الأربعاء 22 مايو 2024

الرئيس وعودة الوعي .. تحويل مصر من دولة ومجتمع كلاسيكي إلى دولة ما بعد حداثية


د. زين عبد الهادي

مقالات1-5-2024 | 13:11

د. زين عبد الهادي

الخروج من عنق الزجاجة اقتصاديا هذا العام في أعقاب انتخاب السيد الرئيس لفترة جديدة تملأنا جميعا بالأمل في أن الرجل يحاول بجهد ومثابرة يراها القاصي والداني محليا وعربيا وعالميا من أجل حل معضلة الاقتصاد في ظل تجديده لشباب وعروق الدولة المصرية ويحولها بمهارة من مجتمع كلاسيكي إلى مجتمع له ملامح جديدة ذات بعد ما حداثي خاص بمصر والمصريين.

وهنا أتحدث عن أدوار الثقافة والفنون في دعم اتجاهات الرئيس وأيضا بحثا عن نظرية خاصة بفكرة التنمية الاقتصادية عبر استخدام أدوات التاريخ والعمق الثقافي والامتداد الفني وتعميق العلاقة مع مؤسسات الثقافة عالميا بما يعود بالخير على مصر والمصريين.

إن أعظم  ما تملكه مصر التاريخ، فهل يمكن للتاريخ أن يساعد في تحديد الهوية والوعي للمصريين؟ هل يمكن أن يساعد في تحويل مصر لدولة ناجحة اقتصاديا وبشكل مستدام؟، إن الفكرة دائما كيف تحول تاريخك الطويل والعريض إلى هوية ومن ثم اقتصاد فتضمن انصهار المؤسسات التراثية والدينية والنخب الاقتصادية والنخب العلمية والمثقفة بما يدعم إعادة بناء الوعي الجمعي ومن ثم تشغيل القوى العاملة وتنمية المجتمع والحفاظ على النخب الموجودة والبناء عليها.. وبمعنى آخر كيف يمكن أن يساعد التاريخ السياسي والثقافي والفني في بناء دولة وطنية.. يحدد مواقفها ويدعم اقتصادها ويبني على ما تحقق من أجل مستقبل رصين تتحدد فيه ملامح مصر وتحقيق وجود المصريين، علينا أن ننتبه إلى الكيفية التي يمكن أن  تحول مصالح كل هؤلاء المواطنين جميعا الي مصلحة الدولة ومن ثم تحديد الهوية المأمولة للوطن.. إذا كان هذا هو الهدف إذن فكل منطق في مقابل التحويل سيحقق مصالح الجميع، وهكذا وبناء على القاعدة الاقتصادية الراسخة إذا تحققت المصلحة الخاصة لكل مواطن تحققت المصلحة العامة للدولة الوطنية، وبمعنى آخر كيف يمكن أن تصب مصلحة الدولة في مصلحة المواطن والعكس صحيح، ومع تكاتف كل القوى الوطنية، مما يجعل الجميع يحققون ما نريد لرخاء الوطن الذي هو مرتبط بشكل مؤكد برخائهم.

ما هو إذن النموذج المصري الجديد الذي يمكن أن يحقق هذه المعادلة، في ظل الظروف الشائكة وإذا أمكن لمصر أن تلتقط أنفاسها أخيرا في ظل تكاتف الإرادة السياسية لحل أزمتها الاقتصادية؟

يرتبط الحل باستخدام التاريخ والجغرافيا العبقرية لمصر ثقافيا كطريق واعد فمن منابع التاريخ الفرعوني والقبطي والاسلامي والمعاصر تتحدد العلامات التاريخية، ومن منابع العمق الفني والموسيقي والسينمائي والأدبي تتحدد علامات الاقتصاد الإبداعي، ومن ملامح الاقتصاد الخدمي تتحدد ملامح وعلامات المستقبل، التحديث الذي يجعل مصر متطلبا فارقا في حياة كل شعوب العالم.

