الخميس 2 مايو 2024

الدكتور ناصر الأنصاري علامة مضيئة في خارطة الثقافة المصرية


أبو الحسن الجمال

مقالات5-2-2024 | 14:24

أبو الحسن الجمال
  • برع الدكتور ناصر الأنصاري في مجالات عدة، وكان قارئاً نهماً عاشقاً للتاريخ، سافر إلى العديد من البلدان الأجنبية للحصول على العلوم والمزيد من التجارب
  • أمد د. الأنصارى المكتبة العربية بالعديد من الكتب التي برهنت على موسوعيته وامتلاكه لناصية الكلمة تنوعت بين التاريخ والمراسم والعلوم السياسية والاقتصاد
  • عمل الأنصاري على خطة تطوير شاملة للمعرض من حيث الشكل العام والأنشطة المصاحبة له، وحرص على استضافة كبار الكتاب والمفكرين والأدباء
  • أعاد الأنصاري نشر المئات من كتب هيئة الكتاب القديمة في كل التخصصات، كما نشر الموسوعات الضخمة وعمل على تهيئة الظروف لخروجها بالشكل اللائق

 

  يمثل معرض الكتاب حالة حب في حياتنا الثقافية منذ انعقاد أول دوراته في يناير 1969 بالتزامن مع احتفالية مصر بالعيد الألفي لمدينة القاهرة، وقد أثبت المصريون أنهم أكبر من الهزيمة، فلم تتوقف الحياة وسارت في مسارها الطبيعي، ودارت عجلة الفنون والثقافة والتنمية في كل مجال، مع إعادة بناء القوات المسلحة وخوض حرب الاستنزاف التي استمرت أكثر من ألف يوم والاستعداد ليوم الكرامة، ومازال الناس تترقب أيام المعرض من العام للعام.. يغمرهم الفرح والسعادة، ومعرض الكتاب فرصة لتجاذب الأفكار وطرح الرؤى، حيث تعقد الندوات الفكرية التي تصحح المفاهيم الخاطئة التي علقت بالأذهان في أوقات الضعف، إضافة إلى الأمسيات الشعرية والمسرحية والموسيقية والفنية، ولي ذكريات مع المعرض قد بدأت مع بداية الألفية الجديدة منذ ربع قرن، حيث أحرص على الحضور أكثر أيام المعرض وتكون فرصة لشراء الجديد من الإصدارات من دور النشر المصرية والعربية، كما التقي أعلام الفكر والأدب والثقافة والسياسة ليس في مصر فقط، ولكن من جميع أنحاء العالم..

     وقد عمل على إنجاح المعرض مدار نصف قرن على أناس كان الصدق ديدنهم، فخرجت دورات المعرض بأداء مبهر في أماكنه المختلفة.. منذ البداية في أرض الجزيرة ثم في أرض المعارض بمدينة نصر، وبالتزامن مع الجمهورية الجديدة التي أحدثت ثورة في كل شيء تم عقد دوراته منذ خمس سنوات في مركز مصر للمؤتمرات بالتجمع الخامس، حيث تم إنشاء  المركز بتخطيط عبقري استخدم أحدث ما توصلت إليه التقنيات العالمية في العرض..

   وسوف نتناول في السطور التالية مشوار أحد الرموز الثقافية التي امتلكت أدواتها وسخرتها بدقة.. إنه الدكتور ناصر الأنصاري نتذكره بمناسبة الدورة الخامسة والخمسين ومرور ربع قرن على وفاته..

   وقد برع الدكتور ناصر الأنصاري في مجالات عدة، منذ أن تخرج في كلية الشرطة وعمل ضابطاً سبع سنوات، ولم يقف طموحه عند هذا الحد، بل دفعه هذا الطموح إلى إكمال مسيرة العلم، وكان قارئاً نهماً عاشقاً للتاريخ، وفي السفر سبع فوائد، فقد سافر إلى العديد من البلدان الأجنبية للحصول على العلوم والمزيد من التجارب. وقد كان إدارياً من طراز فريد، تولى العديد من المناصب الثقافية الرفيعة واستطاع أن يترك بصمة في كل مكان عمل به.. وكان محباً لمصر إلى أقصى درجة.. فتذكر حنان منيب الوكيل السابق لوزارة الثقافة، عن موقف يثبت ترجمة هذا الحب.. فقد عرض عليه أثناء فترة عمله أن يكون مستشار الشئون الثقافية لأحد ملوك الدول العربية ولكنه رفض ذلك قائلاً "بلدي أولى بي"، فكل من عمل مع الدكتور الأنصاري يدرك كيف أنه كان إنساناً عظيماً ومثلا أعلى يحتذي به.. ويقول عنه زميل دفعته في كلية الشرطة، أستاذنا اللواء دكتور محمد خيري طلعت، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة المنيا، "إنسان هاديء جداً ومحترم.. والده سيادة اللواء الأنصاري الذي لمع نجمه في الإدارة العامة لمرور القاهرة بعد موجة الانضباط في الشوارع وكان علماً من أعلام وزارة الداخلية".

