- معرض القاهرة الدولي للكتاب عُرْس ثقافيّ مبهج يحيي فينا حالة ثقافية خاصة ومبهرة، ويذكرنا بالثلاثية الإنسانية الخالدة: "الكتابة/ الكاتب/ الأدب"
- هدم "برستد" بكتابه النظريات الراسخة في أذهان الكثيرين القائلة بأن الحضارة الأوروبية أخذت عن العبرانيين، ويثبت أن مصر أصل حضارة العالم ومهدها الأول
- حافظت النصوص القديمة على شكلها الهيروغليفي حتى العصور الأخيرة من الحضارة المصرية حتى اندثار الحضارة الفرعونية، وتم استبدالها بالنظم الكتابية الأخرى
- يُصنّف علماء المصريات الأدب المصري القديم إلى أنواع عدة، منها الرثاء والخطابة والوصايا والتعاليم ورسائل، وقصائد وأغان، وتراتيل ونصوص الآخرة
يعد معرض القاهرة الدولي للكتاب عُرْسًا ثقافيًّا مبهجًا لمصر والمصريين؛ فانعقاده في دورته الخامسة والخمسين، في ظلال الجمهورية الثالثة لدولتنا، دليل على القِيَم الحضارية الثابتة والقُوَى الناعمة النافذة لمصرنا، ولعل إقبال الملايين من المصريين وغيرهم من القراء والمثقفين من خارج مصر، عليه، في دوراته السابقة، ما يحيي فينا هذه الحالة الثقافية الخاصة والمبهرة، وما يذكرنا بهذه الثلاثية الإنسانية الخالدة: (الكتابة/الكاتب/الأدب)، وما يشعرنا بقيمة الآثار الفرعونية التليدة في مجال الكتابة والكُتَّاب؛ فهذا تمثال (الكاتب المصري أو الكاتب الجالس)، الذى تم العثور عليه في منطقة آثار سقارة، والذي قرر عنه مؤرخو الآثار المصرية أنه يعود إلى عصر الدولة القديمة، وتحديدًا إلى الأسرة الخامسة [2465-2323 ق.م]، وأنه مصنوع من الحجر الجيري الملون، والعين من حجر البللور، والكالسيت، والنحاس، وأنه يبلغ ارتفاعه (51 سم)، وهذا التمثال، وخلافًا لمعظم التماثيل الحجرية، تم تحرير الأذرع من الجذع، وهو غير منقوش؛ لذلك مازال صاحبه مجهولاً وهو منحوت بمهارة. وقد حرص المسؤولون في الدولة القديمة على وجود تماثيل لهم في مقابرهم، تُمثِّلهم في وضع الكاتب، حيث الساقان متربعتان، عليهما ورقة بردى مفرودة، والقلم في اليد اليمنى؛ استعدادًا للكتابة، وكانت كثرة القوائم المكتوبة في المقبرة لتزويد المتوفى بطريقة سحرية بكل ما يرغب فيه في العالم الآخر!
وقد أحسن القائمون على إدارة ذلكم المعرض في اختيار شخصية المعرض هذا العام ممثلة في الدكتور سليم حسن(1893-1961م)، هذا العالم المصري الأثري الكبير، والمثقف المستنير، الذي يُلقَّب بعميد الأثريين المصريين؛ إذ له جهود بارزة في العديد من الاكتشافات الأثرية في المنطقة المحيطة بأهرامات الجيزة، وفي توثيقها والتعريف بها في مؤلفات له بعضها باللغة العربية، وبعضها باللغة الإنجليزية، وثالثة باللغة الفرنسية... ومن أهمها (موسوعة مصر القديمة( المكونة من ثمانية عشر مجلدًا، وكتابه(جغرافية مصر القديمة)، وكتابه(الأدب المصري القديم أو أدب الفراعنة). كما ترجم كتابًا مهمًّا، سنة 1956م، في تاريخ الحضارة المصرية هو كتاب «فجر الضمير» الذي وضعه الأستاذ «برستد» في عام ١٩٣٤م، والذي يقول عنه في مقدمة ترجمته إياه: "وهو في الواقع مؤلف يدلل على أن مصر أصل حضارة العالم ومهدها الأول؛ بل في مصر شعر الإنسان لأول مرة بنداء الضمير، فنشأ الضمير الإنساني بمصر وترعرع، وبها تكونت الأخلاق النفسية. وقد أخذ الأستاذ «برستد» يعالج