارسه الفرد يصرف النظر عن حرية الأخرين وعن مصالح الجماعة فالحرية تفقد خارج هذا الاطار كل وجود لها فى مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مما ينتهى بالقضاء على الحرية ذاتها) وفى هذا الاطار تحدث أيضا عن أعداء الحرية قائلا (عرف التاريخ ثلاثة من أعداء الحرية حكاما عضوا بالحرية ومحكومين خافوا من الحرية وآخرين أساءوا استخدام الحرية) وعلى مدى الست سنوات التى ترأس خلالها مجلس الشعب خاصة الكثير من المعارك السياسية الساخنة حيث تعرض لهجمات كثيرة من أحزاب الوفد والتجمع والعمل والتيار الدينى (الاخوان) الذى عمل تحت عباءة حزب الوفد ثم عباءة حزب العمل ورغم أنه كان شديد الاعتداد بالتفس إلا أنه كان يرى فى مخالص أرائه وأفكاره مجرد خصوم وليسوا أعداء ويؤكد ذلك أن مكتبه - أى مكتب- سواء فى الجامعة أو الاتحاد الاشتراكي أو كرئيس لمجلس الشعب كان مثل (المصطبة) تجمع خصوم الرأى والفكر قبل المؤيدين ومن هذا المنطلق كان يردد بشكل دائم (نجاح الديمقراطية مسئولية الأغلبية والأقلية معا.. فما ينبغى للأغلبية أن تنكر على الأقلية حق المعارضة كما لا ينبغى للأقلية أن تنكر على الأغلبية حق اتخاذ القرار فإنكار رأى من هذين الحقين يدفع بالممارسة الديمقراطية إلى طريق مسدود ويؤدى إلى انهيارها وإذا كانت الديمقراطية لا تطيق تسلط أحد ويؤدى إلى انهيارها وإذا كانت الديمقراطية لا تطيق تسلط أحد فإنها أىضا لا تطيق عناد أحد فليست الممارسة الديمقراطية صراعا شخصيا غايته أن يظهر فرد على فرد أو حزب على حزب مما يضيع المصلحة القومية فالقصد من المجالس النيابية أن تعكس إرادة الشعب فى اختلاف الرأى ووحدة العمل فليس اختلاف الرأى غاية فى حد ذاته بحيث يكون خصاما لا لقاء معه إنه السبيل لإظهار الحقيقة ولاتخاذ القرار فالديمقراطية أخذ وعطاء واختلاف ثم لقاء وبذلك تكون الممارسة الديمقراطية ممكنه مستمرة ويكون حكم الشعب بالشعب حقا وصدقا).

وطوال فترة رئاسته لمجلس الشعب عمل د.رفعت المحجوب على إرساء العديد من القواعد السياسية والقانونية فراح فى كثير من الجلسات يشرح فلسفة التشريع ومعنى الديمقراطية (التشريع فى مجتمع التضامن القومى والسلام الاجتماعى ليس انتصارا لفئة على فئة ولكنه إقامة التوازن العادل بين المصالح المتناقصة تحقيقا للمصلحة القومية العليا للشعب والوطن.. ومهمتنا لبناء هذا المجتمع أن نحشد كل القوى الحقيقية المنتجة فى تضامن قومى على أساس العدالة والدمقراطية دون أن نسقط منها قوة ودون أن تطفى قوة على قوة ودون أن نستبعد أحدا ودون أن نقهر أحدا فالمنتاقضات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية هى نسيج الوجود والمجتمع وليست مظاهر فقضى يلزم التغلب عليها باستبعاد أحد أطرافها أو باندماجها فى تأليف أعلى فالمنتاقضات لا تستبعد ولا تندمج وإنما نتعايش وتتكامل وتتصالح فى تضامن قومى) ويضيف عن فلسفة وأهداف الديمقراطية الديمقراطية اسلم الطرق للتقدم ويجب أن نسعى لها سعيا وأن نلزم أنفسنا الحقيقة كلها وذلك لان اعلان نصف الحقيقة إنكار للنصف الاخر وإسقاط للحقيقة كلها كما ان الديمقراطية ليست سوق عكاظ تتعالى فيه الأصوات وتختلط ليقول كل منا كلمة ليستريح إنها أكبر من ذلك وأكرم إنها حوار البنائين من أجل اتخاذ القرار البناء ومن هذا المنطلق فالمعارضة شأنها شأن الأغلبية جزء من النظام الديمقراطي).

اتهمته صحيفة الوفد بأنه يقود تيارا ناصريا داخل نظام الحكم ومعه د.أسامة الباز فرد عليهم بمزيد من الشرح لفلسفة الدولة والنظام الديمقراطى فقال عن الدولة (دولة القوى المنتجة ودولة الجماهير العريضة قد ولدت لتبقى وما ينبغى لها بحجة أو بأخرى أن تتخلى عن مسئولياتها فى حماية مصالح هذه الجماهير وأن تقف من مشكلات الاقتصادية والاجتماعية موقف الحياد فلم يعد ممكنا لأى تفكير سياسى فى نهاية القرن العشرين أن يسقط من حسابه دولة الجماهير العريضة) وهذا التوجه أكبر من أن يكون يساريا أو يمينيا أو ناصريا لأنه توجه إنساني فى المقام الاول وقال عن النظام الديمقراطى (نلتزم بالاسلوب الديمقراطى وبالشرعية الدستورية بالأهداف القومية كى تتم كلمة الشعب صدقا وعدلا ونجاح الممارسة الديمقراطية يلقى على الأغلبية واجبا وعلى الأقلية واجبا فعلى الاغلبية أن تفسح الصدر للآقلية كى تعبر عن رأيها حتى إذا ما صدر القرار كان على الاقلية أن تتقبله برحابة صدر فالقرار الذى يصدر هو قرار الجميع بحيث لا يصح أن ينكره أى طرف فلا إكراه فى الديمقراطية وأيضا لا عناد فى الديمقراطية وذلك لأن الإكراه والعناد يمهدان للديكتاتورية).