    ولد ناصر محمود يونس الأنصاري في مدينة القاهرة عام 1946 لأسرة عريقة؛ رائدها والده اللواء محمود يونس الأنصاري الذي كان من كبار قادة وزارة الداخلية، وقد خدم في أماكن بين المباحث العامة التي عمل بها ثلاثة عشر عاماً، فمديرا لمرور القاهرة ومكث في هذا المنصب سبع سنوات، وأثبت جدارة فائقة خلال مشواره وفي مايو عام 1974 وقع عليه الاختيار ليتولى منصب محافظ أسوان وقد بقى في المنصب حتى أغسطس 1977، ثم عين بعد ذلك رئيسا لمطار القاهرة بدرجة وزير.. كل هذه الروافد صقلت شخصية ناصر الأنصاري، وبعد حصوله على شهادة الثانوية العامة التحق بكلية الشرطة وتخرج فيها عام 1968، وحصل معها على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس.

    لم يقف طموح ناصر الأنصاري عند حد من التعليم والتحصيل، فقد كان من سماته الإصرار والتحدي والطموح.. وأثناء خدمته في جهاز الشرطة عمل بقسم قصر النيل، ثم في شرطة رئاسة الجمهورية، وفي عام 1975 عمل بالأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، ومارس العمل الصحفي والإعلامي، حيث عمل نائباً لرئيس تحرير "مجلة الأمن العام" التي كان عضواً بها من 1973 وحتى 1980.. ثم ذهب في بعثة إلى فرنسا عام 1981 للدراسة في كلية القانون (إكس إن – بروفانس) بجامعة مرسليا، وحصل على الدكتوراه في تاريخ النظم القانونية والسياسية عام 1985، وعندما عاد من فرنسا عاد يعمل برئاسة الجمهورية رئيساً لمجلس إدارة لجنة النشاط الثقافي والديني في الفترة من 1986 وحتى عام 1991، بعدها عمل بوزارة الثقافة فقد تولى العديد من المناصب الرفيعة بها، منها رئاسة مجلس إدارة العامة لدار الأوبرا في نوفمبر 1991، وظل بهذا المنصب حتى نوفمبر 1997، ثم تولى رئاسة مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية من 1998-1999، بعدها عاد إلى فرنسا مرة أخرى ولم يكن طالباً هذه المرة ولكنه تولى منصب مدير المعهد العربي بباريس وظل به حتى 2005 وفي هذا العام عاد إلى وزارة الثقافة ليتولى رئاسة مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، وقد توفي وهو يتولى هذا المنصب عام 2009..

     وإضافة إلى هذه المناصب الرفيعة التي تولاها، عمل الدكتور ناصر الأنصاري فى التدريس بالعديد من الكليات الجامعية ومعاهد القوات المسلحة والشرطة، فقد عمل أستاذاً غير متفرغ  لمواد القانون "تاريخه وفلسفته" في كلية الحقوق بجامعة حلوان من 1996 – 1999، كما عمل كأستاذ غير متفرغ ومحاضر لمواد العلاقات العامة والمراسم فى الكليات والمعاهد التابعة للقوات المسلحة وجهاز الشرطة في مصر والعالم العربي، إضافة إلى أنشطة ثقافية أخرى حيث ترأس لجنة القاهرة عاصمة ثقافية للعالم العربى سنة 1996، كما كان رئيساً لتحكيم جائزة اليونسكو للتسامح من عام 2002 حتى عام 2004، ورئيس لجنة تحكيم مصلحة سك العملة الفرنسية لاختيار أفضل تصميم عربى إسلامى لعملة تذكارية فرنسية عام 2004.