تطور هذا الموضوع منذ أقدم العهود الإنسانية، إلى أن انطفأ قبس الحضارة في مصر حوالي عام ٥٢٥ قبل الميلاد؛ فمصر في نظره حسب الوثائق التاريخية التي وصلتنا عن العالم القديم إلى الآن، هي مهد حضارة العالم؛ وعن هذه الحضارة أخذ العبرانيون، ونقل الأوروبيون عن العبرانيين حضارتهم، وبذلك يكون الأستاذ «برستد» قد هدم بكتابه الخالد هذا، النظريات الراسخة في أذهان الكثيرين القائلة بأن الحضارة الأوروبية أخذت عن العبرانيين. كتاب «فجر الضمير» الذي وضعه الأستاذ «برستد» في عام ١٩٣٤، وهو في الواقع مؤلف يدلل على أن مصر أصل حضارة العالم ومهدها الأول؛ بل في مصر شعر الإنسان لأول مرة بنداء الضمير، فنشأ الضمير الإنساني بمصر وترعرع، وبها تكونت الأخلاق النفسية. وقد أخذ الأستاذ «برستد» يعالج تطور هذا الموضوع منذ أقدم العهود الإنسانية، إلى أن انطفأ قبس الحضارة في مصر حوالي عام ٥٢٥ قبل الميلاد. فمصر في نظره حسب الوثائق التاريخية التي وصلتنا عن العالم القديم إلى الآن، هي مهد حضارة العالم؛ وعن هذه الحضارة أخذ العبرانيون، ونقل الأوروبيون عن العبرانيين حضارتهم، وبذلك يكون الأستاذ «برستد» قد هدم بكتابه الخالد هذا، النظريات الراسخة في أذهان الكثيرين القائلة بأن الحضارة الأوروبية أخذت عن العبرانيين. على أن هذا الرأي لا يزال يعتنقه بعض من لم يقرأ كتاب «برستد» إلى الآن، وكأن هذا الأثري العظيم بكتابه هذا قد أظهر للعالم أجمع بأن المصدر الأصلي لكل حضارات الإنسانية، هي مصرنا العزيزة؛ لذلك يخيل إليَّ أن «مصطفى كامل» حينما قال: «لو لم أُولد مصريًّا لوددت أن أكون مصريًّا» كان يحس في أعماق قلبه وفي دمه، ما سيظهره الأستاذ «برستد» للعالم عما كان لمصر من السيادة المطلقة والقَدَم السابقة، في تكوين ثقافة العالم، وفي وضع أسس الأخلاق وانبثاق فجر الضمير الذي شعَّ على جميع العالم. ولا غرابة في إحساس «مصطفى كامل» بهذا الشعور، وبتلك العزة القومية والعظمة النفسية التي عزز صدقها «برستد» عام ١٩٣٤، وهو العام الذي ظهر فيه كتابه «فجر الضمير»؛ فإن البلاد العريقة في المجد كالشجرة المباركة الطيبة، تؤتي أكلها كل حين، وتنبت بين آونة وأخرى أفذاذًا تجري في دمائهم قوة العزة القومية والمجد التليد؛ فيشعرون بعظمة بلادهم، وما كان لها من تاريخ مجيد، فتنطلق ألسنتهم معبرة عن ذلك بالإلهام المحض.
كما أحسن القائمون على هذا المعرض في دورته هاته باختيارهم الأستاذ يعقوب الشاروني(1931-2023م) ليكون شخصية المعرض في مجال كتاب الأطفال؛ فهو كاتب وصحفي مصري من رواد أدب الأطفال في مصر والعالم العربي، وكان يكتب بابًا ثابتًا في جريدة الأهرام تحت عنوان (ألف حكاية وحكاية منذ عام 1981م). وهو حائز على جوائز محلية في مجال التأليف للأطفال، وفي عام 2002م فاز كتابه «أجمل الحكايات الشعبية»، بجائزة «الآفاق الجديدة» من معرض بولونيا الدولي لكتب الأطفال بإيطاليا، وهي جائزة تُمنح لكتاب واحد على مستوى قارات آسيا وأمريكا الجنوبية وإفريقيا وأستراليا، وهي واحدة من أهم جائزتين يمنحهما المعرض سنويًّا على مستوى العالم. وقد أشاد بإبداعه كبار الأدباء والنقاد في مصرنا. وقد بلغ عدد الكُتب التي كتبها للأطفال وتم نشرها أكثر من 400 كتابًا، وبعضها طبع عشرات المرات ...
