(تقدَّموا..تقدَّموا/كلُّ سماءٍ فوقَكمْ جَهَنمُ/وكلُّ أرضٍ تَحتَكمْ جَهَنمُ!!/تقدَّموا..يموتُ منَّا الطفلُ والشيخُ..ولا يستسلمُ/وتسقطُ الأمُّ على أبنائها القتلى..ولا تستسلمُ/تقدَّموا..تقدَّموا..بناقلاتِ جُندِكمْ/وراجماتِ حقدكمْ/
وهدِّدوا..وشرِّدوا/ويتُّموا..وهدِّموا/لن تكسروا أعماقَنا/لن تهزموا أشواقَنا/نحن القضاءُ المُبْرَمُ!!)
حلقاتٌ متواصلةٌ من صور النضالِ للمقاومةِ الفلسطينيةِ منها ما اعتمد الحجرَ لغةً للمقاومة طيلة انتفاضة الحجارةِ الأولى عام سبعةٍ وثمانين وما تلاها، ومنها ما اعتمد البارودَ لغةً للصدامِ العادلِ دفاعاً عن حقوقٍ مشروعةٍ في العيْش بكرامةٍ على أرضٍ لا يعيثُ فيها محتلٌّ، ولا يُدنِّس ثراها الطاهر غاصبٌ، وتأتي قصيدةُ الانتفاضة (تقدَّموا) لشاعر الثورة والمقاومة"سميح القاسم" حاول فيها استيعاب حدث الانتفاضة،وصور التصادم الدموي الذي بذل فيها الشعب الفلسطيني أقصى ما يستطيعُ؛ لينال حريته وكرامته، ويحقق آماله وطموحاتِ أبنائه وأحفاده!!
(تقدَّموا..تقدَّموا/طريقُكم وراءَكم/وغدُكم وراءَكم وبحرُكم وراءَكم/وبرُّكم وراءَكم/ولم يزل أمامَنا طريقُنا..وغدُنا..وبرُّنا..
وبحرُنا..وخيرُنا..وشرُّنا..!!/فما الذي يدفعُكم من جُثَّةٍ.. لجُثَّةٍ..وكيف يستدرجُكم..
من لَوْثةٍ للَوثةٍ..سِفٰرُ الجنونِ المُبْهَمُ..!!
تقدَّموا..وراء كلِّ حجرٍ
كفٌّ..وخلف كل عُشبةٍ..حَتْفٌ..وبعد كل جثةٍ..فَخٌّ جميلٌ مُحْكَمُ/وإن نجتْ ساقٌ..يظل ساعدٌ ومِعْصَمُ/تقدَّموا..كلُّ سماءٍ فوقكم جهنمُ/وكل أرضٍ تحتكم جهنمُ..!!)
لقد وفّر"سميح القاسم"لقصيدة الانتفاضة حِسًّا ثورياً صادقاً يتوازي وعظمةُ الكفاح الفلسطيني؛ لتصير القصيدة نصًّا حيًّا مُعبِّراً عن حالة التحدي ومشتعِلاً كبراكين الغضب التي تدفق حممَها لتعلن للعالم أجمع أن استكانةَ الشعب الفلسطيني ضربٌ من المستحيلات..!!جاءت الجملة الاستهلالية"تقدموا"ورغم بساطتها إلا أنها جاءت لتكثُّفَ حالةً من التحدّي الشجاع لجيش الاحتلال بكل أسلحته: مجنزراتٍ..وراجماتٍ.. وأساطيلَ..وطائرات.. وقبَّةٍ حديديةٍ!! بكلِّ ما يمكنُهم أن يتقدّموا،إذا كانوا يملكون الشجاعةَ؛فموازين القِوَى كلُّها معهم،كلُّ ذلك في مواجهة فدائيٍّ يحمل في قلبه اليقينَ بنصر الله،ولا يحمل في يده سوى مقذوفٍ محليِّ به يتوعّد المحتلّين.!! أيُّ إقدامٍ..وأيُّ ثباتٍ يجعل ذلك الفدائيَّ في مواجهة كلًِ هذا العتاد يقف متمهلاً متمتماً بآيات الله قبل إطلاق مقذوفه..لكأنه من جحيم جهنم..!! ورغم الثمن الفادح الذي يقدمه الشعب الفلسطيني إلا أنه راضٍ كلَّ الرضا..أطفالاً.. وشيوخاً..أمّهاتٍ.. وأبناء..!!
(تقدَّموا..تقدًَموا بشهوةِ القتلِ التي تقتلكمُ/وصوِّبوا بدقَّةٍ لا ترحموا/إنَّ نُطْفةً من دمنا تضطرمُ..!!/تقدَّموا ..كيف اشتهيتمُ
فاسترسلوا..واستبسلوا
..واندفعوا..وارتفعوا..
