الأربعاء 3 يوليو 2024

ملامح المشهد الشعري في العراق الاَن

25-2-2017 | 18:30

د. سلمان كاصد

ناقد وأكاديمي ولد في البصرة عام 1951، اشتغل في الصحافة بالإمارات ستة عشر عاما. صدرت مؤلفاته في كل من الإمارات وعمان وبيروت والقاهرة ومنها: عالم النص.. دراسة في فن فؤاد التكرلي القصصي، الموضوع والسرد.. مقاربة لفن مهدي عيسى الصقر، الجذر والهوية، قصيدة النثر.. دراسة تفكيكية.

يتبادر للوهلة الأولى - عندما نستعرض المشهد الشعري العراقي – سؤال مهم وهو: ما سمات وخصائص الشعر العراقي الآن على وفق تحولات أنساقه المستمرة؟ وكأننا من خلال هذا التساؤل نؤكد أن ثمة عناصر متغيرة في بنية القصيدة العراقية مما يكسبها تحولا دائما وبحثا دؤوبا عن أشكال جديدة لا بد لها أن تعبر عن متون جديدة.

   وبنظرة فاحصة بانورامية للمشهد الشعري الآن، نجد أولا هيمنة قصيدة النثر وتداولها على درجة عالية من التواتر والتكرار في الكتابة الشعرية العراقية، وكل ذلك بسبب اقتراب روح الشعر من جمالية النثر، أي أن هناك تعالقا واضحا بين الكناية بوصفها نثرا والاستعارة بوصفها فعلا شعريا، حتى إنه لم يعد هناك ما يمكن أن نعزل فيه التزامنية (الاستعارية) بمفهوم ياكوبسن عن الكنائية الزمنية (النثرية). باعتبارهما كيانين متداخلين في قصيدة النثر العراقي بشكل كبير.

   في ضوء ذلك كله لا بد أن نقر بحقيقة أن هناك قطيعة بدأت تتجذر بين قصيدة النثر العراقية وكلاسيكيات الموروث الشعري العراقي، وأن التجديد الشعري أخذ مدياته من اتساع فضاءات قصيدة النثر بشكل متسارع، وذلك عبر تكريس مجموعة من الخصائص العامة التي امتازت بها قصيدة النثر العراقية وهي التكرارية والسردية الواصفة والتوليفات الأسلوبية والتناصات وتوظيف الأقنعة والتعالق مع الثقافات الإنسانية.

   ومن خلال قراءة كل تلك المفاصل بوصفها عناصر مشكلة لبنية القصيدة لوجودها مجتمعة أو منفردة فيها نبصر مبنى شعريا يتطابق إلى حدّ بعيد مع المتن المتغير في بحثه الدائب عن تشكلات جديدة. إن هذا البحث المتجدد هو ما أكسب القصيدة النثرية العراقية قوتها وديمومتها. ولا نعدم اتكاءَها على موروث شعري كبير بالرغم من بوادر القطيعة المعرفية بينها وبين كلاسيكية القول الشعري العراقي.

الخطوات الأولى

  من أمد بعيد تقدمت الشعرية العراقية محايثة الخطوات الأولى للفن التشكيلي في امتداد تاريخي بعيد يتجذر حتى بدايات الحضارة العراقية "السومرية"، منذ ومضات قصائد "انخدوانا" الشاعرة السومرية الأولى، وتشكل ألوان المنحوتة الطينية السومرية، ومن خلال هذا التصالح الفني والإبداعي الشعري معا، يمكن لنا أن نفهم طبيعة وخصائص بنية العقل العراقي الذي تجلى من خلال هذين الفنين "الشعر والتشكيل" حيث الشاعر العراقي برؤاه كونه خالق منظومة أنسجة لغوية توازي أنسجة الفرشاة وإزميل النحات.

    وفي مقدمة طروحاتي هذه لا بدّ لي أن أؤكد أن ما أقدمت عليه من إعداد بانورامي لقصائد شعراء يمثلون المشهد الشعري العراقي يبدو عاكســا لجزء من المشهد الكبير الذي لا يمكن أن تحيط به هذه المساحة من النشر، لأنه متشعب ومتعدد وهائل من جهات عدّة، أولها تعدد الأجيال وتداخلها، وثانيها تصارع الأفكار على مستويات المعرفة والانتماء القومي والعرقي، كون المشهد الشعري العراقي يمثل قوميات متعددة "كردية وتركية وعربية" تنتمي إلى عرقيات لا تلتقي إلا بعراقيتها، كونها تعيش في وطن له تجذرات عميقة في التاريخ والذي يتفق عليه الجميع، بالرغم من ادعاء كل فئة أو عرق منها بالانتماء لهذا التاريخ دون سواه، وبذلك تولد صراع الأصول الذي لن ينتهي كما يبدو.

