أطرح عليك عزيزي القارئ هذا السؤال؛ ذلك لأن مثل هذا النوع من الأسئلة لا يستوقفك إلا في حالات نادرة للغاية، كأن تكون على وشك إجراء عملية جراحية مُهَدِّدة للحياة، أو تكون في أزمة طاحنة مع نَّفَرٍ من الناس.
إن دوامة الحياة عادةً ما تجرفك بعيدًا عن هذا السؤال وغيره من الأسئلة المشابهة؛ كالسؤال عن مَنْ سيبتهج لموتك؟
إن كل إنسان يدرك يقينًا أنه سيموت. فخبرته المعيشة تؤكد أن أحدًا لن يفلت من الموت، إن المرء يؤمن إيمانًا قاطعًا بأن كل نفس ذائقة الموت. ومع ذلك فإن المرء يشعر فى تجربة الموت بوجوده الفردى، لأن الفرد يموت وحده، ولا يمكن لأحد من الناس أن يحمل عن غيره عبء الموت، أو أن ينوب عنه فيه. فلا أحد يموت بدلاً من أحد. ولما كان الموت يقف بالمرصاد لكل حي، فإن الإنسان يعي على مستوى الإدراك العقلي أن «الموت علينا حق»، ورغم هذا الإدراك فإن المرء على مستوى الشعور والوجدان لا يتصور موته على نحو واضح. فأنا على يقين أن «فلان مات»، و«فلانة ماتت»، وأن «هو مات»، و«هى ماتت».
إن الذين يموتون هم «الآخرون»، لكن لا توجد سابقة واحدة تقول «أنا مات»، وبالتالي لا أتصور موتي كيف لي أن أتصورني ميتًا؟! كيف يحدث هذا؟ هل أنتهي أنا أيضًا تمامًا وفجأةً، كما انتهى ذلك الإنسان الممدد في النعش أمامي استعدادًا لدفنه في تلك الحفرة المظلمة (القبر)؟!
الموت هو أمر كلي وعام يصيب كل أشكال الحياة، أما إذا نظرت إليه نظرة ذاتية، فلا أتصور موتي أنا.. أنا الذي أفيض حياة وحيوية.. أنا الذي تتأجج بداخلي الشهوات والرغبات.. أنا الذي تتصارع بداخلي الأفكار والإرادات.. «أنا مات» كيف أتصور حدوث ذلك؟!
الموت يلاحقنا من خلال صور متعددة، فحين يموت صديق أو حبيب أو قريب يعتصرنا الحزن، ليس مبعث هذا الحزن هو مجرد فقد إنسان عزيز علينا، وإنما المصدر الحقيقي لانزعاجنا وحزننا هو أن جزءًا من حياتنا غاب أو مات بموت ذلك الشخص الذي رحل. لقد ارتبطنا سنوات طوال بذلك الصديق أو الحبيب، وتشكلت حياتنا وفقًا لاعتيادنا على رؤية ذلك الشخص والالتقاء به يوميًا، وبغيابه يغيب ما اعتدنا أن نمارسه في حياتنا برفقة ذلك الذي مات.
بموت الأحبة يموت ذلك الجزء من حياتنا الذي كان مرتبطًا بهم وهذا هو مبعث الحزن على فراق من نحب. الدليل على صحة ما نذهب إليه من رأي هو أننا بمرور الوقت تتشكل لدينا عادات يومية لا يحتل فيها ذلك الذي رحل مكانًا، وبالتالي يخف الحزن ويتلاشى شيئًا فشيئًا كلما تباعدت فترة فراق الحبيب!! إن حزننا يكون في حقيقة الأمر منصبًا بشكل أساسي على فقدان ما اعتدنا أن نمارسه في حياتنا برفقة ذلك الذي مات، لا على الشخص نفسه، بدليل أنه قد يصل إلى مسامعنا نبأ وفاة شخص لا صلة لنا به من قريب أو بعيد، فنتلقى النبأ دون أن يعترينا الحزن، ودون أن تدمع لنا عين!
الحياة مهما طالت فهى قصيرة، ولن تتوقف بغياب شخص ما؛ مهما بلغت مكانة ذلك الشخص وأهميته، مأساة الحياة ليست الموت، بل ما نتركه يموت بداخلنا ونحن أحياء. ليس كافيًا أن نعرف ما يجب علينا القيام به، فالمعرفة وحدها لا تكفي؛ بل يجب أن وفقًا لتلك المعرفة حتى نحصل على الحياة التي نريدها.