    ورغم المهام الكثيرة والمتعددة التي ألقيت على كاهله فقد كان شعلة نشاط حتى آخر يوم من حياته وكان يستغل وقته ويوزعه بمهارة، وفي مجال التأليف؛ فقد ساهم بحظ وافر وأمد المكتبة العربية بالعديد من الكتب التي تنوعت بين التاريخ والمراسم والعلوم السياسية والاقتصاد وتبسيط عدد من كتب التراث العربي، وقد برهنت هذه المؤلفات على موسوعيته وامتلاكه لناصية الكلمة، ومن كتبه نذكر: "موسوعة حكام مصر من الفراعنة إلى اليوم" وقد أقبل عليه المتخصص والقارئء العادي -على السواء- وطبع منه أربع طبعات في فترة وجيزة، والكتاب سجل جامع شامل لحكام مصر في جميع الحقب التاريخية التي مرت بها، ولم يسبقه فيه أحد من المؤرخين.. الأمر الذي شجعه لأن يضيف كتاباً في المكتبة العربية بعنوان "المجمل في تاريخ مصر"، ولأن المكتبة العربية غنية بالمؤلفات عن تاريخ مصر كل عصر على حدة، ولكنه في الوقت ذاته لا تضم كتاباً واحداً يضم بين دفتيه التاريخ المصري مجملاً منذ توحيد مصر على يد مينا إلى يومنا هذا، وقد تعرض الدكتور ناصر في هذا الكتاب للتاريخ العام لكل حقبة بلمحة تاريخية تضم أهم الأحداث المؤثرة عليه، ثم أتبعها بدراسة عن النظم السياسية والإدارية والتي هي وثيقة الصلة بالعرض التاريخي؛ لأنها قد تكون مؤثرات أو نتائج لتلك الأحداث، وكان لعمل الأنصاري فترة في جهاز الشرطة في مقتبل حياته العملية فأراد أن يترجم هذا الانتماء في كتابه المهم الذي جاء تحت عنوان "تاريخ أنظمة الشرطة فى مصر من الفراعنة إلى اليوم"، وقد تحدث فيه عن الشرطة في مصر منذ عصر الفراعنة الذي احتل ثلاثة أخماس تاريخ مصر في كل العصر، مروراً بفترة الإسكندر والبطالمة وفي عصر الرومان وفي العصر البيزنطي، ثم في الحقب الإسلامية المختلفة وصولاً إلى عصر محمد علي وأسرته وفي عصر الجمهورية.. وقد ساعده عمله في الشرطة -كما أسلفنا- في توفر الوثائق والمصادر التي ساعدته في هذا الكتاب وفي كتبه الأخرى كما أنه له كتاب في غاية الأهمية "العوربة فى مقابل العولمة" وفي هذا الكتاب دعا الأنصاري إلى تبني نظرية جديدة أطلق عليها اسم "العوربة" لمواجهة "العولمة" التي تسيطر على عالمنا المعاصر، وتعني "العوربة" تجميع الشعوب العربية قواها وتوحيد صفوفها وفقاً لمفاهيم فكرية مشتركة وتكتلات ثقافية واقتصادية وتجارية وتعليمية وإعلامية ومجتمعية وسياسية، وله أيضاً كتب: "ببليوجرافيا الأمن العام والشرطة والعلوم الجنائية"، و"من بريق العقد الفريد لابن عبد ربه"، و"البلاط الملكى فى إمبراطوريات غرب إفريقيا القديم"، و"علم مصر"، و"النقود والبنوك والنظم الضريبية"، و"السلطة المقدسة للفرعون نظرياً وتطبيقياً"، و"نظام ملكية الأراضى العقارية فى مصر من العصور الفرعونية حتى القرن العشرين"، و"المجمل فى تاريخ القانون المصري"، و"عناصر لنظرية جديدة"، و"تاريخ المراسم فى مصر".

الدكتور ناصر الأنصاري ومعرض الكتاب

   تولى الدكتور ناصر الأنصاري رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب يوم الأحد السادس من مارس عام 2005، بعد عدة شهور من انقضاء فترة الدكتور سمير سرحان في ديسمبر 2004، ولم يكن الرجل غريباً عن وزارة الثقافة ولم يهبط إليها من السماء ولكنه عركته التجارب في هيئات بارزة مثل: دار الأوبرا، ودار الكتب والوثائق القومية، واستفاد الرجل من تجارب سلفه الدكتور سمير سرحان؛ الذي ظل في رئاسة لسنوات طويلة، والدكتور ناصر موسوعي الثقافة ويشهد على ذلك ما خلفه من كتب -كما ذكرنا- وفي الدورة الأولى لمعرض الكتاب بعد توليه منصب رئيس الهيئة - وهي الدورة 38 والتي عقدت في الفترة من 17 يناير إلى 3 فبراير 2006- ركز الدكتور ناصر الأنصاري من خلال الفعاليات الثقافية على التنوع الثقافي في ظل العولمة وثورة المعلومات وأثرها على ثقافة الشباب وذلك بمناسبة إصدار وثيقة اليونسكو الجديدة لتدعيم التنوع الثقافي، كما تناول أيضاً الطاقة النووية وعلاقة الإسلام بالغرب والمجتمع المدني ودوره المتنامي في التنمية، كما ضمت محاور المعرض موضوعات مصر إفريقيا، والقدس عاصمة ثقافية، والإبداع الثقافي والوسائط الجديدة مثل وسائل التواصل الاجتماعي.