   المشهد الشعري العراقي ولحد هذه اللحظة لم يؤشر هذا الاختلاف، بل ينكر التصارع الفكري بالشعر تحديدا، ولكنه يعتمد إلى حدّ بعيد على الموروث الشخصي للشاعر، بوصفه ممثلا لفئة ينتمي لها، وهو في جميع الأحوال يعيش بحثا متدهورا عن قيم أصيلة في مجتمع متصارع بحسب مفهوم الوعي القائم وتجليات الوعي الممكن عند "لوسيان جولدمان".

   يبقى المشهد الشعري العراقي الآن ممثلا لرؤى الشاعر التي هي رؤى بحثه المتدهور عن قيم أصيلة غائبة، وفي كل ذلك يمثل الطبقة والفئة التي ينتمي لها، أي أن لا وعي الكتابة الشعرية تقوده إلى أن يقاوم هزيمة الشاعر أمام العالم. ومن خلال ذلك ترى الشاعر العراقي وفي أغلب قصائده التي أعددناها يخاطب شاعرا مفترضا، لهذا تجد لكل شاعر فيهم - أقصد المشاركين- قصيدة عن شاعر أو خطابا لشاعر مجهول هو الأكثر نقاء أو تعاليا، باعتباره أنموذجا أخلاقيا لما يمكن أن يكون، لا بما هو كائن.. في محاولة من الشعراء للبحث عن يوتوبيا المدن المثالية الضائعة والشعراء المثاليين المختفين بوصفهما موضوعتين مهيمنتين.

أنساق جديدة

  هناك خصائص وسمات أشرنا إلى بعضها بوصفها عناصر تمثل ما أعددناه من قصائد لشعراء هم في طليعة المشهد الشعري العراقي الآن ولشعراء آخرين يمثلون إلى حدَّ معقول الوجه الآخر للشعرية العراقية، وكل ذلك نخضعه لاستقبال يمتزج فيه التذوق إلى حدّ بعيد مع النظرة العلمية الفاحصة لما يمكن أن تكون عليه قصيدة الحداثة، بتمثلاتها لأنساق جديدة من أهمها الانحراف والإزاحة في المعاني عما هو متداول، واللعب على ما هو غير متوقع، وبث الإشارات الدلالية المطابقة لوعي الشاعر الممكن، وكل ذلك لخلق أنساق جديدة عبر الاستفادة من السينما والسرد والتصوير التخييلي.

   أعتقد أن التغير النسقي المتواصل في القصيدة العراقية قد أكسبها الحيوية وكل ذلك بفعل ثقافة الشاعر، إذ لولا هذه الثقافة المطردة لظلت القصيدة العراقية حبيسة نظام تصويري قار، تتحكم به وحدة نصية طويلة منقولة من الملحمة، بينما اتجهت الآن عبر حداثيتها إلى وحدات نصية قصيرة، هي أقرب عند الكثير من الشعراء إلى روح الهايكو أو قصيدة "اللمحة" أو "الصدمة"، وكل ذلك يتحرك ضمن المعاني التي تخلق غايات تصويرية عالية الثأثير ما تشهده القصيدة العراقية الاَن.

   هناك منحى مؤثر لخلق انحرافات صادمة عند المتلقي عبر تحفيز المشاهد المتعددة اللامتوقعة في خواتيم القصيدة العراقية، وبخاصة في قصيدة النثر التي نجد فيها تراكيب صورية لا تداولية، بحسب خطابة ياكوبسن التي يتحول فيها النسق الإبلاغي إلى نسق بلاغي، في حال تحوير الخطاب بما لا يتوقعه القارئ، أي أن التحول في النسق سيكسب الرسالة دلالتها الشعرية "البلاغية – الاستعارية" بدلا عن الدلالة المعيارية "الإبلاغية – الكنانية". هنا لا بد لنا أن نؤكد على أن النسق المضمر في قصيدة النثر، لم يعد فاعلا، لكن هذا لا يعني أن قصيدة النثر العراقية، قد تحولت إلى بوستر يفضح كل إمكانياته الدلالية للمتلقي، بل العكس من ذلك بدأت هذه القصيدة في بساطتها أكثر تعقيدا، إذ كلما اتجه الشاعر للتبسيط اتضح الوجه الإبداعي المعقد الذي تتركب منه مفاصل القصيدة، هذا ناهيك عن التكثيف الذي بدأ يصوغه الشاعر بأقل ما يمكن من الألفاظ التي تمثل أوسع ما يمكن من المعاني.

