- كانت مرحلة الستينيات، في جانبها الثقافيِّ مرحلةَ ازدهارٍ أدبيٍّ وفكريٍّ وفني، وكان الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة في أكثر سنواتها، واحدا من أكبر صنَّاعها
- كان الدكتور ثروت عكاشة مهتمًّا بالأدب العالمي، واسعَ الاطلاع عليه، ومتمكِّنًا من أكثر من لغةٍ أجنبية، وقد نقل إلى العربية جملةً من روائعه
- مما يفتح باب الأمل والاطمئنان على مستقبل الثقافة في مصر، ما نجده من إقبال القراء من كل الأعمار والطبقات، على زيارة معرض الكتاب، والتزود منه بما يريدون ويقدرون عليه
منذ خمسٍ وخمسين سنة، وفي الثالث والعشرين من شهر يناير 1969 على وجه التحديد، كانت القاهرةُ على موعدٍ مع أولِ معرضٍ دوليٍّ للكتاب بأرض المعارض بالجزيرة، دار الأوبرا المصرية حاليًا، اقترح فكرته الفنان عبدالسلام الشريف، ليواكبَ احتفالاتِ مصرَ بالعيد الألفيِّ لمدينة القاهرة، وحين عرضَها على الدكتور ثروت عكاشة، وزيرِ الثقافة في ذلك الوقت، رحَّبَ بها كثيرًا، وعَهِدَ بتنفيذِها إلى الدكتورة سهير القلماوي، التي كانت تَشْغَلُ أيامَها مَنصِبَ رئيس المؤسسة العامة للتأليف والنشر، وهي ما سوف تُعرَف بعد ذلك بالهيئة المصرية العامة للكتاب.
كان الهدفُ الأكبرُ من إقامة هذا المعرض أن يتيحَ الفرصة للناشرين لكي يلتقوا ويتدارسوا أمرَ الكِتاب وقرَّائه، وقد استمرَّ في نسخته الأولى ثمانية أيام، واشترك فيه ناشرون كثيرون، من العرب والأجانب، سوف يتضاعف عددهم في مستقبل السنوات، وبيعت فيه أكثر الكتب بأسعار زهيدة، توشك أن تكون رمزية، وقد كانت في مجملها هادفةً وقيِّمة، وهو ما شجع القراء والباحثين على أن يترددوا عليه، ويشدُّوا الرحال من أقصى البلاد إليه.
وللتاريخ، لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُقامُ فيها معرضٌ للكتاب في القاهرة؛ فقد حدث أن أقيم بها معرضٌ للكتاب العربي في أبريل 1946، حضره وزير المعارف العمومية وقتها، ونخبةٌ من كبار رجال الدولة ورموز العلم والفكر والأدب. ثم جاء ما كان يسمَّى "أسبوع الثقافة" أو "مهرجان الكلمة العربية" سنة 1963، غير أنه لم يستمر طويلًا، ويبدو أنه لم يلقَ من المسئولين اهتمامًا يغري بإعادته أو إقبال الجمهور عليه.
لم يكن أحدٌ يتوقع لمعرض القاهرة الدوليِّ ما حققه من نجاح، ربما لأن التجاربَ التي سبقته لم تكن تبشِّر بما سوف يكون له من أثرٍ هائلٍ في قابل الأعوام، وقد ذكر الدكتور فؤاد زكريَّا، وكان أيامَها واحدًا من أبرز المثقفين المصريين وأستاذًا للفلسفة في الجامعة، إن يوم الافتتاح كان مُكفهرَّ الجو، منهمر المطر، شديد البرودة، "وكنتُ أحسبُ، وأنا مدعُوٌّ إلى يوم الافتتاح، أني لن أجدَ إلا نفرًا قليلًا من المتجلدين الذين لن يملكوا، لسببٍ أو لآخرَ، أن يرفضوا الدعواتِ الموجهةَ إليهم لحضور الافتتاح، بل لقد بلغ بيَ التشاؤمُ حدًّا ظننت معه أني قد أعودُ بعد دقائقَ من حيث أتيت، وأن الافتتاح قد يؤجَّل إلى وقتٍ آخر أنسب، في جوٍّ أفضل.. وما أن اقتربتُ من أبواب المعرض حتى شاهدتُ ما لم أكن أتوقع، وما لم يكن يتوقعه أشدُّ الناسِ تفاؤلًا بنجاح هذا المعرض".
