الخميس 9 مايو 2024

العارف بالله د. عبد الحليم محمود (2-2) شيخ الإسلام ومجدد التصوف

صورة أرشيفية

1-4-2024 | 02:49

بقلـم: صلاح البيلى
حكى لى الراحل د. منيع عبد الحليم محمود أستاذ التفسير وعلوم القرآن والعميد الأسبق لكلية اصول الدين حكايات كثيرة عن والده الشيخ عبد الحليم محمود، وكنت زرته لأول مرة فى بيت والده فى 54 شارع العزيز بالله فى منطقة الزيتون، شقة رقم 16، وذلك يوم السبت 8 سبتمبر سنة 2007، ثم تعددت لقاءاتى به بعد ذلك، وخصنى بأسرار كثيرة عن والده، منذ وهبه جده للأزهر الشريف تيمنا بأن يصبح شيخا فيه مثل الشيخ محمد عبده، حتى أصبح وزيرا للأوقاف وشيخا للأزهر، فإلى التفاصيل التى تقدم لنا صورة وصفية دقيقة وصادقة عن حياة الشيخ عبدالحليم محمود. يقول د. منيع الابن الأكبر للإمام الراحل: ولد أبى فى 10 مايو سنة 1910 م بقرية (السلام) التابعة لبلبيس بالشرقية، وكان اسمها قديما (عزبة أبو أحمد)، ورحل فى 17 أكتوبر سنة 1978م، وما بين التاريخين عاش حياة حافلة بالعصامية والجهاد، وكان والده الشيخ محمود على أحمد أحد قضاة منطقته، وكان تلميذا للشيخ محمد عبده، فأعد ولده الأكبر عبدالحليم ليصبح دارسا فى الأزهر وشيخا به، فحفظ أبى القرآن صغيرا، ثم قدم للقاهرة وحده والتحق (بمدرسة حسن أغا بالسلطان المؤيد شيخ)، قرب (باب زويلة) التاريخى، وأقام بالقاهرة وحده وعمره 12 سنة، ثم افتتح معهد الزقازيق فى العام التالى، فانتقل إليه والدى للدراسة الابتدائية، وعندما وصل للمرحلة الثانوية، وكانت مدتها خمس سنوات، أراد أن يأخذها كلها فى سنة واحدة، وكان هذا النظام معمولا به آنذاك، بشرط الفصل من المعهد، وبالفعل اعتكف فى بيت جدى للدراسة، وتقدم للامتحان، واجتاز جميع المواد بنجاح، عدا مادة النحو، امتحنها بعد شهرين، وكان قد أتم فيهما حفظ (ألفية ابن مالك) كاملة مع شرحها، ثم التحق بالقسم العالى بالأزهر؛ حيث لم تكن الكليات قد افتتحت بعد، وكان هذا القسم من أصعب ما يكون، وكان يحضر امتحاناته شيخ الأزهر بنفسه، وكانت الدراسة تتم فيه من بعد صلاة الفجر إلى التاسعة صباحا. كان أبى مغرما آنذاك بالمذهب السلفى فقرأ جميع كتب ابن تيمية، ولم تكن كتبه تدرس بالأزهر، حيث يقوم الأزهر على المذهب الأشعرى، وكان زميل أبى فى الدراسة الشيخ عبدالرازق العفيفى نائب رئيس هيئة الإفتاء السعودية سابقا. وبعد انتهاء اليوم الدراسى كان أبى يواظب على حضور مجالس الأدب وندوات الشعر والثقافة، وكذلك الندوات السياسية، وكان يحرص على حضور ندوات الكاتب محمد بك فريد وجدى، وندوات جمعية الهداية الإسلامية لمؤسسها الشيخ محمد الخضر حسين، كما حضر ندوات جمعية الشبان المسلمين، وندوات صوفية، وحزبية، فقد كانت القاهرة آنذاك تموج بتيارات فكرية وسياسية شتى. وبعد انتهاء دراسته، سافر إلى فرنسا على نفقته الخاصة، فتعلم الفرنسية سريعا، ونجح