الإثنين 29 ابريل 2024

وكانتْ.. كُلَّما خَلَتْ بي!

مقالات23-3-2024 | 18:28

كانت كثيراً ما تُطيل النظرَ إلى وجهي ثم تقول: عندما أموت..أنتَ أكثرُ مَنْ سأشتاق إليه!! فأضاحكها مُحاوِلاً ابتلاع حزني وإخفاءَ ما يتفلَّت من عيني رغم محاولاتى الدائبة ببعض التجلُّد..!!؛أحاول النظرَ بعيداً كي لا تلْحظَ شيئاً وأضاحكها: بعدما تَصِلين هناك ستنشغلين بأحبابك(أختي رضا،وأخواي أحمد وإبراهيم) الذين سبقونا بالرحيل،عند ذلك تستنيرُ تقاطيعُ وجهها،وتلمع عيناها كأنها تراهم أمامها يتحرَّكون بخفَّة الأطفال وبراءتهم؛فقد بادرونا بالرحيل ولم يزالوا بَعْدُ في طفولتهم، وتتساءل فَرِحَةً: أيكونون في انتظاري..؟!!فأجيبها:نعم..!!وسيكونون أكثرَ برّاً بك مِنَّا جميعاً- بنين وبنات- فتدهش ولا أتركها في حيرتها؛حيث أبادرها: هؤلاء الذين تعبْتِ في تربيتهم وبالطبع أنا منهم وتحمَّلْتِ الكثيرَ لإسعادهم سيضنُّون يوم القيامة بحَسنةٍ واحدةٍ.. الجميع يقولون:نفسي

لكن هولاء الصغار الذين سبقوك بالرحيل دونما مشقَّة التربية أو ثِقَلِ المسئولية-يومَ القيامة- يرفضون دخولَ الجنة حتى يأخذوا بيدِكِ ويد أبي معكِ أرأيتِ بِرَّاً أصدقَ من هؤلاء البررة..؟!!فتصمتُ وقد غطّتْ وجهَها السكينةُ كأنها تحيا حلماً تراه رأْيَ العين لولا بعضُ أحزانٍ من ذكريات رحيلهم تعاودُها متى سنحتْ الفرصةُ..!!وكثيراً ما كانت تسنح كأن تنادي إحدى الأمهات أمامها اسمَ ابنها أو ابنتها المطابق لاسمٍ من أسماءصغارها..فتتمتم بدعواتٍ بلَّلها الدمعُ..!!

(البابُ ما قَرَعَتْهُ غَيْرُ الرّيحِ في اللَّيْلِ العَميقْ/البابُ ما قرَعَتْه                    

كَفُّكِ..أَيْنَ كَفُّكِ وَالطَّريقْ/ناءٍ؟!! بِحارٌ بَيْنَنا، مُدُنٌ، صَحارى مِنْ ظَلامْ/الرّيحُ تَحْمِلُ لي صَدى القُبُلاتِ مِنْها كَالْحَريقْ/مِنْ نَخْلَةٍ يَعْدو إِلى أُخْرى وَيَزْهو في الغَمامْ..!!)