وإن هذا المعرض الخاص بفن الكتابة وأنماط الكُتَّاب محليًّا وعربيًّا ودوليًّا، لَيستدعي منَّا أن نرجع إلى ماضينا المجيد في هذا المجال الثقافي الحَيَوي؛ إذ يعد اختراع الكتابة من أعظم المعالم الحضارية التي نشأت في مصر القديمة، وكانت الغاية العظمى من هذا الاختراع الإستراتيجي تسجيل الأعمال والإنجازات؛ لتبقى خالدة على مدى العصور؛ فقد استخدم الفراعنة الكتابة في جميع شئون حياتهم، في المشاعر الدينية على جدران المعابد والأهرامات، واستخدمت في الشئون العامة والاوامر الملكية، واستخدمت في التعليم والأدب والتثقيف عصرئذٍ، فما أجمل أن يعيش الإنسان في وطن يَحتَفي بالقلم وأصحابه منذ زمان عتيق سحيق، وما زال يَحتفي بهما إلى الآن، وهي مصر في كل أعصارها التي مرت بها قديمًا وحديثًا ومعاصرًا، فالكتابة عند المصريين القدماء تعد نشاطًا حضاريًّا يوميًّا وإرثًا ثقافيًا دالاًّ؛ إذ تمثل الآثار الكتابية الفرعونية نظامًا توثيقيًا لمعرفة التاريخ المصري القديم، وتسهم في فهم الحضارة المصرية والتعرف على تراثها الثقافي والديني والأدبي. والكتابات الدارسة لتاريخ الكتابة والكُتَّاب في مصر الفرعونية ترى وتقرر أن مصر من أقدم الحضارات التي شهدت أنظمة كتابية مبكرة في العالم؛ فالكتابة باللغة المصرية القديمة ترجع إلى الفترة الممتدة بين 3200 و3100 قبل الميلاد.
ولعل التعرف على تلك الكتابات المصرية المتوالية راجع إلى حجر رشيد، والذي اكتشفه الفرنسيون في مصر وقاموا بفك شفراته إبان الحملة الفرنسية، وذكروا أنه يحتوي على ثلاثة أنواع من الكتابات، وهي: الهيروغليفية، الديموطيقية، الأغريقية، ومن ثم قرروا مؤرخو الكتابة المصرية أنها مرت بأطوار أربعة متنوعة متعاقبة، هي: (الكتابة الهيروغليفية)، وكانت كتابة إشارية ورمزية، تشمل ما في الطبيعة من إنسان وحيوان ونبات وماء وشمس وغيرها من الظواهر الطبيعية، كتب بها المصريين على البرديات وجدران المعابد والاهرامات والنصوص الدينية جميعها، وكانت مقدسة، وخاصة بالطبقة العليا، وكان تعلمها صعبًا وكان متعلمها يسمى كاتبًا؛ وكان يحظى بمنزلة عالية ورفيعة عند المصريين، ويرتقي في أعلى المناصب! ثم تطورت إلى كتابة مبسطة تسمى(الهيراطيقية)، أو(الخط الكهنتي)، وكانت تُستَخدم من قِبَل الطبقة الوسطى من رجال الدين والأدب، ثم تطورت الكتابة المصرية إلى كتابة يسيرة مناسبة للعامة والطبقات الدنيا، تسجل بها لغتهم الدارجة، وسميت (الكتابة الديموطيقية)، وقد هيمنت بعد انتهاء الدولة الحديثة في عصر الاضمحلال الأخير، ثم كان الطور الرابع من أطوار الكتابة المصرية، وتمثل في (الكتابة القبطية)، وهي المصرية القديمة المكتوبة بالحروف الإغريقية، وسجل بها رجال الدين المسيحيون كل كتاباتهم ونصوصهم الدينية، وهذا التنوع في اللغات والكتابات راجع إلى تنوع من كانوا يعيشون في مصر في تلك الفترة، بدءًا من الفراعنة ثم الفرس والبطالمة والإغريق واليونانيون واليهود حتى الرومان، حتى كان الفتح العربي الإسلامي سببًا في هيمنة اللغة العربية الفصحى لتكون اللغة الرسمية والقومية لمصرنا الحديثة والمعاصرة، بنص الدساتير المتعاقبة؛ إذ تنص المادة الثانية من الدستور على أن(الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع).....
