«مدينة العلم 4» بين الدين والدنيا
صورة أرشيفية
- بقلـم: د. عبدالحليم منصور
منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، فى وسط الصحراء القاسية، جاء شعاع النور فى وسط الظلام الدامس، ليبدد ظلام الليل البهيم الذى أحدق بالبشرية آنئذٍ، بعث الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليهدى الناس إلى صراط الله وطريقه المستقيم. وإن أول نداء من الحق للخلق على لسان نبى الإنسانية كان عن القراءة والعلم، قال تعالى: «اقرأ باسم ربك الذى خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذى علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم» وفى هذا إشارة واضحة إلى أن الدولة الوليدة التى يعمل النبى عليه الصلاة والسلام على تأسيسها ستقوم على العلم، بشتى فروعه وأنواعه وقد كان.
لقد تتابعت آيات القرآن الكريم تترى تحث المسلمين على طلب العلم وتعلمه، لأنه أساس بناء الإنسان، وأساس بناء النهضة الحديثة للدولة الوليدة، وأساس تحقيق معانى الخلافة عن الله عز وجل فى إعمار الكون، قال تعالى: «هو الذى أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها».
والآيات الدالة على طلب العلم كثيرة منها فضلا عما سبق ما يأتى: قوله عز وجل: «ن والقلم وما يسطرون» وقال تعالى: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ» (المجادلة:11)، وحكم أهل العِلْم على غيرهم فقال: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ» (الزمر:9) وقال سبحانه: «شَهِدَ اللهُ أنه لا إلهَ إلا هو والملائكةُ وأولو العلمِ قائمًا بالقسطِ» (آل عمران: 18).
قال الإمام الغزالى: فانظر كيف بدأ سبحانه بنفسه، ثم ثنَّى بملائكته، ثم ثلَّث بأولى العلم. وقال عز وجل: «إنما يخشى اللهَ من عبادِه العلماءُ» (فاطر: 28). فالخشية ثمرة المعرفة، فمن عرف الله خشيه حق خشيته، بخلاف مَن يجهل مقام الله، فهو أجدر ألا يخشاه، كالطفل يمسك بالنار فتلسعه؛ لأنه لا يعرفها.
وقال صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه». وقال الله تعالى فى كتابه: «فلولا نَفَرَ من كلِّ فرقةٍ منهم طائفةٌ ليتفقهوا فى الدينِ وليُنذروا قومَهم إذا رَجَعوا إليهم لعلهم يحذرون» (التوبة: 122)، وقال تعالى: «فاسألوا أهلَ الذكرِ إنْ كنتم لا تعلمون» (النحل: 43) ومن السنة: وردت أحاديث كثيرة تحث على طلب العلم منها ما يأتى: «من سلك طريقًا يلتمس فيه عِلمًا سهَّل اللّه له به طريقًا إلى الجنَّة» وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا ملعُونةٌ ملعُونٌ ما فيها إلّا ذكر اللّه وما والاه وعالمًا أو مُتعلّمًا» وقال صلى الله عليه وسلم: «من يرد اللّه به خيرًا يفقهه فى الدّين».
وقال عليه الصلاة والسلام: «وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يَصنع» وروى الترمذى عن أنس مرفوعًا: «من خرج فى طلب العلم كان فى سبيل الله حتى يرجع».
ولم يأمُر اللّه – سُبحانه وتعالى – نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يطلُب الاستزادة من شىء فى هذه الدُّنيا إلّا من العِلْم، فأمره أن يقُول «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِى عِلْمًا» (طه:114).
وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من فى السماوات ومن فى الأرض، حتى الحيتان فى الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر».
والعلماء هم أمناء الله على خلقه، وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم فى الدين خطير؛ لحفظهم الشريعة من تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين، والرجوع والتعويل فى أمر الدين عليهم، فقد أوجب الحق سبحانه سؤالهم عند الجهل، فقال تعالى: «فاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» (النحل: 43).
والنصوص السابقة من الكتاب والسنة تحض على تعلم كل علم نافع وخادم للإنسانية والبشرية، سواء أكان علما شرعيا دينيا، أم علما دنيويا خادما للإنسانية، كعلوم الطب، والهندسة، والفلك، والصيدلة، وغيرها من العلوم التى تخدم الإنسان، وتحقق له شتى أنواع المنافع المختلفة.
إن العلم فيض إلهى، وهو هبة من الخالق جل شأنه لعباده، وهو نور يستضاء به لمعرفة أسرار الكون، وفهم نواميس الحياة، وإدراك حكمة الله فى الخلق الذى «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» ينزل الله العلم بقدر، ويأذن فيه لمن يشاء بحكمة، ويوحى به إلى العقول شيئًا فشيئًا، وآنًا بعد آن، مع تناسب تام بين قدرات الإنسان- جميعها- على تحمل هذا الفيض الربانى، وبين معطيات عصره، وحاجات زمنه، قطرة فقطرة، وجرعة بعد جرعة؛ ليزداد الذين آمنوا إيمانًا، وليهتدى الضال، ويسترشد الحائر، بآيات الله البينات التى أدركها، وسننه المتتاليات التى وعاها، ومعجزاته الظاهرات التى اكتشفها، والتى يقف أمامها العلماء خاضعين خاشعين.
ولقد تواصلت آى القرآن تترى على مدى ثلاثة وعشرين عاما، يطالع الناس فيها دائما ما طالعهم فى الآيات الأول، من توكيد لدنى على هذا التناغم بين العلم والإيمان، وتلفت أنظارهم إلى هذا الكون بأفسح آفاقه وبأدق تفاصيله على حد سواء: ولو تتبعنا آيات القرآن الكريم لوجدناه يلفت انتباه المسلمين إلى النظر فى ملكوت السماوات والأرض، والأخذ بأسباب العلم لتنهض هذه الأمة من سباتها الطويل، وتكون فى مقدمة الأمم نهضة وعلما، وتقدما، وفيما يأتى نذكر بعضا من هذه الآيات منها: قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» وقوله تعالى «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ» وقوله تعالى «أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيف سطحت» وقوله تعالى «فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِى الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا» وقوله تعالى» أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»، وقوله تعالى «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا».