لقد تخلى العالم عن مفهوم الحداثة منذ السبعينيات، وانتصر للإنسان الفرد، مناديا لمفهوم ما بعد الحداثة وعلاقة ذلك بالمعرفة، وذلك بعد سنوات طويلة هيمن فيها الفكر الاستعماري أو ما بعد الاستعمار الكولونيالي على دول العالم النامي، إلى أن تخلصت بعض الدول الكبيرة منه، وفكرة الاستعمار فكرة تعود للقرن الثامن عشر الذي شهد الهيمنة الأوروبية، وهي نفس الفترة التي دخلت فيها الحملة الفرنسية مصر بدعوى التحديث، وأعقبها الاحتلال الإنجليزي كتوصية لمقولات المستشرقين بأن تحديث الشرق يعتمد على أحد بديلين منهما الاستعمار، ومن خلال هذا المفهوم تم نهب منظم لثروات الشعوب ليست فقط المواد الخام بل أيضا لتراث هذه الشعوب، ولا يمكن نسيان كيف تم اختطاف الكنوز الفرعونية من رأس نفرتيتي إلى حجر رشيد (روزيتا ستون) إلى سقف معبد دندرة بالكامل وغير ذلك من التراث المصري والفرعوني والقبطي وحتى الإسلامي، ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل أعقبه محاولة الهيمنة الاستعمارية فكريا من خلال استيراد العلماء والمثقفين وإعادة تصديرهم مرة أخرى من أجل الهيمنة على العقل والوعي، ولم يفهم البعض أن هناك محاولات لسحق الهويات الوطنية من أجل هيمنة من نوع جديد.

لقد اثار هذا المفهوم الأكاديمي الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد في نهاية السبعينيات في القرن الماضي بكتابيه الاستشراق (1978) والثقافة والامبريالية (عام 1993بعد 15 عام من صدور الاستشراق)، و استكمله كل من  الأكاديمية الهندية الأمريكية جاياتري شكرفارتي  سبيفاك في أعمالها هل يمكن للتابع أن يتحدث (1988)، ودراسات مختارة عن التابع (1988)، وناقد ما بعد الاستعمارية (1990) ونقد العقل ما بعد الاستعماري (1999) ، والأكاديمي البريطاني الأمريكي أيضا هومي بابا أستاذ الأدب والنقد في جامعة هارفارد في أعماله أمم ومرويات 1990،  وحول الخيار الثقافي (2000)، وحياة جامدة (2004).

كما يمكن القول بأن الأب لهؤلاء هو الأكاديمي العربي (فيليب حتى) بعمله المهم (تاريخ العرب المطول في طبعته الإنجليزية عام 1937 وطبعته العربية في الخمسينيات)، والكاتب الفرنسي فرانز فانون في عمله (معذبو الأرض)(1961) وبشرة سوداء وقناع أبيض ( 1952 ) وبالمناسبة هو صاحب مقولة ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، والفيلسوف الإيطالي جرامشي بعمله  الشهير (رسائل السجن) و الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كتابيه الهامين المراقبة والمعاقبة : ولادة السجن، وحفريات المعرفة.

كل ذلك أدى مع الوقت إلى إعادة النظر في كيفية تمكين الوعي من الخروج إلى رحاب الدولة الوطنية، وإذا كانت مصر لديها تاريخ طويل منذ عام 1881 في ثورة أحمد عرابي كأول ملمح للوعي المصري الجديد، وثورة 1919 مع سعد وغلول وإعادة بناء الدستور، وثورة 1952 مع جمال عبد الناصر والخروج من عباءة الاستعمار واستقلالية القرار الوطني وصولا لثورة يناير 2011 لانطلاق مفهوم العدالة الاجتماعية وإعادة البناء على الفرد والانسان، وثورة يوليو 2013 للخروج من عباءة الاستقطاب الديني وإعادة بناء الهوية الوطنية، وخلال السنوات العشر الماضية استمرت المحاولات الجادة لرئيس الجمهورية للخروج من كل عباءة فكرية واقتصادية تسعى للهيمنة على العقل المصري، إن العمل الذي قام به خلال العقد الماضي هو عمل إعجازي بكل المقاييس يحتاج إلى الدعم الشعبي من أجل الخروج جميعا إلى حالة امتلاك القرار السياسي والاقتصادي والثقافي والعلمي بشكل كلي ودائم.