وقد حدث للكتابة المصرية عبر العصور التاريخية تطور شكلي؛ فالنصوص القديمة المبكرة، ظلت تحافظ على شكلها الهيروغليفي حتى العصور الأخيرة من الحضارة المصرية القديمة إلى أن فنيت استخداماتها مع اندثار الحضارة الفرعونية، وتم استبدالها بالنظم الكتابية الأخرى بشكل رمزي ورسومي، فكانت تشير إلى الأشياء والأفكار بمفردها دون تمثيل الأصوات، ثم أخذت تعبر عن الأصوات والكلمات والمفاهيم، ومع مرور الوقت، تطورت هذه الكتابة لتشمل نظامًا معقدًا من الرموز والأحرف، وقد اعتمدت هذه الأحرف على تمثيل الأصوات اللغوية، وكانت تستخدم في الكتابة على الجدران والأقراص والوثائق الرسمية. ثم تطورت الكتابة المصرية القديمة فشهدت استخدامًا واسعًا في الحياة اليومية والدينية والإدارية في العصور المصرية المختلفة، فكتبت النصوص المصرية القديمة على الحجر والفخار والعظم النسيج، والكتان وغيرها من المواد الكِتابية، ثم كان للمصري القديم فضل في اكتشاف ورق البردي، وكانت تلك الأوراق عبارة عن سيقان البردى الملصقة ببعضها رأسيًّا، وكان يُكتَب عليها بالمداد الأسود والأحمر بالبوص؛ مما كان له أكبر الأثر في تيسير المعاملات البشرية اليومية، وفي نشر العلوم وتدريسها، على مستوى العالم. وهذا ما قررته الدكتورة فرخندة حسن، في كتابها "التكنولوجيا المصرية القديمة"، من أن ورق البردي أحد أهم اختراعات الحضارة المصرية القديمة منذ حوالي 3000 سنة قبل الميلاد، وأن هذا الاختراع سبق الورق الذي صنع في الصين بحوالي سبعة وعشرين قرنًا من الزمان؛ فقد كان حرص المصريين القدماء الوصول إلى طريقة أسهل تمكِّنهم من تسجيل معالم حضارتهم دافعًا إلى ابتكار العديد من مستلزمات الكتابة وأدواتها... وتجدر الإشارة هنا إلى أن صلاحية أوراق البردي للكتابة جعلت استعماله مستمرًّا حتى القرن الحادي عشر الميلادي؛ فقد أشار المؤرخ جورج سارتون- مؤسس تخصص تاريخ العلوم- إلى أنه جرى العثور على منشورات باباوية كتبت على ورق البردي في عام 1022 الميلادي. وأن العالم مدين لهذا الورق الذي حفظ أعدادًا هائلة من الوثائق، ولولاه لتغيَّر تاريخ الثقافة تغيرًا كبيرًا.
أما عن الأدب المصري الفرعوني فهو الأدب الذي كُتب باللغات المصرية في مصر القديمة، منذ عصر الفراعنة حتى سقوط مصر في قبضة الإمبراطورية الرومانية، وهو يمثل مع الأدب السومري أقدم الآداب العالمية المعروفة؛ فقد كان من أهم ألوان الحياة الفكرية عند المصريين، وكان تستخدم فيه الكتابات المصرية الشهيرة، ويرجع عهده إلى زمن بُناة الأهرام، ولكن أروع ما بقى منه هو ما كتب في عهد الدولة الوسطى، ويُصنّف علماء المصريات المعاصرين الأدب المصري القديم إلى أنواع عدة، منها الرثاء والخطابة والحكايات والوصايا والتعاليم ورسائل، وقصائد وأغان، وتراتيل ونصوص الآخرة. وتعد فقط الحكايات السردية هي المكتوبة على هيئة كتابات نثرية، و معظم الشعر المصري القديم كان مكتوبًا في هيئة أبيات من مقطعين، وأحيانًا من ثلاثة أو أربعة مقاطع. وبعض الباحثين يقسم الأدب المصري القديم إلى نوع ديني، وثان قصصي، وثالث تهذيبي، ورابع مدحي، فمن (الأدب الديني) نصوص الأهرام وكتاب الموتى، وما نقش على جدران المعابد والمقابر، وأيضا الأناشيد والترانيم مثل ما خلفه لنا أخناتون في وصف الخشوع للآلهة، وقد خلف المصريون من ذلك الأدب الكثير. وفي جنس (الأدب القصصي) نجد القصص الخيالية، أو الحقيقية. مثل قصة الفلاح الفصيح، وقصة مجلس الملك خوفو، والملك نفر كارع، والقائد ساسينيت، والفلاح الفصيح، وقصة سنوحي، وحكاية الملاح التائه... وفي جنس (الأدب التهذيبي) نجد تعاليم ووصايا يُنصح بها بطريقة حسنة، يقولها فرعون أو المعلمون أو الآباء والأمهات أو الحكماء، ومن أبرز تلك التعاليم ما تركه الواعظ (بتاح حتب) في عهد الدولة القديمة، والكاتب (آني) في عهد الدولة الحديثة. وفي جنس(أدب المديح) نجد من يبرع فيه (سنوسرت الثالث)، وكان يقصد به في أغلب الأحيان تمجيد فرعون وأعماله وبطولاته... واستمر العطاء الكِتابي والأدبي المصري عبر العصور، من خلال أجيال متعاقبة، من المبدعين والمبدعات، والأدباء في كل فنون الأدب: التقليدية والمستحدثة، في العصر الحديث، إلى درجة فاعلة عالية، صارت بها القاهرة عاصمة النور وقبلة الحداثة العربية، في القرن العشرين، ولا يزال عطاء مصر الثقافي والأدبي مستمرًّا، في هذا القرن الحادي والعشرين، المحتدم والهائج والفاتن