الثلاثاء 14 مايو 2024

ماذا بعد الفشل الثاني للثورة؟

26-2-2017 | 10:23

سعد القرش

    كلما جاء شهر فبراير، أستدعي مساء الجمعة 11 فبراير. ليلة الصخب، أغان وزغاريد وألعاب نارية ونفير سيارات. زهو بما أبدعه المصريون، وفرح كوني بخلع حسني مبارك، حتى الذين لا يعرفونه، ولم يسمعوا باسمه إلا مع صعود هدير 25 يناير، أسعدتهم قدرة شعب على كسح رأس النظام، بإمكانات ذاتية سلمية لا تقاوم. كانت ليلة الأمل والرهان العربي على بدء ساعة التغيير. وسط ذلك كله، كان هناك مواطن واحد صامت، لم ينخرط في نقاش مع أحد، صعد فوق سيارته القديمة، أظنها ماركة لادا روسية الصنع، بالقرب من تمثال سعد زغلول المطل على نهر النيل وميدان التحرير من موقعه أمام دار الأوبرا، تشي ملامحه بأنه في الستين أو تجاوزها بقليل، وقد ارتدى بدلة نصف كم، تذكرك بأفلام الستينيات وحلل جمال عبد الناصر المصنوعة في المحلة الكبرى. لوّح بالعلم بيد، وبالأخرى حمل لافتة كتبها على عجل بخط غير جميل:

    «تذكر يا مصري هذا التاريخ: 11 ـ 2 ـ 2011».

    ست سنوات من خيبة الأمل تكفي أن يموت ذلك الحالم كمدا، إلا إذا تمتع بتفاؤل تاريخي، استمده من تجارب ثورات لم تحقق نجاحا سريعا يربك المشاركين فيها. لم يكن نظام مبارك بالقوة التي تستدعي استعدادا لنفس طويل من الصمود، وكان الانهيار السريع في 18 يوما إغراء كاذبا بسهولة الخطوات التالية، على العكس من تجارب قاسية، منها حرب الاستقلال الصينية، وكان قائدها صن يات سين واقعيا حين قال في إحدى نوبات هزيمة الثورة الصينية: «ليس هذا سوى فشلنا الثالث عشر».

    الاعتراف بالفشل يغني عن التفاؤل المجاني بإنجاز وهمي، وهذا ما وعاه عبد الناصر حين اعترف بالهزيمة في يونيو 1967، وأعلن مسؤوليته عنها. صدمة الاعتراف بالحقيقة أكثر قسوة من الحقيقة نفسها، لا يفيد الإنكار ولو أدى الاعتراف بالواهمين إلى الانتحار، ولكنه ـ الاعتراف لا الانتحار ـ ضروري لتجاوز الهزيمة، فلا ينكر المرض النفسي إلا المرضى الحقيقيون الميؤوس من شفائهم. وكان تشرشل واقعيا في اعترافه بقيامة الجحيم النازي الذي بلغ لندن، فصارح شعبه بخطاب في مجلس العموم قائلا: «لا أستطيع أن أعدكم إلا بالدم وبالدموع والبكاء والألم».

    الاعتراف بفشل وعود 25 يناير أول خطوة للبناء، بداية لنسف سراب عن تحقق إنجاز لا وجود له إلا في خيال الواهمين، ودعوة إلى رفض الواقع والسعي إلى تغييره باقتراح بدائل، وعدم الاستسلام تعللا بعمق الحفرة وانسداد الآفاق، كما حرض ذات يوم يوسف إدريس في كتابه «إسلام بلا ضفاف»، ضاربا المثل بالديدان التي «ترفض حياة الهزيمة، وتزحف، ملليمترا ملليمترا، لتخرج من المأزق... إذا أيقنت أنها هزمت أو في سبيلها لأن تهزم، تنتفض فيها كل ما تمتلكه من قوى المقاومة، وتستحيل مع إرادة الدودة حيث ركنت واستكانت إلى إرادة العملاق المستوحش في الدفاع عن حياته وعن حقه في حياته، وقدرته على هذا الدفاع».