يذكر مؤلف كتاب «من سيبكي عليك حين تموت؟» إنه عندما كان صبيًا صغيرًا؛ نصحه والده قائلاً له: «يا بني .. لقد بكيت صارخًا لحظة خروجك من بطن أمك إلى هذا العالم؛ بينما فرح العالَم بقدومك. عش حياتك يا ولدي بحيث عندما تموت يبكي لفراقك العالَم؛ وتفرح أنت بسبب الأثر الطيب الذي تركته في نفوس كل مَنْ عرفك». ويؤكد المؤلف أن هذه النصيحة التي قدمها له والده لم ينساها أبدًا، وظلت عالقة بذاكرته طوال حياته. (Sharma, Robin S., Who Will Cry When You Die, P. 5.)
نحن نعيش في عصر فقدنا فيه معنى الحياة. إذ في وسعنا السفر إلى القمر والهبوط على سطحه، في الوقت الذي نعجز فيه عن عبور الشارع المجاور من أجل زيارة جارنا الجديد والترحيب به. يمكننا إطلاق صاروخ في جميع أنحاء العالَم بدقة متناهية، ولكننا نواجه صعوبة في الالتزام بموعد مع أطفالنا للذهاب بهم لمشاهدة فقرات السيرك. لدينا البريد الإلكتروني وأجهزة الفاكس والهواتف الرقمية حتى نتمكن من البقاء على اتصال، ومع ذلك فإننا نعيش في زمن زاد فيه تباعد البشر أكثر من أي وقت مضى. لقد فقدنا الاتصال بإنسانيتنا. لقد فقدنا الاتصال بهدفنا. لقد فقدنا رؤية الأشياء الأكثر أهمية.
على فراش الموت، فكر ألدوس هكسلي فيما تعلمه من حياته كلها، وصاغ ذلك في عبارة بالغة البساطة إذ قال: «دعونا نكون أكثر لطفًا مع بعضنا البعض». في كثير من الأحيان، يتوهم المرء أنه لكي يعيش حياة رائعة حقًا، يجب عليه أن نحقق عملاً عظيمًا أو إنجازًا مبهرًا يجعل صورته تحتل أغلفة المجلات والصحف، وشاشات التليفزيونات. لا شيء يمكن أن يكون أبعد عن الحقيقة من هذا الوهم؛ إذ إن الحياة تكتسب معناها من خلال سلسلة من الأفعال اليومية التي تتسم باللياقة واللطف، ومد يد العون لكل محتاج، وإضفاء البهجة على المحيطين به من البشر.
مرةً أخرى أطرح عليك - عزيزي القارئ - هذه الأسئلة:
«من سيبكي عليك عندما تموت؟»
«كم من الأشخاص سيفتقدك حين ترحل؟»
«من سيبكي عليك؟ ومَنْ سيفرح؟»
«هل كان وجودك فارقًا؟ أم أن وجودك وغيابك سيان؟»
«ما تأثير حياتك على مَنْ سيأتي بعدك؟»
«ما هو الإرث الإنساني الذي تركته خلفك بعد أن لفظت أنفاسك الأخيرة؟»
«كم من الخير قدمت؟ وكم من الشرور ارتكبت؟»
الحياة مهما طالت فهى قصيرة؛ فاللحظات تتحول إلى أيام، والأيام إلى أسابيع، والأسابيع إلى شهور، والشهور إلى سنوات، وتتراكم السنوات؛ وسرعان ما سينتهي كل شيء، ولن يتبقى لك سوى قلب مليء بالندم على حياة مرقت كما يمرق الماء من بين أصابعك. سُئل برنارد شو وهو على فراش الموت: ماذا ستفعل لو استطعت أن تعيش حياتك من جديد؟ فكر قليلاً، ثم أجاب بتنهيدة عميقة: «لو عادت بي الحياة من جديد؛ لسعيت أن أكون الشخص الذي تمنيت أن أكونه، وكان في مقدوري أن أفعل ذلك؛ ولكن للأسف لم أحقق شيئًا من هذا».