الأحد 12 مايو 2024

معرض القاهرة الدولي للكتاب.. تظاهرة ثقافية لجعل الكتاب في متناول الجميع

د. كريم شغيدل

ثقافة5-2-2024 | 10:15

د. كريم شغيدل
  • تعد معارض الكتب اليوم الواجهة الحضارية لترويج الكتاب الورقي، وقد شكلت في واقع الحال منفذاً واسعاً لجعل الكتاب جزءاً من السيرورة الثقافية للمجتمعات
  • الثقافة كفيلة بترسيخ الوسطية والتسامح وإقامة الحوار الثقافي المتحضر المبني على الوعي بما تشهده المنطقة من تحديات صراع حضاري على الهوية ومحاولات طمس معالمها

 

    في ظل هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي السوشل ميديا، والانتشار الواسع للكتاب الإلكتروني تبقى للكتاب الورقي قيمته الثقافية الخاصة، فعلاقة القارئ بالكتاب الورقي هي الجذر الحقيقي للتواصل، مهما تناسلت من حوله وسائل الاتصال بتقدم تكنولوجيا المعلومات والذكاء الصناعي وغيرهما، تبقى علاقتنا بالكتاب حميمية ودافئة وإنسانية وجدية لأنها تحقق تفعيلاً لمختلف حواس القارئ اللمس والبصر والسمع إذا أراد القارئ، وحتى الشم فللورق رائحة، فضلاً عن تأمل الكلمات والجمل والأفكار وإعادة قراءتها، ولا يغنينا الكتاب الإلكتروني عن الرغبة الحسية في تصفح الكتب، وظاهرة معارض الكتب تعد اليوم الواجهة الحضارية لترويج الكتاب الورقي، وقد شكلت في واقع الحال منفذاً واسعاً لجعل الكتاب جزءاً من السيرورة الثقافية للمجتمعات، فالشعوب عادة تميل إلى الاحتفالية والكرنفالية، والمعارض حققت فكرة الاحتفال بالكتاب ووفرت وسيلة جذب شعبية للكتاب، بدلاً من أن يكون الكتاب أسير المكتبات وأجوائها النخبوية الساكنة، والدليل إنَّ معرض القاهرة الدولي للكتاب يستقطب أكثر من مليوني زائر، وهذا مؤشر ثقافي مهم، القارئ البسيط تجذبه الكرنفالية التي يقدم من خلالها الكتاب، وتجذبه فكرة رؤية المؤلف لحماً ودماً، كما تجذبه فكرة أن يوقع له المؤلف كتاباً سيعتز باقتنائه، على الرغم من أننا تنقصنا ظاهرة الكاتب أو الشاعر النجم، فصناعة النجوم قضية أخرى أكبر من أن تحققها معارض الكتب، وإن أسهمت نوعاً ما بقسط ضئيل.

     كان معرض بيروت الذي انطلق في العام 1956 أول معرض للكتاب العربي، ثم تلته المعارض العربية، أما معرض القاهرة الذي انطلق في العام 1969 باقتراح من السيد وزير الثقافة ثروت عكاشة وبإشراف الكاتبة الكبيرة الدكتورة سهير القلماوي، فإنه يشكل اليوم أكبر معارض الشرق الأوسط، ويعد ثاني أكبر معرض بعد معرض فرانكفوت الدولي على مستوى العالم، ونلمس بصورة حقيقية مدى التطور الذي يشهده المعرض سنوياً، فهو لم يقتصر على معروضات دور النشر، بل هو كرنفال ثقافي تتنوع فيه الفعاليات من ندوات وحفلات توقيع وعروض سينمائية ومسرحية وموسيقية ومسابقات ثقافية، وبات يشكل جزءاً من ثقافة المواطن المصري أسوة بالمهرجانات السينمائية والمسرحية والفنية المختلفة.

     الشعب المصري الشقيق من أكثر شعوب المنطقة ميلاً للاحتفاء بالأشياء، بل هو صانع فرح ومسرات ويتمتع بروح احتفالية تمنح الأشياء قيمتها، والمثقف المصري أكثر التصاقاً من سواه بالشارع المصري وهمومه وآلامه وآماله وتطلعاته، وأكثر من سواه إسهاماً بتشكل الوعي، ليس على مستوى مصر فحسب وإنما على مستوى الوطن العربي عموماً، ومصر سباقة في حركة الفكر العربي النهضوي التحرري ومنها انطلقت مؤلفات الفكر والنقد والفلسفة، ومنها بدأت حركات الأدب والفن عموماً، فمنها انطلق المسرح بصورته الأوسع، وهي معقل السينما العربية، وموئل الموسيقى العربية الحديثة، ومنها انطلقت الرواية العربية، فليس غريباً أن يشكل معرضها الدولي للكتاب تظاهرة ثقافية كبيرة ينتظرها المهتمون سنوياً، ويتزايد الإقبال عليها.