 وهأنذا-ومثلي كثيرون- نمضي في طريق الحياة ما بين شوكٍ وصخرٍ يدمي أقدامَنا دونما نجد يدَك الحانيةَ تربِّتُ على أكتافنا وتضمِّد الجراحَ النوازفَ ودعواتِك الطاهرةَ تزيل ما يعترضنا وتمنحنا الثقة في تحقيق أحلأمنا...إنها لحياةٌ شديدةُ الرداءةِ حين تخلو من وجهك يا أمي.!!ولعل قصيدة(الباب تقرعه الرياح) للعراقي الكبير "بدر شاكر السياب"أكثر قصائده تعبيراً عن جدلية العلاقة بين الشاعر والأم؛فمن جهةٍ عاني"السياب" من فقْدها قبلما يبلغ السادسة،ومن جهةٍ أخرى عاني الاغتراب عن وطنه؛فهو في لندن، يوجع قلبَه المرضُ ويعذبه حنينُه الى عراقه،كان يظن انفتاح طريق حياته بما يشتهي من عافيةٍ ويرتقب من سعادة،لكنه الآن يضنيه أنه قابعٌ طريحًا في المشفَى، ينتظر مَنْ يقرع بابه ليحمله الى عراقه الحبيب،يطوف بمدنه ونخيله؛تُسعده شمسُ نهاره،ويدهشه قمرُ ليله الحالم..!!،إنها الغربة القاتلة التي نعيشها بعد رحيل أمهاتنا،والمرارة الساكنةُ حلوقَنا الآن سواءٌ أكنَّا مغتربين نحنُّ إلى ثرى الأوطان،أو نتنقل بين ربوعها لكننا شديدو الشوق إلى دارٍ ضمَّتْنا صغاراً وملاعبَ مُترَعةٍ بذكريات الطفولة،ووجوهِ أمهاتٍ كانت تشعُّ محبةً صادقةً ما وجدناها منذ أن غادرْننا.. ليتهن اصطحبْننا في الرحلة الأخيرة؛كي لا نرى من الحياة وجهَها القبيح..!!

(البابُ ما قَرَعَتْهُ غَيْرُ الرّيحِ...آهِ لَعَلَّ روحًا في الرّياحْ/هامَتْ تَمُرُّ عَلى الْمَرافِئِ أَوْ مَحَطّاتِ القِطارْ

/لِتُسائِلَ الغُرَباءَ عَنّي..عَن 

غَريبٍ أَمْسِ راحْ/يَمْشي عَلى قَدَمَيْنِ، وَهْوَ اليَوْمَ يَزْحَفُ في انْكِسَارْ/هِيَ روحُ أُمّي هَزَّها الحُبُّ العَميقْ/حُبُّ الأُمومَةِ فَهْيَ تَبْكي:" آهِ يا ولدي البَعيدَ عَنِ الدِّيارْ..!!/وَيْلاهُ..!! كَيْفَ تَعودُ وَحْدَكَ لا دَليلَ وَلا رَفيقْ..!!")

إننا كثيراً لا نقتنع برحيلهن إذْ لا عودةَ لهن إلى واقعنا، ونظل نتلمَّس بآذاننا وقْعَ خطاهن أو نترقَّبُ زيارةَ أرواحهن نخاطبهن خطابَ مَنْ لا يصدِّق أنهن هناك في عالَمٍ يغاير ما نحن فيه...!!،ذلك ما وقع فيه "السياب"ورغم تصديره المشهد الثاني بأن الريحَ قارعةُ الباب؛لكنه يرجو أن تأتي أمه طيفاً باحثةً عنه في اغترابه تتقصَّى أخباره وتتتبَّع خطواته المنكسرة ويجري الحوار بينهما ناهضا على مبدأ"الشفافية الذاتية"إذْ يكشف "السياب"عن بحثه الدائب عن حضن الأم المفقود يعوِّضه عمَّا فَقَد من حنانٍ منذ طفولته،إن روحه شديدةُ الظمأ إلى كتفها كيما يريح رأسَه المُثقَل بهموم الغربة، وجسدَه المحاصَر بجيوش المرض.! ومَنْ مِنَّا لم يمر باللحظة الموجِعة التي استنطقها "السياب"بحروفه الناضحة حزناً على نفسه بهذا"المدِّ الصوتي"المختوم بالهاء الساكنة في لفظة "ويلاه!" يعقبها الاستفهامُ المُفعَم بالتهويل الكاشف عما يعانيه "السياب"من وحدةٍ قاتلةٍ فلا رفيقَ ولادليلَ..!!