    فن إدارة الثورة هو ما غاب بعد خلع مبارك، ولم يكن حسن النية وحده يكفي بديلا عن مهارات التشييد، فالهدم يجيده أي أحد، ما أسهل نزع الحجارة والنحر في الأساس، أما البناء فهو جهاد أكبر، والمجاهد يلزمه قليل من الورع والترفع، فلا يزن مواقفه وخطواته في ضوء توازنات وحساب لمكاسب أو خسائر شخصية. ولكن الكثيرين انشغلوا بالكلام، استعلاء بالتنظيرات التلفزيونية على شعب عظيم لولا خروجه التلقائي في «جمعة الغضب» لحوصر المتظاهرون في الميادين وحوكموا، وانفض الأمر وتأجل حلم الثورة إلى ما بعد صعود متوقع لجمال مبارك. ولكننا انشغلنا بحروب الكلام، وسارع الذين كانوا ملهمين وهم ضيوف يطلون من الشاشات، إلى احتلال وظائف جديدة كمقدمي برامج تمتد حتى مطلع الفجر، وأسهمت في كثير من الإلهاء، وانتقلت ساحات الوعظ إلى فضائيات رجال المال باستخدام وجوه يسارية وناصرية وليبرالية، وعظ مدفوع الأجر، وإرشاد وطني وثوري وإنساني أو هكذا يبدو، إذ يستبد بالميكروفون صوت واحد، منصة لا تحتمل رأيا آخر، وفي وقت قصير احترقت الرموز وبقي لعموم الشعب طرفان، ممثل الدين (السلفي والإخواني) وممثل الوطنية (العسكري)، حتى فكرة الاكتتاب العام لإنشاء قناة فضائية مستقلة ـ عن الحكومة والحرس القديم واليمين الديني ورجال المال ومحميات الخليج الأمريكية ـ ظلت عصية على التنفيذ، وفشل المشروع لغياب الخيال والإرادة واكتساب ثقة مواطن لم يكن ليدفع إلا عشرة جنيهات، قيمة سهم في فضائية كفيلة بإنهاء الاحتكار الإعلامي، إذ كان الحد الأقصى لقيمة الأسهم التي يشتريها أي مواطن لا يزيد على واحد في المئة من إجمالى الأسهم.

    في كتابه «ما بعد الربيع العربي» يسجل جون برادلي ملاحظة جديرة بالانتباه، هي أن البث المباشر لشبكات الإعلام الغربية انتقى رموزا ومتظاهرين يجيدون التحدث بالإنجليزية أو الفرنسية، وتم التركيز على الحريات السياسية، في حين كانت للذين لا صوت لهم مطالب اقتصادية في العدالة والبحث عن فرص عمل، وأن 19 بالمئة فقط من المصريين، ممن شملهم استطلاع للرأي، قالوا إن الرغبة في تحقيق الديمقراطية سبب إطاحة مبارك، مقابل 65 بالمئة رأوا أنه سقط لأسباب اقتصادية. ويسهل تذكر محترفي الكلام في حضورهم إلى الميدان بصحبة الكاميرات، وحين تطفأ الأضواء يختفون.

    ولم تكن الحشود في جمعة الغضب لتنجح لولا أن الشعب كان ينشد العدل والحرية، بعيدا عن الجوع إلى الكاميرات. ومن شأن هذا المرض بالأضواء أن يوحي لكل فرد بأوهام الزعامة والقيادة، فتكون المشاركة مشروطة نفسيا على الأقل بحصاد بائس ينقل صورته إلى مريديه، على العكس من جموع المنتمين إلى اليمين الديني، في إيمانهم بنصرة قضية، وإنكار الذات، لبلوغ الهدف، وهذا ما أفضى إلى صعود الإسلاميين في مصر وتونس، فيذكر برادلي أن نسبة مؤيدي التيارات الإسلامية في البلدين قبل 2011 كانت أقل من 30 بالمئة، فكيف صعد الإسلام السياسي؟

    يفسر ذلك بثنائية «لبيك إسلام البطولة» والبارانويا الليبرالية، لم يذكر هذين المصطلحين تحديدا، ولكنه عني بإجراء النسب الحسابية للتصويت الفعلي في الانتخابات، وهي «مفزعة ومخيفة وتثير القلق»؛ فإذا تراوحت المشاركة في أي اقتراع بين 50 و60 بالمئة، فإن مشاركة الإسلاميين تعني حصولهم على أكثر من النصف. ففي أول تصويت حر في مصر، استفتاء 19 مارس 2011 على تعديلات دستورية، لم يذهب للصناديق إلا 41 بالمئة ممن لهم حق الاقتراع، وجرى الحشد في الفضائيات الدينية والمساجد، واستغل تنظيم الإخوان آيات القرآن في الحشد: «ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه»، «التصويت على التعديلات الدستورية والموافقة عليها واجب شرعي». ومن بين أقلية شاركت (41 بالمئة) ضمن الإسلاميون تحقيق أغلبية.

    ألا تدعو الكبوات منذ استفتاء 19 مارس إلى اليوم «أول فبراير 2017» إلى الاعتراف بالفشل، تمهيدا للخطوة القادمة؟

    Dr.Radwa
    Egypt Air