     لم يعد معرض القاهرة خاصاً بالمصريين، بل شهدت السنوات الأخيرة إقبالاً عربياً واسعاً، ولو قدمت الجهات المسؤولة تسهيلات أكثر لشهدنا توافد أعداد مهولة من لدن الشباب العربي، والتسهيلات التي نعنيها تخص مثلاً منح التأشيرة بدون تأخير، وتخفيضات مادية بنسب معينة في النقل والفنادق وأسعار الكتب وأوزان الشحن عند العودة، والتنسيق مع اتحادات الأدباء والكتاب العرب على تشكيل مجموعات(كروبات) سفر، عدا الدعوات الرسمية التي يتمتع بها بعض المسؤولين، ببطاقات سفر مدعومة وتسهيلات أخرى كما أسلفنا، وقد بادر اتحاد الأدباء والكتاب في العراق في السنوات الماضية بإقامة سفرات جماعية وفرت حضوراً ملائما للعديد من أعضائه.

    معرض القاهرة الدولي للكتاب اليوم بات جزءاً من ذاكرة ثقافة فاعلة في الشرق الأوسط والعالم، وتأتي إقامته في هذه المرحلة الحرجة بمثابة التحدي الثقافي رداً على ما تشهده المنطقة من هيجان وصراعات وتطرف وفتن وغليان وجودي ووعي جديد بإزاء القضايا القومية المصيرية، فالثقافة كفيلة بترسيخ الوسطية والتسامح وإقامة الحوار الثقافي المتحضر المبني على الوعي بما تشهده المنطقة من تحديات صراع حضاري على الهوية ومحاولات طمس معالمها، وما تشهده قضية العرب الأولى فلسطين من تحولات على خلفية الحرب في غزة، وليكن معرض هذه السنة وقفة حقيقية لرفع لواء الثقافة العربية بوجه الهجمة الصهيونية المتوحشة على قطاع غزة، وليشكل موقفاً عربياً رافضاً لوحشية الكيان الصهيوني وإنقاذ الطفولة الفلسطينية التي سحقتها مجنزرات الكيان المسخ الذي يدعي الديمقراطية وبدعم من العالم الذي يدعي حقوق الإنسان وعلى مرأى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فما دور المثقف؟ وما دور الثقافة؟ وما دور التظاهرات الثقافية؟ إن لم تسهم بوقف نزيف الدم؟ ما دور الثقافة إن لم تفضح على أقل تقدير وحشية العدو الجلاد وتصطف إلى جانب الضحية؟ العرب شعوباً وأنظمة يقفون الآن موقف المتفرج، بينما أميركا وحلفاؤها يدعمون الكيان الصهيوني سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً، ما الذي قدمناه لأطفال غزة ونسائها وشيوخها وجرحاها وشهدائها؟ ليكن معرض القاهرة الدولي متنفساً لإيصال الصوت العربي إلى العالم أجمع، ولتكن فلسطين هدفاً وغاية في تشكيل خطابنا الثقافي بعيداً عن الشعارات الاستهلاكية، فالمثقف العربي اليوم يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية وهو الأكثر وعياً وإدراكاً لخطر التحديات، فمهما اختلفت المواقف السياسية للأنظمة تبقى قضية فلسطين قضية وجود عربي، ولا نمتلك الآن سوى أقلامنا التي تتكسر أحياناً على عتبات السلاطين، لا نمتلك سواها لنقول للعالم كفى.. سبعون عاماً مرت على احتلال العصابات الصهيونية لأرض فلسطين، سبعون عاماً من القتل والإبادة والمجازر البشعة، سبعون عاماً من الاضطهاد والفصل العنصري ومصادرة الحقوق، سبعون عاماً من الاستهتار بقررات مجلس الأمن والقوانين الأممية.

     كلنا ثقة بقاهرة المعز عاصمة العروبة بثقلها الحضاري والتاريخي والسياسي وحيوية شعبها أن يكون معرضها لهذا العام مختلفاً وملبياً لطموحات الشارع العربي، وأن يسهم فعلياً بإيجاد نقطة تحول حقيقية في الوعي العربي، ويبقى معرضها علامة ثقافية مهمة ومثابة تأسيسية للثقافة العربية لكونه الأكثر استقطاباً والأكبر والأوسع نشاطاً، وإن لم أزره شخصياً، لكنني منذ سنوات وأنا أتابعه عن كثب عبر مختلف الوسائل المتاحة وأرى فيه تظاهرة ثقافية جادة تحث وتحرض وتخطط وتسهم وتسعى لجعل الكتاب في متناول الجميع.

Dr.Radwa
Egypt Air