الأحد 28 ابريل 2024

معرض القاهرة الدولي للكتاب 55 بين القارئ والكاتب والناشر

حسين عثمان

ثقافة5-2-2024 | 11:38

حسين عثمان
  • لا تزال الكتابة في تقديري اجتهادًا في سبيل تحقيق مشروع مكتمل يضيف جديدًا ويترك أثرًا، فأنا أخشى لقب "كاتب" وأحسب له ألف حساب
  • غاية ما أتمناه دورًا فاعلًا في العودة بصناعة النشر إلى أصولها، رسالة قبل أن تكون تجارة، واستعادة حضور الناشر المثقف صاحب الرؤية،  إعادة التأسيس لقيمة الكلمة والكاتب والكتاب

 

 

خمسة وخمسون عامًا من عمر معرض القاهرة الدولي للكتاب، تمثل فاصلًا مهمًا جدًا من تاريخ الكتاب المصري، بل والثقافة المصرية في مجموعها، فهو بكل تأكيد الحدث الثقافي السنوي الأهم طوال هذه المدة، ولعل صفته الدولية المستحقة طوال الوقت، تمثل هي الأخرى مقومًا مهمًا جدًا من مقومات مكانة مصر وريادتها الثقافية عالميًا، والحدث يتزامن هذا العام مع تهديد محيط يتعاظم يوميًا في مواجهة الدولة المصرية، وكلنا يعلم أن وعي العقل الجمعي المصري، هو تاريخيًا السلاح الأهم في مواجهة كل ما يهدد مصر وهويتها، وعلى مدار عمري الموازي تقريبًا لعمر معرض القاهرة الدولي للكتاب، انطلق المعرض لأول مرة عام 1969 بينما وُلِدت بعد انطلاقه بعامين عام 1971، شكل المعرض رافدًا أساسيًا من روافد تشكيل الوعي والوجدان.

جاءت الانطلاقة الأولى لمعرض القاهرة الدولي للكتاب على يد الكاتبة والباحثة الدكتورة سهير القلماوي، التلميذة النجيبة لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وبرعاية ودعم ثروت عكاشة وزير الثقافة وقتها، حيث افتتح الرئيس الراحل جمال عبد الناصر دورته الأولى، في حضور 200 دار نشر من مصر والوطن العربي.

فإذا ما استعددت ملف معرض القاهرة الدولي للكتاب في ذاكرتي، تخايلني مشاهد زياراتي الأولى لمقره الأول بالجزيرة – موقع دار الأوبرا المصرية حاليًا - صبيًا يفتح عينيه على الدنيا في صحبة أمه معلمة اللغة العربية والقراءة والمكتبات، بعدما زرعت داخلي شغف القراءة بمشاركة أب معلم شاهدته دائمًا يقرأ وكأنه يصلي، ولا أنسى إصرار أمي في إحدى هذه الزيارات لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، على أن نذهب مبكرًا عن موعد فتح أبواب المعرض بالجزيرة، وأيضًا نسير من ميدان التحرير في اتجاه مقر المعرض عبر كوبري قصر النيل، ولم يكن هدفها إلا مصادفة سيد الرواية العربية نجيب محفوظ في خط سيره اليومي العكسي في اتجاه مقهى أسترا بميدان التحرير، فإذا أطل عن بعد بطلته المبتسمة البشوشة تنبهني أمي إلى قدومه، وإلى ضرورة الوقوف فقط لتحيته حتى لا نزعجه أو نطيل عليه فنعطل برنامجه اليومي، وبالفعل نبادر بمصافحته ويلقانا هو مرحبًا ومداعبًا، ونمضي لتستكمل أمي حكايتها عنه، سحرتني أمي مع سبق الإصرار والترصد، أمد الله في عمرها ومتعها بالصحة والعافية.

صِرت ومبكرًا أقرأ أكثر من أي فعلٍ آخر، حتى أنه في سنة الثانوية العامة كنت أقرأ أكثر مما أذاكر، ولما علق أبي وتحفظ خاصة على بعد أيام من امتحاناتها المصيرية، أكدت له أن ما أتعلمه من قراءاتي المعرفية المتنوعة، أهم كثيرًا مما أجده في مناهج دراسية عقيمة عفى عليها الزمن.