من هنا لابد من الإشارة إلى أن البناء على ما قام به الرئيس من مجهودات ضخمة وخطوات عملاقة استعان فيها بالقوى الوطنية من جيش وعلماء ومثقفين وبرلمان، يحتاج منا أن يكون لنا استراتيجية للثقافة من اجل معالجة قضيتان هما الوعي وإعادة بناءه والاقتصاد الإبداعي وفق الوعي والهوية المطلوبين للوطن، من هنا يصبح الاقتصاد الابداعي والثقافي محورا في غاية الأهمية للمستقبل القريب، وبما يدعم تحويل الاقتصاد الكلاسيكي الذي بني على القطاعين العام والخاص إلى اقتصاد مبني على فلسفة جديدة متعلقة بالهوية وتحقيق الذات ، مبني أيضا على الفرد وابداعاته، مبني على اقتصاد يعلو بالإنسان، اقتصاد يعتمد على ما نملكه، اقتصاد يسمى ما بعد حداثي للحالة المصرية، يقلل إلى اقصى حد من الاعتماد على الخارج اعتمادا على رصيدنا من العلماء والمثقفين والمبدعين في كل مجال من أجل إعادة رؤية الروح المصرية الأصيلة، على أن يكون حالة مصرية خالصة، اقتصاد احتوائي يتمتع بالمرونة الهائلة في الاستجابة للمتغيرات العالمية، ويمكن أن يكون فاتحة الخير في ذلك افتتاح المتحف الكبير وإعادة تخطيط منطقة الاهرام بالجيزة ومدينة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية وافتتاح عدد ضخم من الفنادق العالمية وإعادة تطوير منطقة سانت كاترين وإعادة تنمية وتطوير طريق العائلة المقدسة وكل ما يحدث من تغييرات في المدن المصرية من الإسكندرية وحتى حلايب وشلاتين، وهلم جرا وهناك الكثير مما يمكن وضعه كخريطة طريق للصناعات الإبداعية والثقافية مما يجعل المساهمة في إعادة بناء الوعي وكذلك تحقيق الهوية الوطنية ودعم الاقتصاد الوطني بكل ما نملك من حجج وأفكار وجهود أمرا حتميا خلال العقد الثالث من الألفية الثانية.

ووفقا للأونكتاد (مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية) فبإمكان كل بلد وضع تعريف يحدد الصناعة الإبداعية والثقافية بها، وهنا يجب الانتباه الى فجوات واسعة في مفهوم الصناعة الإبداعية والثقافية بين دول العالم المتقدمة والنامية. يهمنا أن نستفيد من التعريف البريطاني الذي يركز على الإبداع الفردي ووضع مقاييس لأداء كل صناعة ابداعية من أمرين، الأول: الاهتمام والتركيز في أصول الصناعة على الأبداع والمهارة والموهبة الفردية حتى لو تطورت إلى مؤسسة مستقلة أو مازالت فى نطاق العمل الفردي المستقل. ثانيا: تحديد الصناعة على أساس إمكانياتها في الأرباح وخلق فرص العمل ومنتوجاتها النهائية.

ونرجح هنا أن تأخذ مصر بهذا المفهوم حيث أن تراثها الإبداعي من القوة بما يمكن معه وضع تعريف خاص بالحالة المصرية والبناء على أن مصر دولة ذات مفهوم خاص في التراث الإنساني بهذا النوع من الاقتصاد وبما يتوافق مع شرائعها وقوانينها الخاصة، وهذا أمر في غاية الأهمية للاهتمام بذلك النوع من الاقتصاد.

ان جمال الأفكار يأتي من بساطتها وما بناه الرئيس يجب ضمان استدامة البناء عليه، فلم نعد نملك تغيير مفاهيم الاقتصاد والسياسة كل عقد أو عقدين والاستمرار في تلك الحلقة المفرغة منذ ما يزيد عن الثمانين عاما، نحتاج إلى خريطة خطية للاستمرار والاندفاع إلى الأمام، وهذا لا يأتي إلا بفلسفة للمستقبل دون أن نتأثر بأحداث متغيرة تجعلنا نعود القهقري، من هنا ترتفع المصلحة (الوطنية/الأسرية/الفردية) فوق كل مصلحة، من هنا يصبح التعاون والتكامل مع الأقوياء ضمان للمستقبل، كل عام والرئيس بخير وصحة وقوة واستمرار وبناء كضمانة لمضمون وشكل جديد لمستقبل الدولة كل عام وانتم بخير ومصر العزة والكرامة والسؤدد بخير.

ودائما لنا حديث