الخميس 2 مايو 2024

«على الصحفي أن يتفرغ لمهنته فقط».. نصائح فكري أباظة للصحفيين في مقال نادر بمجلة الهلال

فكري باشا أباظة

كنوزنا14-2-2024 | 14:18

بيمن خليل

يُعدّ فكري أباظة أحد أبرز أعلام الأدب والصحافة في تاريخ مصر الحديث، وقد لُقِّبَ بـ "شيخ الصحَفِيِّين" نظرًا لدوره الريادي في تطوير الصحافة المصرية والعربية، وقد ترأسَ عددًا من المجلات الأدبية المرموقة مثل مجلة "الهلال"، حيث تميّز أسلوب أباظة الصحفي بقدرته الفائقة على توصيل وجهة نظره بأسلوب سلس وبليغ، ممزوجًا بالنقد اللاذع من جهة والفكاهة والسخرية من جهة أخرى.

وفي يوليو 1977، نشر أباظة مقالًا نادرًا في مجلة "الهلال"، تناول فيه خلاصة تجاربه الطويلة في ميدان الصحافة، والدروس المستفادة منها، إلى جانب النصائح التي يقدِّمها لزملائه من الصُّحفيين، كما تطرَّق إلى بعض المشكلات والأزمات التي واجهته خلال مسيرته، ومنها ما وصَلَ إلى القضاء، ومنها ما تسبَّبَ في إيقافهِ وإقالته من مناصبه كما حدث معه إبَّان عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

 

نص المقال:

حياتي الصحفية مراحل: بين صحفي هاوٍ غير محترف، وصحفي مراسل، وصحفي محترف، وبين محرر عادي، ورئيس تحرير المصور، ورئيس مؤسستي الأهرام ودار الهلال معًا، ثم في "الشارع"، حين قضت اعتبارات "رياسة الدولة" اعفائي من كل مناصبي حوالي عشرة أشهر، ثم العودة بعد ذلك محررًا عاديا ثم رئيسا للتحرير، ثم رئيسا لمؤسسة دار الهلال، ثم العودة إلى محرر عادي في نفس الدار.

في كل مرحلة من هذه المراحل، بين الهواية والاحتراف، وبين الصعود والهبوط والطرد، دروس وتجارب لعل الصحفي الناشئ أو الصحفي الزميل، أو الصحفي الرئيس يفيد منها، لأن الصحافة كما قيل بحق، هي "مهنة المتاعب" والتقلبات السياسية في الداخل والخارج..

 

بين رقابة القلم وحرية القلم

والدروس هنا دروس متباينة، متناقضة، ففي عهود الرقابة من سنة 1914 إلى سنة 1971 لم يكن الصحفي هو "صاحب قلمه" وإنما كانت الرقابة بين الحذف والإضافة مساهمة في التحرير، إلى أن تحرر القلم في "ثورة التصحيح" مع الالتزام بالمبادئ العديدة التي لا يجوز أن تكون محل نقد أو معارضة.

 

أول درس أو أول نصيحة

أول درس ألح عليه كل الالحاح، أن يتفرغ الصحفي لمهنته فقط!

وصدق المثل الذي قال: صاحب بالين كداب، فأنا مثلا كنت صحفيا أراسل الأهرام، والمصور، وأنا محام مقيم في الزقازيق، و"المحاماة" مهنة أساسية كانت تشغلني عن الصحافة أكثر الوقت، فلم أكن أمنح الصحافة بكامل أهليتي الصحفية، لأنني لم أتفرغ لها، ثم في الوقت نفسه من سنة 1926 إلى سنة 1963، كنت أجمع بين الصحافة والمحاماة، ثم كنت نائبًا، "أمثل الأمة" في مجلس النواب، بين حين وحين حوالي "ربع قرن" فجمعت بين الصحافة والمحاماة والنيابة عن الأمة..

ودرسي الذي ألح عليه وأنصح به أن يتفرغ النشء أو المشتغل بالصحافة إلى جريدته أو مجلته وهذه "أمانة" واجبة للصحيفة التي يعمل بها، لأنه يعطيها كل كفايته وقدرته وإنتاجه.

وبجانب هذا الدرس الخاص بشخصي دروس لزملائي الصحفيين، فمنهم عدد لا يستهان به في كل جريدة وكل مجلة يحررون في صحفلا ومجلات أخرى باسم صريح، أو اسم مستعار لا داخل مصر وحدها، وإنما في أغلب البلاد العربية، مشفوعة بالصور الكاملة، ولا أكون متجنيا أو مبالغا إذا قلت أن اكثر المجلات في لبنان وإمارات الخليج وغيرها تحرر من هنا، أي من صحفيين مصريين، وأكثرها واسع الانتشار.

والدرس المستخلص من هذه الأوضاع أن المحرر الذي يحرر في خارج البلاد ولا يتفرغ لجريدته أو مجلته، ولا يعطيها من استعداده وكفايته كل ما يعرف من أخبار وكل ما ينشر من أبحاث وتحقيقات.

 

الأسلوب المهذب السهل الممتنع

في عالم النقد والتوجيه، والحملات الصحفية، لا ينجح الأسلوب الصارخ المتطرف هدفه كما يؤديه الأسلوب المهذب السهل الممتنع، الأسلوب الذي يخدش ويجرح، ولكن لا يسيل الدم، وفرق أن تطعن بغير تحفظ، وبين أن تنتقد وتوجه بالمنطق السليم واللفظ المهذب.. وخصوصا إذا كانت الحملات، "حملات أهلية" بين أبناء المهنة الواحدة من الصحفيين.

