صفاء الليثي - مونيرة وناقدة سينمائية مصرية
كان أحمد الحضري شابا فى المرحلة الثانوية، حين وقع فى هوى السينما، ومارس التصوير بدلا من تدخين السجائر، وتفوق على الإنجليز فى التعبير باللغة الإنجليزية، وهو الأجنبى الوحيد، فسلموه أمانة الصندوق بجمعية الفيلم فى لندن، وهناك صور فيلما لزميلة إيطالية. يبكى الحضري عندما يتذكر إتقانها وبراعتها فى إخراج الفيلم، وتصويره الذى لم يرتكب فيه خطأ واحد، كما يبكى عندما يتذكر تحديه لوزير الثقافة المصري الأسبق ثروت عكاشة.
الحضري الذي توفي أول يناير 2017 درس الهندسة المعمارية فى كلية الفنون الجميلة وتخرج عام 1948. ثم مارس هوايته فى التصوير أثناء بعثته بلندن، اشترى الكاميرا وحمض أفلاما صورها بكاميرا 8 مللي وعرضها بجهاز عرض نفس المقاس. عاد لمصر مهندسا معماريا وعمل بتخصصه 19 عاما مهندسا عاملا وسينمائيا هاويا، ثم عكس الأمر فمارس السينما 19 عاما والهندسة أصبحت هوايته. فى لندن تعرف تجربة "جمعية الفيلم" ونقلها إلى مصر فأسس مع مجموعة من المثقفين المصريين "جمعية الفيلم" بالقاهرة.
عاد عام 1955 إلى مصر وكله حماس لتطبيق ما تعلمه، وشارك فى نشاط جمعية "الفيلم المختار" حتى عام 1959، وتم تأسيس "جمعية الفيلم" عام 1960 كأول جمعية تسجل بالشئون الاجتماعية. بدأت نشاطها فى مايو 1961، وهى الجمعية التى استمرت حتى الآن. ومن نتائجها المهة فيلم "حصان الطين" الذى أنتجته الجمعية لفتاة تهوى السينما وقتها، هي عطيات الأبنودي، وقام الحضري بتصويره مع محمود عبد السميع الذى خلفه الآن فى رئاسة جمعية الفيلم.
نشاط الجمعية وكتابة المقالات عن السينما فى مجلة المجلة لفتت النظر إلى ضابط الاحتياط أحمد الحضري الذى كان يحضر اجتماعات السينما بزيه الرسمي. اختاره ثروت عكاشة لعمادة معهد السينما بعد أن طلب منه كتابة تقرير عن كيفية تطوير مناهج معهد السينما فكان تقريره مركزا على زيادة الناحية العملية، وعاد بعد زيارة لمعاهد بولندا وتشيكوسلوفاكيا وفرنسا ليستفيد من كل المناهج ومن طرق التدريس التى تقدم بالخارج المتقدم. بعدها استلم العمل بالمعهد وحاول تنفيذ رؤيته فى التطوير ولكنه اصطدم بكثيرين قدموا اعتراضات ضده، أما هو فقام بترجمة كتب فى الدراسات السينمائية ليستفيد منها المبتدئ والمحترف على حد سواء. حبه للإتقان على طريقته وإصراره على التميز يجعله ينجح فى أن تكون سنة عمادته 1967/ 1968 كأول دفعة يتخرج فيها الجميع بعد أن أنهوا مشروعات تخرجهم بالكامل، ومنهم سمير سيف وإبراهيم الموجي.
بعد إعفائه من عمادة معهد السينما كلف بالإشراف على نادى السينما وقدم كل الخبرة التى اكتسبها فى لندن وخاصة إصدار النشرة التى تعد مرجعا مهما للثقافة السينمائية وتوثق للنشاط الكبير الذى قدم للسينما. مرت سنوات طوال، فيها تنوعت أنشطة الحضري فى جمعية الفيلم، ومعهد السينما، والمركز القومي للسينما، وصندوق دعم السينما، إلى جانب العمل فى مهرجاني القاهرة والإسكندرية.
كنت قد أجريت معه لقاء ونشر بمجلة "الفن السابع" تحت عنوان "حديث من القلب" فى العددين 29 و30 عام 2000. سجلت معه فى منزله واندهشت من مرارات يحملها فى ذاكرته، الرجل الذى نظنه ثابتا كصخرة، كانت دموعه تغلبه فأضطر إلى غلق الكاسيت، وأنتظر تماسكه ليعود إلى البوح. دموع الفرحة بعمل يحبه وتفوق فيه، ودموع قهر لأن هناك من لم يتحمل دقته وإصراره على التغيير، دموع لم تتوقف يوما تفضح رهافة حسه وامتلاء قلبه وعقله بحب الجمال والفن والإتقان.
تزاملنا بمجلس إدارة جمعية نقاد السينما المصريين، شجعنى على تحمل مسئولية أمانة الصندوق، وحين تخوفت من عدم قدرتى على أداء المهمة، أكد لي وبحنو الأخ الأكبر أنه سيساعدنى ويكون بجانبى، وقد كان حقا. رغم اختلافاتنا فى بعض التوجهات النقدية فنا وسياسة إلا أن صفة كانت تجمعنا فقد كان يجن جنونه لعرض الفيلم بأبعاد تشوه الكادر فتمطه طوليا أو عرضيا، أشاطره فى هذا الرفض ويصعد بنفسه درجات عالية حيث كابينة العرض لكي يضبط مع مسؤول العرض حجم الكادر ودرجة الصوت. لم يسكت يوما عن الحق، ينبرى للإعلان عن رأيه بدرجة فيها قدر من نزق الشباب. نعم فقد كان شابا حتى نهاية العمر. قابل مصادفة نادية كامل فأنبها على فيلمها "سلطة بلدى" الذى وجده يدعو للتطبيع مع إسرائيل. ومن حوله يشعرون بالحرج، بينما هو غير ملتفت لدعوات التهدئة ويرى أن هذه أمور لا يمكن التنازل فيها. صراحته لم تكن تغضب أحدا، بل احترمه المختلفون معه قبل المتفقين لثقتهم فى براءة يتمتع بها، شابا يتمتع بفتوة فى الإيمان بما يعتقد وفى الدفاع عنه حتى آخر مدى.
وتبقى الأعمال التي ترجمها إنجازا كبيرا، فعناوين الكتب بالإضافة إلى دقة ترجمتها وجمال اللغة العربية التى تخلو من العيوب الشائعة لكثير من الترجمات يجعلها كتبا باقية تسهم فى تعلم السينما، ومنها كتاب مارسيل مارتان المهم "اللغة السينمائية"، وكتاب "كيف تتم كتابة السيناريو". بالإضافة لجهده فى إصدار دليل السينما المصرية وخاصة الجزء الأول الذي نسميه فيما بيننا "الكتاب الأسود"؛ نظرا لغلافه بين الرمادى والأسود ويعد حتى الآن واحدا من أهم المراجع لكل ما أنتج من أفلام الطويلة منها أو القصيرة والتسجيلية ولم يضاهيه أى دليل صدر بعده حتى الآن.
وحتى وقت قريب قبل رحيله كان متابعا لكل الأنشطة، مشجعا لكل محب للسينما، لم يتوقف يوما عن الاهتمام بالإتقان الذى اشتهر به وشهد له كل من تعامل معه وخاصة زميله الذى رحل قبله بقليل الباحث يعقوب وهبي، وكأن مصيرهما فى خدمة الثقافة السينمائية قد وصل إلى محطته النهائية، وكلاهما راض عما قدمه لخدمة فن أحبه وثقافة أخلص لها.