فى الحصول على ليسانس الفلسفة فى عامين من جامعة السوربون، وقد زامله الشيخ عبدالرحمن تاج الذى صار شيخا للأزهر بعد ذلك، كما زامله د. محمد عبدالله دراز وكيل الأزهر الأسبق، ولنجاح أبى ضمته بعثة الأزهر إليها، فحصل على خمس دبلومات مرة واحدة فى (علم النفس واللغة وفقه اللغة والفلسفة الحديثة وعلم الاجتماع). ثم شرع فى دراسة الدكتوراه على يد المستشرق (لويس ماسينيون)، وكانت عن أستاذ السائرين إلى الله الحارث بن أسد المحاسبى، وهنا بدأ فى سلوك طريقه فى الحياة الذى سلكه بقية عمره، فقد كانت رسالته للدكتوراه هى العباءة التى بنى عليها جل فكره لاحقا، بعد أن كان قد درس جميع المذاهب الفلسفية والعقلية القديمة والحديثة، واختار التصوف طريقا له عن قناعة وعقيدة. حصل أبى على الدكتوراه فى اليوم السابق على دخول الألمان إلى باريس، فانتقل إلى إسبانيا لشهور، ثم استقل مركبا دار به من حول طريق رأس الرجاء الصالح حتى وصل إلى ميناء السويس فى مصر، ومن ثم أتيح له زيارة جميع مدن الساحل الإفريقى. بعد وصوله للقاهرة التحق أستاذا لعلم النفس بكلية اللغة العربية، ثم أستاذا للفلسفة بكلية أصول الدين، ثم رئيسا لقسم الفلسفة بالكلية، فعميدا لها، ثم سافر إلى السودان لستة أشهر أسس خلالها جامعة أم درمان الإسلامية، وعاد لمصر أمينا عاما لمجمع البحوث الإسلامية، ثم وزيرا للأوقاف وشيخا للأزهر. وأسرياً أنجب أبى خمسة من الأولاد، أكبرهم أنا، ثم السفير د. محمد عبدالحليم محمود، ثم ثلاث شقيقات، تزوجن من مشايخ أزهريين، وأزواجهن على الترتيب هم (د. محمود بن الشريف، ود. الحسينى هاشم، والشيخ سيد محمود). كان أبى يعشق غرفة مكتبه فى شقته القديمة والصغيرة فى منطقة (الزيتون) بالقاهرة، وكان يحب الاستراحة فيها بالساعات بين كتبه، وينام على موكيت متواضع فوق الأرض، وكان كثير الصيام، وربما يكون إفطاره على قراقيش خبز يابس وعسل. فلم تكن تشغله المظاهر ولا الشكليات، وقد تقلب فى سلك التصوف حتى منَّ الله عليه بسلوك الطريقة الشاذلية فقرأ أورادها ولزم أبى الحسن الشاذلى. لم تكن لأبى حياة شخصية قط بالمعنى الحقيقى للكلمة، ولم يكن يختلف باطنه عن ظاهره، وكان منهجه (منهج الحب والاتباع)، وكان زاهدا متقشفا لا ينام إلا فى حجرة مكتبه على جوخ أخضر على الأرض، وكان صواما طوال العام، وطعامه العسل الأسود أو عسل النحل مع الخبز اليابس، وكان قلبه لا ينام لأنه وصل فى الطريق الصوفى إلى مرحلة (سجود القلب). كان وقت أبى كله للمسلمين، يستيقظ لصلاة الفجر، ثم يجلس للتأليف والبحث وإعداد المحاضرات والأحاديث للإذاعة والتليفزيون ويعد مقالاته، وكان يملى كل ذلك على ثلاثة من سكرتاريته المقربين غير الموظفين، أصبحوا فيما بعد أساتذة كبار فى جامعة الأزهر، ثم يذهب لزيارة ضريح سيدنا الحسين، ويذهب بعده لمكتبه فى (مشيخة الأزهر) تمام التاسعة صباحا، ويظل