ومن أهم الرؤى التى طرحها د.رفعت المحجوب أثناء رئاسته لمجلس الشعب رؤيته عن فلسفة التشريع حيث قال (التشريع ليس انتصارا لطبقة وهزيمة لطبقة لكنه التزام بمصالح المجتمع وبمنطق العصر لأنه أداة للتحرير والتطوير أداه للتأصيل والتنوير واداة لنمو الناتج القومى ولدعم الحرية والسلام الاجتماعى إنه تعبير عن ضمير مصر التى هى أمة وسط ما عرفت التطرف عبر تاريخها الطويل وكرهت الظلم والاستبداد والاستغلال وأصبت العدل والحرية والمساواة هذا فكرنا وهذا التزامنا).

ترك د.رفعت المحجوب بصمات شديدة التميز والوضوح فى كل المجالات التى تحرك فيها فهو الأكاديمى العالم وهو المحامي الشهير فى محكمة النقض ومجلس الدولة والدستورية العليا وهو السياسى المفكر الذى شارك فى الحياة السياسية لمدة ثلاثين عاما (1960-1990) وفى كل هذه المجالات كان يواجه المواقف الصعبة بأعصاب هادئة وانسجام نفس وقدرة فائقة على الاحتواء وأقس هذه المواقف كانت أثناء رئاسته لمجلس الشعب حيث انهالت عليه اتهامات المعارضة فهو الديكتاتور الباطن الذى ينتهك الدستور ويحرم المعارضة من حرية التعبير وهو الذى حول مجلس الشعب إلى أداة للبطش بالرأى الأخر وبخصوصه فى العمل السياسى وغير ذلك من الاتهامات التى كان يرد عليها بكل الهدوء ويرفض أن تتحول الخصومة السياسية إلى عداء إنسانى ومرة واحدة إجتاحه الغضب عندما شكك بعض أفراد من المعارضة فى ذمته المالية غضب لكنه لم يهتز ولم يفقد زمام نفسه وقرر اللجوء إلى القضاء والذى قال كلمته التى برأت ساحة الرجل من أى شائبة فخرج من هذه الأزمة مرفوع رأس موفور الكرامة بعد أن واجه هذا الافتراء بشجاعة كبيرة وثقة عميقة فى النفس وإيمان بلا حدود فى عدالة السماء.

اكتست شخصية رفعت المحجوب السياسى والأكاديمى بكثير من الجدية والصرامة ولكن رفعت المحجوب الإنسان له وجه آخر شديد البساطة والرقى فهو أي شديد الديمقراطية من أبنائه يترك لهم حرية الأختيار وقد أنجب عدة أبناء د.ايمان استاذ بكلية طب القاهرة ود.أمينة أستاذ أيضا بكلية الطب ود.أيمن أستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية.

أما الوجه الذى لم يكن معروفا عن د.رفعت المحجوب فهو أنه كتب الشعر فى بداية حياته وأنه مثقف واسع الاطلاع يمتلك عقلية نادرة يعشق الموسيقي ويحرص على القراءة فى مختلف المجالات (التاريخ- الأدب- الفلسفة- الشعر- الفقة- السنة) وبالطبع كان عشقه الاكبر للاقتصاد والقانون وكان يستوعب ويفهم بعمق كل ما يقرؤه.. ومن أحب الكتب إلى نفسه رواية (قرية ظالمة) تأليف د. محمد كامل حسين كما كان شديد العشق لشعر أمير الشعراء أحمد شوقى ويرد الكثير من أشعاره الوطنية ومنها هذا البيتان وهما من شعر شوقى فى المنفى .

وسلا مصر هل سلا القلب عنها

أو آسي جرحه الزمان المؤس

كلما مرت الليالى عليه

رق والعهد فى الليالى نفس

وبعد رحلة عطاء شديدة الثراء فوجئ العالم فى صباح يوم الجمعة الثانى عشر من أكتوبر 1990 بخبر اغتيال د. رفعت المحجوب على يد الجماعات الإرهابية .. التى نرفع زورا وبهتانا راية الإسلام وقد استشهد معه ستة آخرون أبرزهم المقدم عمر وسعد الشربينى قائد الحرس .. وقد حزنت مصر كلها المعارضون قبل المؤيدين على رحيل هذا الفارس النبيل الذى عاش يسبح ضد التيار مدافعا عن الغلابة والبسطاء الكادحين وبعد الحادث خرجت العديد من التفسيرات أهمها أن المحجوب لم يكن هو المقصود ولكن الهدف كان وزير الداخلية اللواء محمد عبدالحكيم موسى وقيل أيضا إن المحجوب كان العقبة الكؤود أمام سيل الانفتاح الجارف فكان لابد من التخلص منه ورغم كل هذا سيظل د.رفعت المحجوب علامة مضىئة فى التاريخ المصرى المعاصر بعطائه الأكاديمى والسياسى وبما تركه من أفكار ورؤى تمثل ضرورة حتمية لتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.