ولم يكن صحابة رسول الله ولا تابعوهم ولا من تبعهم بإحسان يصنفون العلوم إلى علوم شرعية، وعلوم كونية، وإنما كانوا يقتدون بهدى النبى فى تقسيم العلم إلى: علم نافع، وعلم لا ينفع، وقد صح عنه أنه كان يسأل الله علما نافعا، وأنه كان يستعيذ بالله من علم لا ينفع. وقد ضرب القرآن الكريم مثلا للعلم الذى لا ينفع فى قصة هاروت وماروت قال تعالى: «وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».
ويقول الطبيب الفرنسى المسلم، موريس بوكاى فى محاضرة له عن القرآن والعلم الحديث: قد دفعنى إلى إعداد هذه المحاضرة انبهارى بما جاء فى القرآن الكريم من إشارات إلى معارف ومفاهيم لم يكتشفها العلم إلا فى العصر الحديث. والقرآن هو الكتاب الوحيد من نوعه بين أيدينا الذى جاء بمعارف تسبق عصر تدوينه بقرون...إن الدارس للإسلام يعرف أن العلم والدين فيه توأمان، حتى فى هذا العصر الذى قطع العلم فيه أشواطًا تبدو مذهلة! لم يصطدم الإسلام أبدًا مع العلم؛ بل على العكس ألقت المعارف الحديثة أضواء جلت لنا معانى القرآن، وما فيه من روعة، ويقول البروفيسور جولى سمسون: إن بإمكان الدين أن يقود العلم قيادة ناجحة، انظروا هناك الدين ضد العلم، وهنا يمكن للدين – أى الإسلام - أن يقود العلم قيادة ناجحة، نعم، أنت إذا دخلت مصنعاً من المصانع ولديك إرشادات فى الكتالوج، فإنك ستتعرف على المصنع بسهولة لأن معك إرشادات من الصانع، أما الذى يدخل وهو لا يعلم، لا يتعرف بسهولة.
وعليه أعتقد أنه لا يوجد خلاف بين المعرفة العلمية، وبين الوحى، بل إن الوحى ليدعم أساليب الكشف العلمية التقليدية المعروفة حينئذٍ، وجاء القرآن قبل عدة قرون مؤيداً لما تطرقنا إليه مما يدل على أن القرآن هو كلام الله، ومن خلال ما تقدم يمكن القول إن كل علم ينفع الناس هو علم إسلامى، وهو علم مشروع، وهو علم حق، فالحق غاية العلم .... والله قد أنزل الكتاب بالحق كما خلق السماوات والأرض بالحق. والحق ما ينفع الناس، قال تعالى: «كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الْأَرْضِ».
ولقد بادر المسلمون إلى طلب العلم قياما بالفريضة، ورجاء بأن تضع الملائكة أجنحتها لهم رضا بما يصنعون، وبذلك أخذ العلم فى العالم كله ينطبع بطابع علماء الحضارة الإسلامية ويصطبغ بصبغتهم. أما الآن فقد أصبح قصارى أمل المسلمين اليوم أن ينقلوا التكنولوجيا.... أى أن ينقلوا ما ابتكره غيرهم، أما أن يحوزا العلم نفسه الذى أبدع هذه التكنولوجيا، فهذا أمر لا يخطر لهم على بال!.
إن الإسلام يرحب عمومًا بالعلم والبحث العلمى، ويرى من فروض الكفاية على الأمة المسلمة أن تتفوق فى كل مجال من مجالات العلم التى تحتاج إليها الأمة فى دينها، أو دنياها، بحيث تتكامل فيما بينها، وتكتفى اكتفاء ذاتيًا فى كل فرع من فروع العلم وتطبيقاته، وفى كل تخصص من التخصصات، حتى لا تكون الأمة عالة على غيرها.
ولكن العلم فى الإسلام، مثله مثل العمل، والاقتصاد، والسياسة، والحرب، كلها يجب أن تتقيد بقيم الدين والأخلاق، ولا يقبل الإسلام فكرة الفصل بين هذه الأمور، وبين الدين، والأخلاق، كأن يقول قائلون: دعوا العلم حرًا، ودعوا الاقتصاد حرًا، ودعوا السياسة حرة، ودعوا الحرب حرة، ولا تدخلوا الدين أو الأخلاق فى هذه الأمور، فتضيقوا عليها، وتمنعوها من النمو والانطلاق وسرعة الحركة.
إن الإسلام يرفض هذه النظرة التى أفسدت العلم والاقتصاد والسياسة، ويرى أن كل شيء فى الحياة يجب أن يخضع لتوجيه الدين، وكلمة الدين، فكلمة الدين هى كلمة الله، وكلمة الله هى العليا، ومن المنطقى أن تخضع كلمة الإنسان المخلوق لكلمة الله الخالق سبحانه. وكلمة الله هى أبدًا كلمة الحق، والخير، والعدل، والجمال.
ومن خلال ما تقدم يمكن القول: إن كل علم نافع يخدم البشرية، وينفع الإسلام والمسلمين، يجب على المسلمين تعلمه، والاستفادة منه، لتتحقق لهم القوة، وأسباب التقدم، وكل علم ضار بالإنسان، والبشرية بصفة عامة، يحرم تعلمه، لأنه سبيل من سبل الإفساد فى الأرض، والله لا يحب الفساد.