 وقد عمل الأنصاري على خطة تطوير شاملة للمعرض من حيث الشكل العام والأنشطة المصاحبة له، وعهد إلى شركة متخصصة في تنظيم المعارض، حيث راعت في التنظيم مواكبة المعارض العالمية للكتاب، كما عمل ضمن فعاليات المعرض استضافة كبار الكتاب والمفكرين والأدباء مع تخصيص اليوم الأول والثاني للمعرض للمتخصصين في مجال الطباعة والنشر وكبار المثقفين والإعلاميين على غرار ما تم بمعرض فرانكفورت الدولي..  

    ومن المآثر الجليلة للدكتور ناصر الأنصاري إنشائه لمعرض الإسكندرية العربي الدولي للكتاب والذي أقيمت أول دوراته في قلعة قايتباي بالإسكندرية في أغسطس 2006 بمشاركة 12 دولة عربية ولأن الرجل ملماً بالشأن ويحاول دوماً الاستفادة من تجارب الآخرين في صناعة الكتاب وعرضه، فكان يفضل عمل المعارض وسط الأماكن الأثرية حيث عبق الحضارة والتاريخ، مثل قلعة قايتباي التي تطل البحر وعن هذه التجربة قال الأنصاري: "هناك اتجاه عالمي لاستثمار الأماكن الأثرية في إقامة معارض الكتب وترويج الثقافة، مثل معرض نابولي الدولي الذي يقام في إحدى القلاع، ومعرض أثينا الذي يقام بجوار الاوكردبلس".

  كما أعاد نشر المئات كتب هيئة الكتاب القديمة في كل التخصصات الفكرية والأدبية بسعر رمزي كما نشر الموسوعات الضخمة وتوفرها للقراء والباحثين بأسعار زهيدة، وتهيئة الأجواء والظروف لخروج بالشكل اللائق.. وفي الدورات الأربعة للمعرض التي تمت في عهده كان حريصا على تمثيل كل ألوان الطيف السياسي والثقافي والفكري في فعاليات المعرض، وكانت الندوات تعج بالجماهير التى تفاعل معها.

   كما كانت للدكتور ناصر الأنصاري إسهامات حقيقية فى المشاركات الدولية كضيف شرف فى معارض الكتاب الدولية، مثل طوكيو الدولي للكتاب في دورته السادسة عشرة، وكانت أول مرة يستضيف فيها معرض طوكيو دولة عربية كضيف شرف. وكانت مشاركة مصر في هذا المعرض لم يقتصر على عرض الكتب، بل كان هناك أشطة ثقافية وفنية جرى الإعداد لها بعناية بالاشتراك مع السفارة المصرية في طوكيو، وتضمن تنظيم ثمانية ندوات تتناول العلاقة بين مصر واليابان وقضية النهضة حيث استفادت اليابان في فجر نهضتها بالتجربة المصرية في عصر محمد علي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتناولت الفعاليات أيضاً كنوز الحضارة المصرية القديمة والترجمة والتفاعل الثقافي والفن التشكيلي واتجاهاته ومذاهبه في مصر. وندوة عن دور نجيب محفوظ وتطور الرواية العربية وفنون مصر الإسلامية والسينما المصرية بين الأدب والتاريخ، إضافة إلى ندوة تتحدث عن اليابان في الفكر المصري، ومصر في الفكر الياباني، بينما يتضمن النشاط الموازي للمشاركة المصرية تقديم عروض للموسيقى العربية لفرقة التخت الشرقي التابعة لدار الأوبرا المصرية.

  توفي الدكتور الأنصاري فجر يوم الثلاثاء 20 أكتوبر سنة 2009 بعد صراع مع مرض السرطان، وقد نعاه الوزير فاروق حسني قائلاً: "إنه يعد واحداً من أهم القيادات الثقافية وأكثرها صرامة فى العمل والجدية والشفافية.

Dr.Randa
Dr.Radwa