كان الإنسانُ المصريُّ الأصيلُ، بتاريخه الضارب في أعماق الزمن وحضارته العظيمة التي علَّمَت الدنيا، وراء ما حققه هذا المعرض من نجاح؛ أيامها كانت مصرُ تُضَمِّدُ جراحَها الناغرةَ بعد نكسة يونيو، وتخوضُ حربَ استنزاف ضروسًا مع عدوٍّ حاقدٍ وغاشم، تحاولُ بها أن تستردَّ كرامتها الضائعة وتستعيدَ أرضَها المحتلة، وتثبتَ في الوقت نفسِه أنها أُمَّةٌ متحضرةٌ حقًّا، تقرأ وتفكِّرُ وتكتب، وكأنها تحاربُ الهمجيةَ بالثقافة، وتقاومُ العدوانَ بالمعرفة، وتواجِهُ الإرهابَ بالإبداع.
كانت مرحلة الستينيات، في جانبها الثقافيِّ على الأقل، رغم كل ما يمكن أن يقالَ عنها في جوانبَ أخرى، مرحلةَ ازدهارٍ أدبيٍّ وفكريٍّ وفني، لا أتجاوز الحقيقة إذا قلت إن الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة في أكثر سنواتها، واحدٌ من أكبر صنَّاعها، إن لم يكن أكبرَهم على الإطلاق. لم يكن مجرد مسئولٍ كبير يدير وزارة مهمة، بل كان في الوقت ذاته كاتبًا كبيرًا ومترجمًا قديرًا، ومثقَّفًا من الطراز العالي، ولكي نفهم لماذا نجح معرض الكتاب في عهده، أو حتى من بعده، لابدَّ أن نتوقف عنده قليلًا.
لقد كان يؤمن بأن الثقافة هي أن نعرف خيرَ ما انتهى إلينا قولًا وفكرًا في شتَّى أرجاء العالم، وأنها ملتقى علومِ الحياة؛ فهي كالبحر تَصُبُّ فيه أنهارُ المعرفة جميعًا، علمًا وفلسفةً وفنًّا وأدبًا، وكان من رأيه أن المعرفة تدعو إلى الوحدة والتآلف، على حين أن الجهلَ تتبعُه الفُرقةُ والتشتُّت، ويذهبُ إلى أن الثقافة القومية، في عصرنا الذي نعيشه، لا يمكن أن تزدهر إلا إذا عبَّرَت عن فئات المجتمع المختلفة في المدينة والقرية على السواء، ليس من قبيل الاشتراكية الثقافية فحسب، بل من باب الواجب الذي يفرضه العدل بين الناس. فإذا أهملتَ فئةً من تلك الفئات كانت ثقافة ينقصها الشمول، ولا قيام لثقافة جامعة إلا إذا مكَّنَّا الكلَّ من الارتشاف من المناهل الثقافية، لا فرق في ذلك بين طبقةٍ وطبقة، ولا بين فردٍ وفرد، ولا يمكن أن تقوم نهضةٌ ثقافية حقيقية قبل إزالة الحواجز القاسية والفواصل المنيعة بين طبقات المجتمع.
لعلَّ ذلك هو ما جعله ينشأ في أوائل الستينيات من القرن الماضي أربع سلاسل دورية، لا يزال أثرُها العميقُ ممتدًّا في كثيرٍ من القراء والباحثين إلى يوم الناس هذا، وأذكر أنني حين زرت معرض الكتاب للمرة الأول منذ ما يقرب من أربعين سنة، وقعت على كثيرٍ من كنوزها الثمينة، واشتريتها بالسعر الذي كانت تباع به أيام صدرت أولَ مرة، وكان منها ما يباع بقرشين أو ثلاثة، وأغلاها لا يتجاوز العشرين قرشًا، وكنت في بعض السنوات أتردد على المعرض مرتين أو ثلاثًا، وفي كلِّ مرةٍ أشتري بجنيهاتٍ معدودةٍ ما يزيد عن خمسين كتابًا.
