الأربعاء 22 مايو 2024

دور الإعلام في بناء عقل المواطن في "الجمهورية الجديدة"


د. منى ابوسنة

مقالات1-5-2024 | 14:29

د. منى أبو سنة

 ابدأ هذا المقال بطرح السؤال الآتي كيف يمكن للدولة المصرية برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي في المرحلة التي أطلق عليها "الجمهورية الجديدة" خلال ولايته الرئاسية الثالثة، والتي تستمر حتى عام 2030 صياغة هوية جديدة تعبر عن توجهاتها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً بحيث تحدث تكاملا بين "الجمهورية الجديدة" والشعب المصري.

وأنا هنا أجتهد في الإجابة عن هذا السؤال، واجتهادي استخلاص من سياسات وممارسات الدولة والحكومة في الفترة من 2014 حتى يومنا هذا.

وفي تقديري أن تلك الممارسات والسياسات تطبيقات لفكر الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي عبر عنه في خطابات عديدة، ولم تتم صياغته حتى الآن صياغة متكاملة في نص واحد.

وهذا الفكر في تقديري يتمحور حول بناء عقل المواطن المصري أو كما عبر عنه الرئيس بعبارة واحدة هي "بناء الإنسان".

وأرى أن هذا الدور أي بناء عقل الإنسان المصري مرهون بوسائل الإعلام الجماهيرية بشتى أنواعها وأشكالها التي أفرزتها الثورة العلمية والتكنولوجية لكي تستجيب لاحتياجات الجماهير.

وهي تمثل على حد تعبير الفيلسوف مراد وهبه "السوق التكنولوجية" التي يعتبرها التطور الطبيعي "للسوق الكلاسيكية" في زمن الفيلسوف اليوناني سقراط. حيث كان يمشي في الأسواق ويتحاور مع الجماهير من أجل أن يدربهم على التفكير العقلاني المنطقي بحيث يثبت لهم من خلال الحوار المتبادل قدرة العقل أيٱ كان مستواه المعرفي أو التعليمي على مراجعة أفكاره ونقد وفحص معتقداته بهدف النمو والتطور.

كان سقراط يؤمن بالمقولة الشهيرة التي ترددت عنه وهي كالآتي" إن الحياة التي لا تخضع للفحص ليست جديرة بأن تعاش" وبناء عليه فأنا أتصور أن الدور الرئيسي في بناء عقل المواطن المصري يجب أن تضطلع به وسائل الإعلام من تليفزيون وإذاعة في المقام الأول باعتبارهما وسائل إعلام جماهيرية تهدف إلى توعيه المواطن بقدرته على النقد والتحليل كأساس للفهم، وذلك يستلزم نقلة كيفية فى الوعي الإنساني من الإدراك الحسي إلى الإدراك العقلي وأعني بالوعي الحسي إدراك الواقع من خلال الحواس فقط أي من خلال العقل الناقل الذي يعمل وفق منهج التجربة والخطأ ؛ أما الوعي العقلي فيستند إلى العقل الناقد القادر على الانعكاس على ما تدركه الحواس من خلال فهمها فهما نقديا واكتشاف التناقضات التي تسببت في إحداث أزمه في الواقع والعمل على تجاوزها وتأسيس واقع جديد يخلو من تلك التناقضات.

وإذا أردنا تطبيق ذلك على الحالة المصرية أي على كيفيه تجاوز الشعب المصري مرحلة الوعي الحسي إلى الوعي العقلي بالعدو فإنه سيتضح لنا أن الشعب المصري مر بمرحلة الوعي الحسي القائم على منهج التجربة والخطأ عندما أعطى ثقته وصوته لجماعه الإخوان لكي تحكم مصر وهو فاقد الوعي بالتناقض الجوهري بين هويته أي هويه الشعب المصري التي تنطوي على ميل إلى التفكير العلماني، والهوية الإخوانية القائمة على الفكر الأصولي لكن الشعب سرعان ما أدرك ذلك التناقض بالتجربة الحسية. المطلوب الآن أن يحدث الشعب تراكما لهذا الوعي العقلي الجديد مما يؤدي إلى قناعه بأن المهدد لهويته هو العدو والمتجسد في فكر ذلك التيار الأصولي القائم على الإرهاب والعنف والتدمير.

