الجمعة 27 سبتمبر 2024

أصداء الوحدة

26-2-2017 | 10:13

حسين عبد البصير - كاتب مصري

    أنت كما أنت وحيد في حجرتك الصغيرة التي لا يسكن غيرها أحد سواك فوق سطح إحدى عمارات وسط البلد، وتحديدا في شارع شريف، والتي تطل على شارع 26 يوليو وتطالع دار القضاء العالي، وترنو إلى شارع طلعت حرب.

    ككل يوم في المساء، تطالع أسطح العمارات المجاورة لساعات دون جدوى. ثم ترقب حركة المارة في الشوارع المحيطة بك. وتركز بصرك كثيرا على العشاق. وتدخن سيجارتك التي لا تفارقك أبدا ولا تفكر في مستقبلك الغامض. تترك مراقبة المارة في الشوارع أسفل العمارة. وتقترب من السلم الخلفي تتلصص باحثا عن شيء جديد يكسر الملل الذي يغلف حياتك الراكدة. ترصد بتمعن واضح قدوم وانصراف البوابين والخدم والخادمات والديلفيريه ومساعدي الكوائين والبياعين. يسجل عقلك الواعي الحكايات التي تولد وتموت على السلم الخلفي وتسمح لعقلك الباطن بنسج حكايات جديدة موازية وفقا لخيالك، وقد تكون صحيحة أو لا.

    تركت بيت العائلة وقررت أن تعيش وحيدا كما أنت في ذلك المنفى الاختياري فوق سطح تلك العمارة. لا يسمح لك سكان العمارة باستخدام السلم الأمامي للعمارة ولا المصعد. تصعد وتهبط من السلم الخلفي كالخدم، كم كنت تحب أن تركب أسانسير العمارة العتيق الذي ينتمي إلى طراز العصر الملكي الغابر. وكم كنت تتمنى أن يفتح لك البواب النوبي العجوز باب المصعد مثل البكوات الذين يسكنون في أدوار العمارة. حكاياتك وذكرياتك مع الشغالات اللاتي يأتين للعمل في العمارة والعمارات المجاروة لا تنتهي ولا يمكن أن تنساها؛ فهي رصيدك الباقي من الذكريات التي تؤكد لك أنك ما زلت حيا، وتحرص على ممارستها بانتظام وحميمية دون ملل.

    عندما يقترب الليل من الانتصاف، تهبط من السلم الخلفي إلى حيث تسير بلا هدى في شوارع وسط البلد إلى أن تتعب قدماك من المشي فينتهي بك الحال جالسا على مقهاك الصغير المفضل في شارع شامبليون، وليس بعيدا عن منطقة معروف. يقترب منك صبي المقهى، فيحضر لك شيشتك المفضلة وكوبا من الشاي بدون سكر وينصرف دون أن تنطق أو ينطق بكلمة واحدة. تجلس على المقهى إلى الصباح الباكر، تعيد نسج الحكايات وتسترجع الذكريات. تتذكر تجربتك الفاشلة في الحب وكذلك في التمثيل وفي الصحافة.

    تترك المقهى وتسير بلا هدف. تجوع؛ فتذهب إلى أحد محال الفول والطعمية القريبة. تتناول ساندوتش فول بالطحينة وآخر طعمية بالبيض. تشتري جريدة اليوم. تقرأ العناوين بسرعة، وأنت سائر في اتجاه الجريدة التي كنت تعمل وتحب فتاة بها. الوقت مبكر وهي لم تصل بعد. تقف طويلا أمام الجريدة في انتظار ظهورها بسيارتها الفخمة التي عادة تتركها لسائس الجريدة كي يركنها في جراج الجريدة الفسيح. يطول الانتظار وأنت واقف لا تلوي على شيء. لا تفارق عيناك باب الجريدة. تقف بعيدا بحيث لا تراك حين تصل، كعادتك يوميا.

    تتذكر أول لقاء لك معها عندما كنت تعمل محررا صغيرا بالجريدة. وكيف كانت أول مرة تعزمها فيها على شاي في كافيتريا الجريدة. وكيف نبتت بذور الحب بينكما. وكيف اعترفت بحبك لها بعد تردد وخوف. وكم كنت سعيدا حين اعترفت هي أيضا بأنها تبادلك نفس الحب. وكيف تمت الخطوبة رغم اعتراض أهلها على شخصك وسلوكياتك الغربية. وكيف تم الاتفاق على الزواج. وكيف وكيف إلى أن تبدل حالك وتعلقت بالتمثيل بشدة وأهملت كل شيء حتى هي التي كانت تحبك كثيرا، وكانت حبك الكبير. وكيف أثر ذلك على وظيفتك في الجريدة حتى تم رفتك منها. وكيف أنها حاولت أن تساعدك لكنك كنت ترفض وتبرر لها أنك سوف تصبح نجما كبيرا، وسوف تعوضها عن كل شيء، وما عليها إلا أن تصبر عليك. وبعد أن فشلت في إصلاحك، رضخت لأمر أهلها وتزوجت بآخر غني لا تحبه.

   تظهر سيارتها من بعيد. يرتجف قلبك وتزداد ضرباته مع اقترابها. تركز عيناك عليها. تبدو ممتلئة بعض الشيء وحزينة. ترتدي فستانا بنفسجيا، ذلك اللون الذى كنت تحبه عليها. ويزين صدرها عقد غال. تهبط من السيارة، بينما أنت بعيد في زوايتك المفضلة حيث تراها ولا تراك، كما تحب. لا تريدها أن تراك في هيئتك المنفرة بلحيتك الطويلة وشعرك المهوش وثيابك الرثة. تترك السيارة للسائس. تحس بأنك منتش بعد أن رأيتها. تسير عائدا إلى حجرتك الصغيرة وحيدا كما أنت دائما. تغلق باب حجرتك خلفك. لا تفكر في شيء. تغط في نوم عميق وحيدا كما أنت.