كانت سلسلة "تراث الإنسانية" أولى هذه السلاسل، وقد أخرجَتها هيئة الكتاب مجتمعة في ثمانية مجلدات كبار، ضمن إصدرات مكتبة الأسرة سنة 2016، وهي دراسات علمية بأقلام كبار الكتاب والمختصين لأمهات الكتب العربية والإفرنجية التي أثرَت الفكر العالمي والفكر العربي، وقد صدر منها أكثر من مائة عدد. وثانيتُها سلسلة "المكتبة الثقافية"، وكل إصداراتها من كتب الجيب، استهدفَت إثراءَ القارئ العادي بمعرفة ذاته وتراثه والكون الذي يعيش فيه، ومساعدته على بناء حياته بالمعرفة والفهم، وقد ظلت تصدر مرتين في الشهر، وطُبِعَ منها أكثر من أربعمائة كتاب.
أمَّا ثالثة هذه السلاسل فهي "أعلام العرب"، وقد أفدتُ منها شخصيًّا أيما فائدة، واقتنيت منها قريبًا من مائة كتاب، وكانت رافدًا مهمًّا من روافد تكويني الثقافي، فيما يتصل بأعلام تاريخنا العربي، السياسي والأدبي والديني، قديمًا وحديثاً، ومن خلالها كانت قراءاتي الأولى، الواسعة والعميقة، عن محمد عبده والمعتمد بن عباد وجابر بن حيان وعبد الرحمن بن خلدون وابن تيمية ومعاوية والطبري وابن الفارض والزهاوي والمعري والجاحظ والبارودي وعمر مكرم، وآخرين كثيرين غيرهم. وكم أتمنى أن تعيد قصور الثقافة أو هيئة الكتاب طباعتها بسعر مناسب، بدلًا من المطبوعات الهزيلة التي تزحم المخازن ولا تجد من يقرؤها.
وكان الدكتور ثروت عكاشة مهتمًّا بالأدب العالمي، واسعَ الاطلاع عليه، ومتمكِّنًا من أكثر من لغةٍ أجنبية، وقد نقل إلى العربية جملةً من روائعه، لعلَّ من أهمها الأعمال الكاملة لجبران خليل جبران، ومسخ الكائنات وفن الهوى لأوفيد، وسروال القس لثورن سميث، ومن هنا كان حرصه على إصدار سلسلة "مسرحيات عالمية"، وقد كانت نافذة كبرى أطللت منها، أنا وكل من قرأها، على ما أبدعه عمالقة الفن المسرحي منذ أيام الإغريق العظام حتى العصر الحديث.
ويذهب الدكتور ثروت في كتابه القيِّم "مذكراتي في السياسة والثقافة"، إلى أن هذه السلاسلَ في عمومها قد اضطلعت بما كان يُعوِزُ الثقافةَ والمثقفين، إذ أتاحت فرص القراءة أمام الآلاف العديدة من القرَّاء، فحققت ما يمكن تسميته بشعبية الثقافة؛ فلقاءَ قروشٍ قليلةٍ كان القارئُ المصريُّ يزوَّد بزادٍ ثقافيٍّ قيٍّم، لا تبخلُ الدولةُ بدفع العجز في ميزانية نشره، إيمانًا منها بأن زاد الشعب الثقافي لا يقلُّ قيمةً عن زاده المادي، وبألا يكون التوسع في تقديم الخدمة الثقافية على أساس من هبوط المستوى.
لقد كان الشعارُ الذي ينادي بأن الثقافة للشعب مقترنًا على الدوام بأن حق الشعب هو أن يحصل على الثقافة الرفيعة في صورةٍ مبسَّطة، وبأسعارٍ زهيدة في متناول قدرته. ولقد كانت هذه السلاسل وسيلةً فعالةً للمساهمة في إرساء قاعدة عريضة للقراءة في البلاد، وفي إغراء القراء بالمطالعة واقتناء الكتب، فكان أن أصدرت الوزارة تلك السلاسل من وغيرَها لتباع ـ ولأول مرة ـ بأقل من تكلفتها. وإلى جانب هذه السلاسل أصدرت الوزارة كتبًا مختلفة تنتظم المعارف العامة، والفلسفة، والدين، والاجتماع، والفنون، والعلوم البحتة، ثم جاء من بعدها العناية بنشر كتب التراث، مشروحة ومحققة، وهو ما أسمِّيه بالنشر الثقيل، فصدر منها، مثالًا لا حصراً، لسان العرب والأغاني والنجوم الزاهرة وصبح الأعشى ونهاية الأرَب، وكانت كل مجموعة من هذه المجموعات تُباعً كاملةً بجنيهات معدودة، تصل أحيانًا إلى عُشر الثمن الذي كانت تباع به من قبل!
