السبت 27 ابريل 2024

رؤى فلسفية| «رينيه ديكارت».. ومشروعه الفلسفي (1 – 5)

مقالات23-1-2024 | 11:25

ولد رينيه ديكارت (بالفرنسية: René Descartes)‏ في الحادي والثلاثين من مارس عام 1596م في بلدة لاهي بمقاطعة التورين بفرنسا، وهو فيلسوف فرنسي، درس الرياضيات والمنطق والفلسفة، وبعد قيامه بعدة أسفار في أنحاء أوربا، استقر به المطاف عام 1638م في هولندا، حيث عكف على البحث الفلسفي الخالص، وقد استطاع إثبات اليقين الحدسي لحقيقة الأنا أفكر أو الكوجيتو، وتطبيق الجبر على الهندسة والميكانيكا، كما عرف برجاحة منهجه، وطرائف فروضه، وقوة تدليله على وجود الله.

كما كان عالمًا طبيعيًا كبيرًا، حيث كتب الرسائل في «البصريات» و«الآثار العلوية» و«الميكانيكا»، وهو زعيم العقلانية في القرن السابع عشر، وأول من ألف الكتب الفلسفية باللغة الفرنسية، ومن أشهر أعماله «المقال في المنهج» عام1637م، و «التأملات في الفلسفة الأولي» عام 1641م، و«مبادئ الفلسفة» عام 1644م، و«انفعالات النفس» عام 1649م. ورحل عن عالمنا في الحادي عشر من فبراير عام 1650م، عن عمر يناهز خمسة وخمسين عامًا. تاركًا بصمة فلسفية واضحة المعالم، لتكون الضوء الكاشف في فهم وتفسير المشكلات الفلسفية المختلفة. وسنحاول في السطور الآتية وخلال الأربعة أجزاء اللاحقة لهذا المقال، توضيح معالم هذا المشروع الفكري الضخم الذي قدمه لنا ديكارت، والذي كان بفضله شديد التأثير في جميع الفلسفات التالية له، ولنتساءل، كيف كانت أولى خطوات فيلسوفنا؟

أن ديكارت في مرحلة الشباب قد اضطر إلي مغادرة فرنسا لأنه وجد أن السلطة كانت تأبي ظهور أي فلسفة تخالف الفلسفة الرسيمة التي يمثلها ارسطو في ذلك الوقت، وقد هاجر إلي هولندا رغم قسوة بردها طول شتائها، حتي يعيش آمنًا علي حياته، مطمئنًا علي متاعه، وقد جزع جزعًا شديدًا حينما بلغه خبر الحكم علي جاليليو لقوله بحركة الأرض حول محورها وحول الشمس، وكمان ديكارت علي وشك أن يشرح رأي جاليليو في الكتاب المعروف باسم «العالم»، إلا أنه كان يخشي أن يحدث له ما حدث لجاليليو أمام محاكم التفتيش، فأمتنع عن نشر كتابه، وكاد يحرق أوراقه.

كما يبدو أن هذا الحذر الذي توخاه ديكارت قد ظهر بوضوح في آرائه عن العالم والطبيعة، بالإضافة إلى آرائه الميتافيزيقية التي يراها البعض مجرد وسيلة لإرضاء السلطات الغاضبة على أفكاره العلمية. وبالرغم من أن ديكارت قد تأثر تأثيرًا شديدًا بالحكم على جاليليو، إلا أن هذا الحكم الذي عرفه في عهد مبكر نسبيًا من حياته الفكرية في عام 1633م، يعد نقطة تحول في تعامله الفكري مع العالم المحيط به، خوفًا على مصيره. بيد أن ديكارت لم يقصد منهجًا يقتصر تطبيقه على الرياضيات فقط، بل أراد منهجًا عامًا يمكن تطبيقه علي العلوم جميعًا، وبخاصة الفلسفة، وهو ما سنتناوله بالشرح والتفصيل لاحقًا.