تلت هذه المرحلة المحطة الأهم في حياتي مع معرض القاهرة الدولي للكتاب، تحديدًا مطلع التسعينيات بمقره التالي بأرض المعارض في مدينة نصر، كان عمري عشرين وقت أن أصبح تمامي طوال فترة المعرض سنويًا، التواجد يوميًا بأروقته من العاشرة صباحًا موعد فتح أبوابه وحتى غلقها في العاشرة مساء حال انتهاء الأمسيات الشعرية، لا أتجول فقط بين أجنحة عرض الكتب المتعددة مصريًا وعربيًا وأجنبيًا، وإنما أقضي الوقت الأطول في قاعات الندوات والملتقيات الفكرية وحلقات النقاش، وأيضًا مخيمات الإبداع والعروض الفنية، ومسك ختام اليوم دائمًا كان مع الأمسيات الشعرية، كنت محظوظًا لأبعد الحدود بالإنصات ساعات طويلة إلى قامات عديدة ومتنوعة سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وأدبية وثقافية وإعلامية وصحافية وفنية ورياضية من داخل مصر وخارجها، تركت آثارًا لا تُنسى، وفتحت آفاقًا لا تُحصى، وشكلت ملامح الرؤية والطريق نحو المستقبل. 

كانت المحطة الأهم لأنها ساهمت بالفعل في تشكيل الوعي والوجدان، ولا أبالغ إذا قلت وقاية الوعي والوجدان، خاصة وأنها واجهت طوال عقد التسعينيات مدًا دينيًا إرهابيًا متطرفًا، كان يحش الشباب في هذا الوقت حش الجراد لكل ما هو أخضر ينبض بالحياة، واجه معرض القاهرة الدولي للكتاب هذه الموجة الشرسة مواجهة فكرية من الطراز الأول، قادها بكل شجاعة وبراعة وحكمة ووعي سياسي وثقافي الراحل الدكتور سمير سرحان، رئيس الهيئة العامة للكتاب صاحب الأثر الأقوى حتى الآن في تاريخ رئاسة معرض القاهرة الدولي للكتاب.

ولعل مشهد المناظرة التاريخية الشهيرة "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية" يوم 7 يناير عام 1992 هو المشهد الأبرز في محطتي الأهم مع معرض القاهرة الدولي للكتاب، لم أتصور في هذا اليوم أنه كان من الضروري التبكير عن المعتاد حتى أجد لنفسي موقعًا لقدم في الدوائر المحيطة بقاعة الندوات الكبرى، وليس مقعدًا في الصفوف الأمامية منها كما انتظمت طوال أيام المعرض، استقبلني يومها على بوابات معرض الكتاب مشهد مهيب غير معتاد في حضور الندوات، ملامحه الأساسية حشد كبير متشح بالزي الإسلامي، تظهر بينه قاعة الندوات الكبرى على مرمى البصر على استحياء - وصل عدد الحضور وفق ما تردد وقتها إلى ما يزيد على 20 ألف شخص - وانتشرت السماعات الصوتية في طرقات المعرض بما يسمح لمن يرغب بمتابعة المناظرة، والتي مثل فيها الدولة الدينية كل من الداعية الإسلامي الشيخ محمد الغزالي، ومرشد جماعة الإخوان المسلمين آنذاك مأمون الهضيبي، والكاتب الإسلامي الدكتور محمد عمارة، بينما مثل جانب الدولة المدنية المفكر الشهيد فرج فودة، ومعه المفكر الدكتور محمد أحمد خلف الله، وأدار المناظرة باقتدار الدكتور سمير سرحان، رحمة الله عليهم أجمعين.

كنت قبلها لسنوات آخذ ديني عن مؤلفات الشيخ محمد الغزالي، بعدما تأثرت به طفلًا يصحبني والدي رحمة الله عليه، لصلاة العيد وسماع خطبة الغزالي بساحة قصر عابدين، والحقيقة أنني كنت محظوظًا في هذا، الشيخ محمد الغزالي من مجددي الفكر الديني بلا أدنى شك.

قطعًا لم أحضر المناظرة إلا بدافع حمية دينية شابة بريئة وحب الشيخ الغزالي على وجه الخصوص، لم يأخذني الميل يومًا تجاه الإخوان المسلمين، يساري الهوى من يومي، كما أن الدكتور محمد عمارة لم يعطه ربي قبولًا في قلبي حتى أسمع أو حتى أقرأ له، أما فرج فودة فكنت أقرأ له مقالاته بالصحف والمجلات من زاوية المعارف العامة، وأتابع جهوده في استقطاب الشباب لحزب سياسي يعمل على تأسيسه أطلق عليه حزب المستقبل، وتابعت الدكتور محمد أحمد خلف الله من نفس المنطلق، ولم أكن قد تعمقت شخصيًا في فصل الخطاب بين الدين والعلمانية أو الدولة الدينية والدولة المدنية، كنت محظوظًا أيضًا بحضور المناظرة.