واصطدموا..وارتطموا/لآخر الشوق الذي ظلَّ لكمُ..وآخر الحبل اللذي ظل لكمُ/فكلُّ شوقٍ وله نهايةٌ.. وكلُّ حَبْلٍ وله نهايةٌ.. وشمسُنا بدايةُ البدايةِ..!!/لا تسمعوا..لا تفهموا..تقدَّموا.. كلُّ سماءٍ فوقكم جهنمُ/وكلُّ أرضٌ تحتكم جهنمُ.!!)
لقد استطاع"سميح القاسم" في قصيدة الانتفاضة أن يقدِّم نموذجاً فريداً من السيطرة على مصادر الإيقاع الموسيقي؛ليجعل من وجودها ميزةً شعريةً فارقةً؛إن الظواهرَ الطبيعيةَ تحمل إيقاعَها: فهناك إيقاعُ الرّياحِ،وإيقاعُ فصول السّنةالمناخية، وإيقاعُ الظواهرِ الطبيعيةِ كالمطر،وإيقاع الكائنات الحية:نباتاتٍ وحيواناتٍ!!مما يجعلنا نتساءل: أللمشاعر إيقاعاتٌ..؟!!أو السؤال بصيغةٍ أخرى.. أللمحبّة وكذلك الغضب والحزن وجميع ما يعتمل في القلب..أله إيقاعٌ يختلف باختلاف المشاعر؟!! إننا وبكلُّ اطمئنانٍ يمكننا القولُ:إن للقلب إيقاعاتٍ تختلف حسب نفسيةِ صاحبه، فتختلف نبضاتُ الحبّ عنها في الغضب،وكذلك الرئتان فسرعة التنفُّس وسرعة الدورة الدّمويّة حسب نفسية الإنسان ومزاجه العام..وإذا كان ذلك من سمات البشر العاديين.. فوجود ذلك في الشعراء سيكون أكثر حِدَّةً ووضوحاً.!!
وإذا أردنا تطبيقاً عملياً يوضِّح الظواهر الموسيقيةإجمالاً في قصيدة" تقدًموا" سنركِّزُ على ظاهرتين واضحتين: *ظاهرة التكرار لألفاظٍ محدَّدةٍ كالتكرار المتتالي لكلمة واحدة (تقدَّموا)،أو تكرار جُمَلٍ بعينها،أو تكرار استهلال النص لبناء إيقاعٍ داخليٍّ تعزيزاً لحاسة التوقُّع لدى المتلقي وإثارةً لحماسه وترسيخاً للمعاني التي يريدها الشاعر.
*ظاهرة استخدام الجمل القصيرة المتناغمة حروفها وكأنها سيمفونيةٌ تتجاوب فيها الوتريات والأبواق وإيقاعات الطبول بما لا يدع للمتلقي طريقاً للشرود بذهنه!!
إن خلودَ الشعرِ ينبعُ من عظمة ما يحمله من مضامينَ،أو ما يثيرُه من قضايا في إطارٍ من التجاوب البديع مابين أنغام موسيقاه ومضامينه؛ لذا تتفاوتُ مواهبُ الشعراءِ في الخروج على اللغة المعجمية المعتادة إلى فضاءٍ أكثر أبداعاً؛ليستعيد الشعرُ موقعَه الفاعلَ في الأحداث التاريخيةِ المفصليةِ... ليأتي ختام القصيدة المكتوب أثناء انتفاضة الحجارة عام سبعةٍ وثمانين.. وكأنه نقلٌ تسجيليٌ لهمجية الصهاينة الآن وبثّاً مباشراً لما يُرتكَبُ من جرائم الإبادة..!! إن استشرافَ الشاعرِ المستقبلَ يمنح القصيدةَ حيواتٍ متجدِّدةً تخرج من الإطار الزماني المحدود ليضمن لها الخلودَ، ويجعل منها "رسالةً إلى غزاةٍ لايقرأون..!!"
(تقدَّموا..من شارعٍ لشارعٍ/من منزلٍ لمنزلٍ/من جُثَّةٍ لجُثةٍ/تقدَّموا..يصيحُ كلُّ حجرٍ مُغْتصَبٍ/تصرخُ كلُّ ساحةٍ من غضبٍ/يضجُّ كلُّ عَصَبٍ/الموتُ لا الركوعٍ/موتٌ ولا ركوعْ..!!/تقدَّموا..تقدًَموا..هاهو قد تقدَّمَ المخيمُ/تقدَّمَ الجريحُ..والذبيحُ..
والثاكلُ..والمُيتَّمُ/تقدَّمتْ حجارةُ المنازلِ/ تقدَّمتْ بكارةُ السنابلِ/تقدَّمَ الرضَّعُ..والعُجَّزُ..
والأراملُ/تقدَّمتْ أبوابُ جنينَ ونابلس/أتتْ نوافذُ القدس صلاةَ الشمس/والبخورُ والتوابلُ/تقدَّمتْ تقاتلُ/تقدَّمتْ تقاتلُ/لا تسمعوا..لا تفهموا
تقدَّموا..تقدَّموا/كلُّ سماءٍ فوقكم جهنمُ/وكلُّ أرضٍ تحتكم جهنمُ..!!).