وفي هولندا قد تم تجنيده لمحاربة الجيش الاسباني الكاثوليكي في سبيل الحرية، ولم يستطيع ديكارت نشر المقال والرسائل الثلاثة في عام 1637م إلا بعد موافقه السلطات الفرنسية علي طبعه بفضل صديقه مرسن، وقد تعرض ديكارت لاتهامات باطلة لأنه جاء بفلسفة جديدة تختلف عن فلسفة ارسطو السائدة في ذلك الوقت، حيث رفض الخضوع لمبادئ ارسطو، كما أتهم ديكارت بأنه قد نسب لنفسه كل الفضل في بعض الاكتشافات العلمية التي أكتشفها معاصروه، وقد جانب هؤلاء الصواب في مراجعة هذه الاتهامات التي ترجع إلي التشابه بين نتائجه ونتائج غيره في بعض البحوث العلمية، والسؤال هنا، هل جاء ديكارت حقًا بفلسفة جديدة؟

بالطبع عزيزي القارئ، وهو ما جعل معظم الباحثين يطلقون عليه، «أبو الفلسفة الحديثة»؛ ولعل السبب الرئيس كما بينا آنفًا لأنه جاء بفلسفة جديدة ومغايرة لكل الفلسفات التي كانت سائدة قبله طوال عشرة قرون من الزمن ويعنون بذلك فلسفة أفلاطون وأرسطو، والقول أن فلسفة ديكارت جديدة ومغايرة للفلسفة المدرسية التي كانت سائدة في عصره، يعود في الدرجة الأولي، إلي ثورة ديكارت علي المنطق الأرسطي، والعلم الطبيعي الذي نادي به أرسطو، فضلاً عن نقده للفلسفة المسيحية التي كانت سائدة في أيامه، والتي كان يعتبرها امتدادًا للفلسفة الأرسطية؛ وابتكاره منهجًا جديداً للبحث الفلسفي مغايرًا لما ألفناه عند أرسطو وغيره من الفلاسفة، يقول الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل: «يعتبر رينيه ديكارت عادة مؤسس الفلسفة الحديثة، وبحق، كما أظن..».

وقد كان رائدًا أيضاً لنظرية الأفكار الفطرية في العصر الحديث؛ أي أن لدى الإنسان الاستعداد طبيعيًا ليقول بعض الأفكار الأولية مستقيل عن الخبرة الحسية، إذا كانت ضرورية لإبراز هذا الاستعداد من كونه، ومن أمثلة هذه القضايا: لكي أفكر يجب أن أوجد، ما له شكل ممتد، ما يتحرك له ديمومة، من المحال أن يحدث شيء من لا شيء، إن وجد شيء ناقص فلا بد من وجود شيء كامل، ماهية النفس: فكر، ماهية الجسم: امتداد، بالإضافة إلى بديهيات الرياضيات وقوانين المنطق.

أضف إلى ذلك صديقي القارئ إن فلسفة ديكارت هي فلسفة العقل الذي يفتح للإنسان آفاق المعرفة والعلم، ويغزوه بنوره عالم السماء والأرض، فإذا أحسن المرء استعماله، استطاع أن يسخره لخدمة الإنسانية وإسعادها، وحفظ صحتها وتوفير رخائها وتوطيد دعائم السلام بين أفرادها وجماعتها. ولعل من فضل "ديكارت" على الإنسانية المفكرة أن أصبح واضحًا للعيان أن المثل الأعلى للوجود الإنساني هو تحقيق وعي الإنسان بذاته ولمكانه في العالم، بحيث يرد جميع آرائه إلى أفكار واضحة متميزة. ولهذا نُسيب له أكبر الفضل في بناء صرح الاتجاه العقلي الحديث، والسؤال الآن، ما هو الأساس الذي شيد عليه هذا البناء؟ وهل كان ديكارت مُوفقًا في وضع هذا البناء، والذي جعل من فلسفته ما أطلق عليها لاحقًا فلسفة العقل؟ إجابتنا عن هذه التساؤلات ستكون موضوع مقالنا القادم.

Dr.Randa
Dr.Radwa