   في البدء وجدنا شوقي عبدالأمير في قصيدته (قيامة السوق) لاعبا محترفا على عنصري التخييل والواقع، كي يوهمنا بلا واقعية عالمه من جهة، أو بلا تخيلية هذا العالم من جهة أخرى، فالعالم عند شوقي عبدالأمير محمول على الصور المتلاحقة، وهي تتراكم في فعل سردي هادئ، وضاج في الآن نفسه وكأنه يقابل ضجيج العالم خارج نصي بضجيج القصيدة داخل نصي.

ولأن الأشياء مبعثرة تبحث عن تساؤلات مفقودة عنها إجاباتها، ترى شوقي عبدالأمير يضع بياضات متوالية بين مقطع صغير جدا واَخر، ليدلل على هذا الفقدان الذي تكرر، وهنا يلعب الشاعر على عنصر التكرار لا في السواد /الكتابة بل في البياض/الفراغ، وبذلك قدم الشاعر قراءَة جديدة للعالم الذي يشكله في قصيدته بما يوازي عالم الواقع.

   الشاعر كاظم الحجاج اشغل على الكابوس ذاته، الذي تعامل معه شوقي عبدالأمير، كلاهما يصور مأساته، عبد الأمير من منظور جمعي والحجاج من منظور فردي وهو أن كاظم الحجاج في خطابه الشعري يمازج بين أناه والآخر، واضعا ذاته في مركز القول، ومن خلاله يتناول العالم، وبذلك كان راويا ممسرحا في النص الشعري.

   "كابوس الشاعر" إعلان واضح، وحتى قبل استهلال القصيدة، أي من عنوانها، عن تمركز الشاعر على ذاته في محاولة منه أن يلعب على الضمائر باستمرار، حتى إننا حين نقرأ هذا النص يبهرنا التبادل العضوي بين الضمائر ذاتها التي تقود إلى الصورة. أما في قصيدتيه القصيرتين جدا "أمجاد" و"جنوبيون" فإن الصدمة بلاغية حين يقول:

"رصاصات تعيسات.. تلك التي ترتكب أمجاد الحروب"

"خرجنا من تنانير أمهاتنا.. ساخنين لأجل أن نليق بفم الحياة"

   وهذان المقطعان هما ذروة/ مرتكز التصوير الشعري لديه عبر "الاستعارة" التي يستغرقها بكل عناصرها المفهومية، ليشكل منها البنية العامة لقصيدته، وهذا ماحصل في "كابوس الشاعر":

"فكيف لأجل شاي الليل ـ أكسر إخوتي الأغصان؟".

عالم رؤيوي

    من جهة أخرى نجد عبد الكريم كاصد في قصائده القصار أقرب إلى اليومي والعادي والمألوف، ليخلق منه لا مألوفا بمفهوم التغريب البريختي، حيث يعتمد تقنيات الفنون الأخرى، السينما، الرواية، المسرح، من مشاهد وحوارات، تزاح لديه من موقعها الجنسي إلى موقع آخر "الشعري تحديدا"، غير أن هذا كله لا يعني أنّ كاصد يلغي الصدمة في خاتمة قصيدته، بالرغم أن ذلك لا يعنيه أساسا، كونه يؤسس عالما داخل القصيدة، عالما رؤيويا، لايبحث إلا عن كينونته. نجد في قصيدة "مديح" خطابا للشاعر بوصفه رمزا في خلوده الأبدي، كونه صانع العالم،أي أنه صانع الكلمات/ الأشياء، وكأن الشاعر يعيدنا إلى المعنى الشعري في استهلال الملحمة، ليؤكد أي الشاعر أن الكلمة ستبقى الخاتمة بعد ذبول الأشياء:

"وهو يهمس في أذن الأبدية العجوز

الصماء

أشعاره الباقية".

   من جهة ثانية نقرأ جواد الحطاب فنجده أكثر قسوة حين ينقر على جسد الصورة الرخو، وكأنه يختبر درجة هشاشتها من أجل أن يمررها في لمسة صغيرة تجانس حجمها الذي ينفتح على دلالات صادمة كما في "برلمان" إذ نجد المفارقة في التضاد، وتبادل الأقنعة، وهي اللعبة ذاتها في "وجهات نظر" و"زهرة نرسيس". يتكثف عالم الحطاب حين يعلن إدانته، وذلك بحثا عن قسوة لغوية صادمة في خلق صور صادمة لها موقف بملمح الاحتجاج نفسه.