 

حذار.. حذار

حذار.. حذار إذا كنت محررا، أو مدير تحرير، أو رئيس تحرير، أو رئيس مؤسسة صحفية أن تنشر كل ما يكتب بغير مراجعة، وبغير أن تسترشد بفتاوى رجال القانون فيما إذا كان نقدك يعاقب عليه القانون في مواده الصحفية، وتورط شخصك وصحيفتك إلى المسئولية الجنائية والمسئولية المدنية..

كنت دائمًا أحس فراغا في مناصب الصحف والمجلات، إذ يجب كل الوجوب أن يكون هناك من رجال القانون، من يرجع إليه قبل النشر! وقد حدث أكثر من مرة أن استهدف صحفيون للمحاكمة الجنائية والمدنية..

ومراجعة "البروفات" عمل هام جدا، وضروري، وواجب، وقد وقعت أنا في أكثر من خطأ، وقدمت إلى محكمة الجنايات، والمحاكم المدنية، مهددا بالحبس والغرامة والتعويض خمس عشرة مرة، ولا تزال هناك قضيتات أو قضية من هذا القبيل منظورة، رغم إني كنت من المراجعين للبروفات قبل النشر، وهذه أمانة للصحيفة التي تحرر فيها ونورطها بأخطائنا.

المسئولية كبيرة، والدرس درس أساسي يجب أن يراعيه كل صحفي، فحذار حذار!.

 

وداع اللنبي

حدث مرة أن نشرت لي "الأهرام" مقالا تحت عنوان "وداع اللنبي" - المندوب السامي البريطاني في ذلك الوقت - مودعا له بعد نقله، ومستقبلا "جورج لويد" المندوب السامي الذي حل محله، فقلت في ختام الكلام، موحها الكلام للمندوب السامي الجديد، "سنستقبلك بالطمن وبالتجريح، وبالمقاومة وبالدم.

واستدعتني النيابة العامة، وحققت معي تحقيقا طويلا ممهدا لاحالتي لمحكة الجنايات، ولكني استطعت بتعديل بسيط في أصل المقال أن أنقذ نفسي من المحاكمة الجنائية..

ولي مع الملك فؤاد، والملك فاروق وقائع صودر بسببها "المصور" وأجرى رئيس نحكمة مصر الابتدائية التحقيق معي عن تهمة العيب في الذات الملكية، أو توجيه اللوم للذات الملكية، ولكني استطعت بعد إيضاح واعتذار أن أنجو من المحاكمة.

ولا أريد أن أفيض في هذه الأحداث.. حسبي أن أحذر وأنصح وأستخلص درسا من دروسب لزملائي الصحفيين الذين قد يتورطوا مثل تورطي، ويستهدفون مثل استهدافي لمخاطر قانون العقوبات، ومواده الخاصة بالصحافة والنشر.

 

جمال عبد الناصر

وقصتي مع المرحوم الزعيم الخالد "جمال عبدالناصر" والتي صدر قراره فيها بإعفائي من جميع مناصبي ، قصة تؤيد هذا التحذير لزملائي، برفع النظر عما إذا كان ذلك العقاب متسرعا، أو غير متسرع، ولكن المسئول الأكبر عن هذه الدولة والأمة له اعتبارات وملابسات، وأسباب قد تبرر تصرفه، ولكن عندما توجه بقصد أو بغير قصد، ما يمس الرياسة، فيجب أن نتوقع العقاب وسواء كان القلم محررا، أو مراقبا، أو مقيدا، فهناك اعتبارات تستطيع الحكومة أن تتسلل منها إلى الحساب والعقاب كشئون الجيش مثلاـ أو شئون الاشتراكية، أو شئون المبادئ الستة التي أعلنتها الثورة بعد قيامها فورا.

حتى الإعلانات

كان المرحوم "أنطون باشا الجميل" رئيس تحرير الأهرام في وقت من الأوقات، يراجع لا "بروفات" المحررين فقط، وإنما يراجع "الإعلانات" المختلفة، فقد يكون فيها ما يعرض الجريدة الكبرى للعقاب الجماعي، والتعويض المدني.

وكنت أبدي له دهشتي من عنايته بمراجعة "الإعلانات" حتى وقعت في المحظور، فقد كان المرحوم "الشبراويشي" صاحب أكبر مصنع للعطور ومختلف المنتجات الأخرى، يعلن في "المصور" بمبالغ كبيرة، وحدث أن أحدهم أبلغه أن مقالا من المقالات التي ستنشر فيه عبارة خلاصتها أن بعض الشباب والرجال في بلد عربي يتناولون "الكولونيات" بدلا من الخمر، وفي ظرف ساعتين قبل النشر، وجه البنا انذارا يطالبنا فيه بتعويض قدره كبير إذا نشرنا هذه العبارة لأنه يورد من هذه السوائل التي لا علاقة لها بالخمر ولا بالسكر بما يزيد عن ربع مليون جنيه إلى ذلك البلد وكان من المحتمل أنه قد يلغي الاتفاق  كله، بعد نشر هذه العبارة، وقد استطعنا أن ندرك هذا قبل النشر، وساعتها فهمت لماذا كان "انطون جميل" يراجع الإعلانات..

 

وفي جعبتي دروس عديدة، ولكن "الإيجاز" في نظري هو أعلى مراتب البلاغة، وعسى أن يصدق هذا القول على زملائي الذين تحتل مقالاتهم صفحات وصفحات.

 

 

Dr.Randa
Dr.Radwa