هل طال حديثي عن الدكتور ثروت عكاشة أكثر مما يجب؟ ـ لا أعتقد؛ فهو يستحق أضعافَ ذلك. هل ابتعدت عن الكلام الذي بدأتُ به هذا المقال؟ ـ لا أظن؛ فنحن لا نزالُ في حضرة الكتاب، نشرًا وتأليفًا وصناعة، وفي معيِّة واحدٍ من أبرز من ساهموا في تشكيل وعينا الثقافي الحديث، مؤلِّفًا ومترجمًا ووزيرًا، ولعلنا في حاجة إلى أمثاله في كل مؤسساتنا الثقافية، وغير الثقافية، هذه الأيام، فالمصريون يستحقون أن نُعنَى بعقولهم مثلما نُعنَى بأجسامهم، والثقافة الرفيعة في هذه الأيام ليست ترفًا ولا ترفيهًا؛ ولكنها ضرورةٌ مُلِحَّةٌ من ضرورات الحياة المعاصرة، تجعلنا نسابق الأمم في مجال المعرفة الإنسانية، ولا نخجل حين نجدهم يقرءون ولا نقرأ، ويعرفون ولا نعرف، ويتقدمون ولا نتقدم.
ومما يفتح باب الأمل والاطمئنان على مستقبل الثقافة في مصر، ما نجده من إقبال القراء من كل الأعمار والطبقات، على زيارة معرض الكتاب، والتزود منه بما يريدون ويقدرون عليه. لقد كنت أظن سنة نُقِل المعرض من مكانه القديم بمدينة نصر، إلى موقعه الحالي في التجمع الخامس، أنه صار بعيدًا عن متناول البسطاء من أمثالي، مكانًا وتكلفة، وكنت أقول إن القراء الذين لا يكادون يجدون ما ينفقون، سوف لا يفكرون في شراء الكتب وقد أصبح أكثرها فوق طاقتهم، حتى تلك التي تخرجها هيئة الكتاب، وهي مؤسسة حكومية، ويفترض في مطبوعاتها أن تكون في متناول الناس، ولشدَّ ما كان ذهولي حين ذهبت إلى أرض التجمع، حين أقيم بها المعرض لأول مرة، ورأيت آلاف الزوار يتوافدون عليه، ومنهم من كان يصحب معه زوجته وأولادَه، وعلى وجوههم جميعًا علامات الفرح والسعادة، فأيقنت ساعتها أننا أمام ظاهرة مصرية خالصة، تُعيد إلينا ما ذكرَته كتبُ التاريخ عن حب المصري القديم للقراءة والمعرفة، وحرصِه على أن يقرأ الكتب ويقتنيَها حتى لو لم يكن يجد قُوتَ يومه. وقلت في نفسي إن هذا عُرسٌ ثقافيٌّ فعلًا، وسمحت لنفسي يومها أن أصفه بأنه "مولد سيدي الكتاب"، وأنه "مولد وصاحبه حاضر"!
وتذكرت ما قاله المستشرق الإسباني خوليان ريبيرا Julian Ribera في كتاب "التربية الإسلامية في الأندلس"عن معلِّمٍ قرطبيٍّ فقير، يساعده ابنُه وابنتُه في تعليم الصبيان والبنات، وينفق القليلَ الذي يدَّخرُه من دخله في شراء الكتب، ويمكن أن تراه في ملابسَ جد متواضعة، ويتناول طعامًا أشدَّ تواضعًا، ولكن مكتبته تعكس بوضوحٍ إلى أيِّ حدٍّ يمكن أن يبلغ حبُّ الكتب بصاحبه، حتى عند أصحاب الدخول المحدودة، والأرزاق المتواضعة.
أمَّا إذا فاتك أن تزورَ معرض الكتاب هذا العام، وتعودَ منه بما تريد، فليس أقلَّ من أن تعيد قراءة هذا المقال، وألا تندم على ما قد كان؛ فليس من الضروري أن يحصل الإنسانُ على كلِّ ما يريد، وإن كان من اللازم أن يحاول ذلك قدرَ ما يستطيع!