هناك إلى ما شاء الله، وبابه مفتوح لكل الناس، يحل مشاكلهم، ويستقبل المسلمين من مصر وخارجها، ويرد على الخطابات الرسمية، وقد يذهب بعد ذلك لحضور ندوة أو مؤتمر أو لتسجيل حديث، ثم يعود إلى بيته، ولا يأوى لفراشه قبل العاشرة. لم أره مرة ينصحنا أو ينصح أحداً من أولاده أو أقاربه، بل كانت أفعاله تتحدث عنه، فكان القدوة والمثل للجميع، فلا خلاف بين أقواله أو أفعاله. وقال لى د. منيع أيضا: إن الشيخ عبدالحليم أشرف على تأسيس مسجد سيدى أحمد بن عطاء الله فى سفح جبل المقطم، وهو خليفة المرسى أبى العباس خليفة الشاذلى، وإنه كان يساعد والده فى نقل رفات الأولياء الذين يرقدون بسفح الجبل، وهم كُثر، وإنهم وجدوا أجسادهم على حالها، لم تأكلها الأرض، ولم تبلَ، وهذا يؤكد أن أجساد الأولياء مثل الأنبياء والشهداء لا تأكلها الأرض. وقال: كان أبى يعشق الجلوس بالساعات فى منطقة سفح المقطم بجوار سيدى أحمد بن عطاء الله، وحتى مطلع الفجر، وكان يسمى هذا المكان (بقيع مصر) لكثرة ما به من صحابة وتابعين وأولياء مدفونين فى سفح الجبل. كما زار د. عبدالحليم محمود جبل الشهداء فى البهنسا الغراء حافيا على قدميه، ونقش اسمه هناك فى ضريح السبع بنات، وكان يقدر تلك البقعة الطاهرة من أرض مصر التى ضمت أجساد الكثير من الصحابة عند فتح صعيد مصر. رؤى وكرامات وكان رحمه الله قد حكى فى كتبه بعض ما رآه من رؤى لأقطاب التصوف الذين كتب عنهم، فما كتب عن أحدهم إلا بإذن وأمر، ونقرأ معا ما كتبه عن الشاذلى فى كتابه عنه: فى ذات صباح كنت جالسا فى المنزل فى غرفة المكتب كعادتى، وكنت فى تلك اللحظة مطأطئ الرأس، ثم رفعت الرأس ناظرا أمامى، وإذا بى أجد أمامى إنسانا فأخذت فى تأمله دون أن أشعر قط بخوف أو فزع.. كان طويلا أقرب إلى النحافة منه إلى السمنة، يميل لونه إلى السمرة، وعلى رأسه شال أبيض، أو ما يسميه الحجازيون (الغطرة)، وكان فى وقفته منحنيا قليلا، وقد تأملت ملابسه أيضا فى تفاصيلها وشكلها، لم يتحدث معى، ولم أتحدث إليه، وبعد فترة ونحن على هذا الوضع، انظر إليه فى تحديق، ويمد عينيه إلى فى نظرات ثابتة أخذ يشف شيئا فشيئا، وألاحظ أنا فى وضوح التدرج فى هذه الشفافية حتى انتهت بزواله تماما دون أن يتحرك من موضعه، ذلك ما شاهدته بنفسى. ويعلق الشيخ عبدالحليم على ذلك بقوله: ماذا يكون خرق العادات غير هذا؟ إن الذين ينكرون خرق العادات، وينكرون الكرامات لأولياء الله، إنما ينكرون شيئا أثبتته تجارب الإنسانية منذ أن وجدت، وأثبته القرآن الكريم، وأثبته جمهور الأمة، وقد رأيت أنا خرق العادات بنفسى وبعينى كما رويت سابقا. ويقول فى أسباب تأليفه كتابه عن الشاذلى بعد أن جمع المراجع ثم تلكأ فى الكتابه: كنت فى ليبيا أستاذا زائرا للجامعة الإسلامية هناك سنة 1964م، وكنت اتخذت الإجراءات للسفر حاجا إلى بيت الله الحرام، وبينما أنا فى طرابلس أنتظر أن أبحر منها رأيت فيما يراه النائم، شخصا أعرفه اسمه (توفيق)، فى ملابس شرطى، ويمسك بيده قيدا، ويقول لى آمرا: (اكتب عن أبى الحسن الشاذلى)، وتلكأت فى الاستجابة، وأردت أن أهمل الموضوع، وأن أتحدث معه فى شيء آخر، فإذا به يهدد بوضع القيد فى يدى، وإذا به ينذر ويتوعد، فقلت له: هل معنى ذلك أن أترك ما بيدى من أعمال لأكتب عن أبى الحسن الشاذلى؟ فقال: نعم، اترك ما بيدك من أعمال واكتب عن أبى الحسن الشاذلى، ورضى (توفيق) حينما وعدت بالكتابة واستيقظت، ويسر الله أمر الحج، والحمد لله. ولما عاد للقاهرة، حاول أن يرجئ الكتابة عن الشاذلى، وأخذ فى دراسة سهل بن عبدالله التسترى، وبدأ فى الإعداد لوضع كتاب عنه، يشرح فيه لطلبة أصول الدين تفسيره للقرآن الكريم، وإذ بعاصفة تمر به وبالإنسانية كلها تبعده عن التسترى وعن التفسير الصوفى! ثم حاول أن يكتب فى موضوع الإيمان، بعد أن ألقى فيه دروسا وندوات فى الإذاعة والتليفزيون، وأخذ معه مراجع الموضوع ليكتب عنه فى قريته فى هدوء الريف، وركب سيارة بالأجرة، ووصل لقريته، ونسى المراجع فى السيارة التى عادت وبداخلها المراجع، وهو لا يعرف صاحبها، ولا اسمه ولا عنوانه! وتذكر الرؤيا والأمر القاطع: (اترك ما بيدك، واكتب عن الشاذلى). فالتزم بالأمر وبدأ فى تنفيذه. ويحسن أن نختم بصيغة للصلاة على النبى ذكرها الشيخ عبدالحليم محمود، قال: (فى فترة من الفترات ابتلانى الله بموضوع شقّ على نفسى وعلى أنفس المحيطين بى، واستمر الابتلاء مدة كنا نلجأ فيها إلى الله طالبين الفرج، وذات يوم أتى عندى بعض الصالحين، فأعطانى ورقة كتبت فيها صيغة من صيغ الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اقرأها واستغرق فيها، وكررها منفردا بالليل، لعل الله يجعلها سببا فى تفريج هذا البلاء، واعتكفت فى غرفة بعد صلاة العشاء، وأضأت نور الغرفة، وأمسكت الورقة بيدى وأخذت فى تكرار الصيغة واستغرقت فيها، وإذا بى أرى فجأة أن الحروف التى كتبت بها الصيغة مضاءة تتلألأ نورا، ولم أصدق عينى فغمضتهما وفتحتهما عدة مرات، فكان النور على ما هو، فوضعت الورقة أمامى، ووضعت يدى على عينى أدلكهما وأدعكهما، ثم فتحت عينى فإذا بالحروف على ما هى عليه تتلألأ نورا، وتشع سناء، فحمدت الله، وعلمت أن ابواب الرحمة قد فتحت، وأن هذا النور رمز ذلك، وفعلا أزال الله الكرب، وحقق الفرج بكرامة هذه الصيغة المباركة وهى: (اللهم صل صلاة جلال، وسلم سلام جمال، على حضرة حبيبك سيدنا محمد، واغشه اللهم بنورك كما غشيته سحابة التجليات، فنظر إلى وجهك الكريم، وبحقيقة الحقائق كلم مولاه العظيم، الذى أعاذه من كل سوء، اللهم فرج كربى كما وعدت (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)، وعلى آله وصحبه وسلم). رضى الله عن العارف بالله مجدد التصوف ومترجم سير أعلام الصوفية الشيخ د. عبدالحليم محمود، ونفعنا بعلمه آمين.