   وتلتقي قصيدتا كولالة نوري في رؤية متجانسة للعالم "لست سوى كولالة" تعاد تركيبيا في "تاريخ حجرين"، إذ تلتقي الثنائيات الضدية عند "هنا" إذ يجتمع السواد والبياض والسؤال والجواب، في الأولى ويجتمع اليسار واليمين في الثانية.

   وتبدو رسمية محيبس في عالمها الشعري، لاعبة ماهرة على دلالات الكلمة لا الصورة الكلية للنص الشعري، إذ تخلق تضاداتها بسهولة، بين:

"أنا أكره الكبار حين أكتشف ضآلتهم"

حيث يبدو التقابل الدلالي واضحا "تحت قميص النهر". تكتشف عالم الرجل الذي يخبئ الكثير، لهذا تعجبني شدة السطر الشعري وتماسكه عند رسمية محيبس.

   وتعيد دنيا ميخائيل تركيب الأشياء مستغلة المعرفة، باتجاه الغريزة، والضمائر باتجاه التمزق، والسرد باتجاه عالم رخو، ففي "ضمائر منفصلة" يشير العنوان إلى تضاد ما سيأتي بين ال"هي" وال"هو". وهذا نجده في الالتقاء والافتراق، الحضور والغياب، الإثبات والنفي، الذي لا بد أن تبرهن الساردة على صحة أحد الطرفين في قصيدتها "نظرية الغياب". هنا تستغل دنيا ميخائيل روح المعرفة لتعيد تشكيل العاطفة التي لن تتشكل في خاتمة قصيدتها.

   يعيد وليد هرمز تركيب الخطاب عبر أدوات "التحذير" باستخدام "لا الناهية" مع فعل الأمر: "ولا تتكئ" و"لا تتكلْ" و"لاتخش". وكما يبدو أن هرمز، بالنفس الملحمي الذي يكتب به يعيدني إلى سؤال الاحتجاج، وكل ذلك يجري في احتشاد الصور والكلمات تعبيرا عن روح التحريض.

   ويستغل إبراهيم البهرزي في استهلال قصيدته النفي بـ "لا" أو الزمنية بـ "حين"، في تكرار هو جزء من بنية قصيدة النثر بمعناها الأوسع وبأفقها التركيبي غير أنه يجرب هجاء القصيدة لذاتها، حين تغدو تحت تراب الكلمات.

    قلت إن الشاعر بمعناه التجريدي هو مركز القول الشعري، الذي يتداوله الشعراء، إذ نجد عبدالزهرة زكي يخاطب الشاعر في "رفقة النجوم" بفعل سردي هو ذاته الذي يشتغل عليه في "رفقة الوحوش"، أما "نصب للتذكار" فهي قصيدة عن السقوط الموشك، بوصفها إدانة لعالم يظل متأرجحا، وهو يخوض حروبا إلى ما لانهاية، في إطار من التشكل المقطعي الذي يحمل دلالاته الجزئية، ولكن في إطار كلي يحاول أن يسند جدار القصيدة من سقوطه.

تشكيل العالم

    ويبدو عالم "جليل حيدر" ذا بنية سردية وبخاصة في قصيدته "تنويمة" التي يبدأ استهلالها بالنفي أيضا: "لا ولا المغزى" و "لا الببغاوات". ويستغل التكرار بهدوء ليؤسس منه نصا متلاحق الصور، بينما بدت قصيدة "باب الطلسم" بإشارتها المكانية (هنا) ضمن إطار مسرحي يمكن اعتباره مشهدا محدد المعالم باسم الإشارة، وبذلك نجد اكتفاء تصويريا بعيدا عن الدهشة التي يحاول الشعراء الآخرون اقتناصها.

   إن جليل حيدر يعيد تشكيل العالم في القصيدة، في إطار من العلاقات التي تحمل إحالات غير متوقعة لا تعتمد الصدمة كما يحاول الكثيرون، أي أن المفاجأة لديه هي القصيدة كلها بتركيبها ودلالاتها الإجمالية الموحية.

   في قصيدتها "وطن تنقصه البلاغة" نجد خطابا لشاعر مجهول تصفه داليا رياض بـ "العظيم الواحد" بما يقابل "المأتم العظيم الواحد" كذلك في قصيدتها "خارطه طريق" وكأنها تلعب على الجغرافيا مثلما لعبت دنيا ميخائيل على المعرفة العلمية في "نظرية الغياب"، أما قصيدتها "صوت" فيبدو أنها تتمركز حول الفراغ/ الصوت كونه دالا: "أستطيع أن أضع وجهك في صوتك" وهي في مجملها يمكن أن تكون تأملية.