(أُمّاهُ..لَيْتَكِ لَمْ تَغيبي خَلْفَ سورٍ مِنْ حِجارْ/لا بابَ فيهِ لِكَي أَدُقَّ وَلا نَوافِذَ في الجِدارْ/كَيْفَ انْطَلَقْتِ عَلى طَرِيقٍ لا يَعودُ السّائِرونْ/ مِنْ ظُلْمَةٍ صَفْراءَ فيهِ كَأَنَّها غَسَقُ البِحارْ؟!!/كَيْفَ انْطَلَقْتِ بِلا وَداعٍ.. فَالصِّغارُ يُوَلْوِلونْ/يَتَراكَضونَ عَلى الطَّريقِ وَيَفْزَعونَ فَيَرْجِعونْ/وَيُسائِلونَ اللَّيْلَ عَنْكِ وَهُمْ لِعَوْدِكِ في انْتِظارْ/البابُ تَقْرَعُهُ الرِّياحُ لَعَلَّ روحًا مِنْكِ زارْ..!!)

ورغم اقتناعنا برحيلهن الحتمي إلا أننا تطرق رؤوسَنا مطارقُ أمنيات لا محل لها من التحقُّق؛لذلك نخاطب الأمهات في قبورهن كأنهن أمامنا لم يفارقْننا في غيابٍ أبديٍّ خلف جدران بلا أبوابٍ ندقُّها بالأكف،أو نوافذَ تسمح لنا بالتمتُّع بسماعهن أو رؤية وجوههن؛فلا نملك سوى هذا الحوار الذي يتصادم والواقع الماثل أمام أعيننا، أجَلْ..!! لقد غيَّبتْهن القبورُ فليس هناك محلٌّ للعتاب على الذهاب الحتمي دون وداعٍ،ولا مجالَ لانتظار الصغار عودتهن ولو بالبكاء المختلط بالصراخ،لقد برع "السياب"في نقل تجربة غربته وضياعه، وتصويره الحي لتمزُّقه ما بين فقْدِ الأم وفَقْدِ الوطن؛فاستطاع إعطاءَ تجربته الذاتية بُعْداً إنسانياً ينسجم وثنائية الاغتراب والحنين، إذْ توزَّعتْ ألفاظُ القصيدة على حقلين دلاليَّن:حقلٍ دالٍّ على معاناة الاغتراب كما يبين في ألفاظ "غريب،يزحف، انكسار" وحقلٍ دالٍّ على معاناة"السياب" من حنينه للأم وللوطن كما يبين في ألفاظ"صرخات، الحنين،العراق،أماه،الفراق"وبين الحقلين علاقةٌ سببيةٌ؛ فالشوق نتاجٌ طبيعيٌّ لاغترابه عن الوطن وفقدان أمه، والمتأمِّل في معجم القصيدة يلحظ انتخاب "السياب"مفرداتِه بذكاءٍ؛إذْ شحنها بالرموز المصوِّرةِ اتقادَ مشاعره؛فالريح رمزٌ للضياع والليل رمزٌ للتشرُّد والنخلة رمزٌ للوطن، والمرافئ رمزٌ للاغتراب،ليأتي ختامُ القصيدة متَّشحاّ بضَعْفِ الغريب الغارق في لُجَج الشوق،المتمني عودةَ الأم على أية صورةٍ يمكنها التجسُّد فيها؛فقسماتُها محفورةٌ في ذاكرته.. ألسْنا نحيا هذا التمنِّي مثل شاعرنا المعذب؟!! لكن هيهات فما طرقت أبوابَه أو أبوابَنا سوى قبضة ريحٍ قادمةً من عالم الفراق الأبدي تقول لنا وله لامفر.!!

(هَذا الغَريبُ!! هُوَ ابْنُكِ السَّهْرانُ يَحْرِقُهُ الحَنينْ/أُمّاهُ لَيْتَكِ تَرْجِعينْ/شَبَحًا.. وَكَيْفَ أَخافُ مِنْهُ؟!! وَما انمحَتْ رَغْمَ السِّنينْ/قَسَماتُ وَجْهِكِ مِنْ خَيالي أَيْنَ أَنْتِ.أَتَسْمَعينْ/صَرَخاتِ قَلْبي وَهْوَ يَذْبَحُهُ الحَنينُ إِلى العِراقْ؟!!/ البابُ تَقْرَعُهُ الرِّياحُ تَهُبُّ مِنْ أَبَدِ الفِراقْ)

Dr.Randa
Dr.Radwa