طوال المناظرة لم أجد فرج فودة إلا هادئًا مرحبًا منهجيًا منفتحًا على الحوار، وقبل هذا كله مُقَدِرًا جدًا قيمة الشيخ محمد الغزالي، بينما لم أجد في المقابل إلا انفعالًا ونفورًا واستهانة بفريق الدولة المدنية وطرحه، أما الحشد الإخواني الكبير من الحضور، فلم يكن إلا قطيعًا مؤيدًا على طول الخط، لا أحد ينصت أو يعطي لنفسه مساحة ليفكر، فقط تنطلق صيحات التكبير تهز أرجاء مدينة نصر، بمجرد أن ينهي أحد الفريقين مداخلته، التكبير مناصرة أو تشويشًا، تابعت المناظرة لعدة ساعات باهتمام وإنصات وإعمال عقل متأملًا المشهد بشكل عام، فلم أخرج منها إلا منطلقًا في أجنحة المعرض، أبحث عن مؤلفات فرج فودة.

كان حضور المناظرة فارقًا بالفعل في حياتي، بينما كانت المشاركة في المناظرة فارقة على وجهٍ آخر في حياة فرج فودة، بعدها بخمسة أشهر أرداه المتطرفون الجناة قتيلًا مساء الإثنين 8 يونيو 1992، وهو يغادر مكتبه بمصر الجديدة في صحبة ابنه أحمد وصديق له.

كل هذا وغيره من متابعة سنوية فاعلة لأنشطة معرض القاهرة الدولي للكتاب، ساهمت في تطور مسار حياتي شخصيًا ومهنيًا، فلم يكن شغف القراءة المتواصل والمستمر لسنوات طويلة، إلا أرضًا خصبة راكمت معارف وخبرات شكلت رؤية ودفعت صاحبها إلى شغف الطرح أو الكتابة، ولا أراها إلا خطوة طبيعية في مسار رحلة صارت كما صارت عليه، ولا تزال الكتابة في تقديري، ورغم أنها منتظمة في مجال الرأي تحديدًا لنحو عشر سنوات الآن، سواء اتصالًا بالشأن العام في مجموعه أو خاصة فيما يتعلق بملفات الثقافة ودوائرها، وفي صحف ومجلات ومواقع لها تاريخها وتواجدها، ومنها مجلة الهلال الثقافية الرائدة حاضنة هذه السطور، أقول لا تزال الكتابة في تقديري اجتهادًا في سبيل تحقيق مشروع مكتمل يضيف جديدًا ويترك أثرًا، فأنا أخشى لقب "كاتب" وأحسب له ألف حساب.

أما محطة معرض القاهرة الدولي للكتاب الحالية، مركز مصر للمعارض الدولية بالتجمع الخامس، ولا أظن أنها الأخيرة في ظل المد الطموح باتجاه العاصمة الإدارية الجديدة، فقد ارتبطت بمحصلة ما قد يصل إليه شغف القراءة والكتابة بصاحبه، خاصة حينما يرتبط عمره على امتداده بالكتاب كأحد أهم مقومات حياته اليومية، وإلى حد رصد حركة النشر وتطور رحلة الكتاب على مدار أكثر من ثلاثة عقود، ولا أعني هنا سوى الاشتباك مع سوق النشر من موقع الناشر، مقاتلًا بكل اجتهاد لما يزيد على أربع سنوات الآن، في تقديم تجربة مختلفة وملهمة، قائمة على الاحترام والمهنية والاحتراف، دونما أي اهتمام بأن تكون مُنافِسة، فلا مُنافَسة في الإبداع إلا بقدر المساهمة في توهجه واكتماله، وغاية ما أتمناه دورًا مؤثرًا وفاعلًا في العودة بصناعة النشر إلى أصولها، رسالة قبل أن تكون تجارة، واستعادة حضور الناشر المثقف صاحب الرؤية، آملًا إعادة التأسيس لقيمة الكلمة والكاتب والكتاب، في زمن صعب لا أراه زمن القيمة بأي حالٍ من الأحوال.

Dr.Randa
Dr.Radwa