الطريق الملكي

   ويذهب باسم المرعبي إلى خطاب الشاعر المثال الممسرح، في قصيدته "أحلام الشاعر" حيث نشعر بما يحلم به النموذج، وكأنه بوصفه شاعرا يفتش في أحلام شاعر آخر هو شاعره ذاته كونه كينونة أخرى أكثر نقاء في أحلامه التي هي الطريق الملكي إلى لا شعوره بمفهوم فرويد "حسبه أنه يصغي". هنا يقلب المرعبي الصورة، حيث تعودنا أن يكون الشاعر باثا ليصبح لديه مصغيا، مستقبلا، أي أن الخطاب متشكل بين المرسل (الباث) إلى المرسل إليه "المصغي" في تحول من الشاعر/ المرعبي، إلى الشاعر/ الممسرح صاحب الأحلام المعروضة على طاولة القاريء. وفي قصيدتيه "الإعلان عن قلبي" و"المدينة ن" يبدو المرعبي ساردا، متألما، تائها، باحثا عن شيء ما في ذاته/ قلبه، أو في المدن التي غيبت المدينة ن، إنه الضياع ذاته الذي واجهنا في قصيدته "أحلام الشاعر" حينما ظل الشاعر يعرض أحلامه لقارئ مفترض يبحث عنه.

   ويبدو عالم نجاة عبد الله ملحميا وهي تستعيد قبلة أبيها عامل البناء، وكحل أمها الأنيق، وذكريات الرجال الذين أفسدوا حياتها، إنها أكثر وضوحا كونها تمتلك موضوعا محددا يحتوي القصيدة، ولا يبتعد عنها كثيرا وكل ذلك يوفر بنية متماسكة.

   ونقف عند علي صاحب في قصائده الثلاث، لنكتشف شعرية من نوع خاص.. حقا.. إذ تتماسك القصيدة لديه فتتشكل بنائيا من:

 مقدمة: " كي أحظى...اخترعت"، ثم تفصيل: "فأسميت.. وأسميت.. وأسميت.."، ونتائج صادمة: "وصار الحب يمشي.. على ساق واحدة". يشتغل علي صاحب على التحول في "لعبة الأسماء" و"شجرة التفاح"، ففي الثانية "تحولت الأشياء" مثلما تحولت الأسماء.

   وتعيد نضال القاضي في نصوصها صياغة قسوة الأشياء وضياع السارد:

 الاستهلال: "أين أضع الشمس وأنا أجمع النوافذ"، وهي تشكل ما تريد من العالم في تساؤلات تحيط بالقصيدة، في استهلالها وخاتمتها، على نظام "الروندو" الدائري كعلبة الموسيقى التي تبتدئ وتنتهي بمعزوفة متماسكة أخاذة: الخاتمة: "وأنا لا أدري أين أضع الشمس".

    ويبدو صوت كريم جخيور أقرب إلى اليومي، من خلال تجميع جزئيات اليومي وصياغة عناصره المألوفة لكي يشكل نصا غرائبيا، إذ أن التعقيد لديه في تبسيط النص الشعري، ومواجهة الصورة بدوال متوالية، ولهذا تتراكم الصور منضدة، طبقة فوق أخرى وكأنها تعويض عن قواف مفقودة. في قصيدته "ورقه ثانية في الرثاء"، يبدأ بالنفي كغيره من الشعراء، يبني نصه على خطاب مع الغائب/ زوجته المتوفاة، متحولا بين الخطاب كونه حضورا، والنفي كونه غيابا، ولهذا امتلكت القصيدة بعدا تصويريا باذخا.

   هناك شعراء مهمون يمثلون اتجاها جديدا، بالرغم من اختلافه إلا أنه الوجه الآخر من الشعر العراقي، وهم مجيد الموسوي وعلي وجيه وعلي انكيل ومعتز رشدي ورعد زامل وواثق غازي وكاظم اللايذ وموفق السواد.

   تشكل تلك الأسماء علامات مهمة في وعيها بالكيفية التي يصاغ منها المبنى بعيدا عن الإغراق في الاستعارات أو الإغراق في الكنائيات النثرية، بما يحيل النص الشعري إلى سرد محض، ولا بدّ لنا أن نؤكد أن كل ذلك هو جزء من مشهد كبير يضم أجيالا مهمة من الصعب جدا الإحاطة به، وإن ما تم اختياره هو محاولة ذوقية فيها من المعيارية والموازنة بين النتاج الشعري الشيء الكثير في اختيار هذه النصوص والأسماء.