ومن شأن الوصول إلى هذه الحالة من الوعي بالعدو أن يحدث تلاحم فكري ووجداني بين الشعب وتدعيم الدولة في محاربتها العدو المشترك وممارسته الاجتماعية والسياسية والعسكرية منذ عام 1928، وهو أمر جوهري ومستمر في مرحلة بناء وتدعيم "الجمهورية الجديدة".

وتلك مسؤولية النخبة الثقافية والسياسية المتنورة من خلال سياسة إعلامية واعية ومسؤولة عن نشر تيار تنويري عقلاني في المجتمع. وثمه بوادر تنويريه قد بدأت تبزغ من خلال الإعلام المصري، وأقصد تحديداً البرنامج اليومي الذي بثته القناه الأولى بعنوان "كن أنت" في عام 2019 والذي كان يقدمه المفكر المستنير الدكتور سعد الدين الهلالي. الذي أعتبره المؤسس لتيار تجديد الفكر الديني الذي يستند إلى إعادة فهم الفكر الإسلامي بالتركيز على الفكر العقلاني الذي يدعو إلى إعمال العقل في النص الديني وعلى رأس هذا الفكر الفيلسوف العقلاني المتنور ابن رشد.

وأنا أؤيد دعوة الدكتور الهلالي إلى تأسيس مشروع قومي كما اقترحه تحت شعار "الرشد الديني"، تتبناه الدولة وتدعمه في جميع مؤسساتها الرسمية وعلى رأسها وزارات التعليم والثقافة والإعلام. بيد أن هذا المشروع التنويري لم يكتب له الاستمرار ولا أحد يعرف لماذا. هل تم إجهاضه عن عمد؟ ومن قبل أي قوة في المجتمع؟ ومن المستفيد من تعطيل هذا المشروع وإجهاضه إذا كان قد أجهض بالفعل؟ فتم تقليص دور المفكر المستنير الدكتور سعد الدين الهلالي إلى بضع دقائق على هامش برنامج آخر.

إن الدور المقترح لوسائل الإعلام الجماهيرية لبناء عقل المواطن المصري في "الجمهورية الجديدة" ينبغي أن يستند إلى مبدأ جوهري مفاده القضاء على الجهل بالعلم، وإذا أردنا صياغته في شعار فليكن "العلم ضد الجهل"، ويرتبط الجهل ارتباطا عضويا بفقدان الوعي العقلي ما يؤدي إلى غلبة الوعي الحسي القائم على العقل الناقل للخبرات دون الإدراك والفهم والتحليل استناداً إلى العقل الناقد.

ومن شأن ذلك غلبة التفكير الأسطوري الخرافي القائم على منطق السببية اللاعقلانية، أي طرح سبب غير عقلاني يؤدي إلى نتيجة غير عقلانية، ومن أجل تجاوز الجهل بالأسباب الواقعية إلى العلم بها لابد أن تحدث نقلة كيفية لعقل الشعب المصري من منطقة السببية اللاعقلانية إلى السببية العقلانية.

وهذه النقلة تمثل المدخل الأساسي للتفكير العقلاني. وعندما يشيع بين الشعب بمختلف طبقاته ومستوياته الثقافية ذلك التفكير العقلاني القائم على مبادئ المنهج العلمي، سيجد الشعب حلولاً كثيرة مبدعة لأزمات مزمنة، على رأسها أزمة الزيادة السكانية ومن شأن غلبة التفكير العلمي أن تؤدي إلى نقد التراث الشعبي الأسطوري المدعم لمبدأ كثرة الإنجاب تحت الدعاوى اللاعقلانية الخرافية تربط ربطا لا عقلانيا بين زيادة الإنجاب وترابط الأسرة، بينما تنفي التجربة الواقعية ذلك وإذا أعملت الجماهير عقلها الناقد في التراث الشعبي الخرافي، فإنها لن تستجيب لأفكار التيار الأصولي الإخواني والسلفي الذي يروج لفتاوى دينية مغلوطة تدعم زيادة الإنجاب.

وثمة مثال آخر لدور الإعلام في نشر الوعي ومحاربة الجهل بالعلم وأعني بذلك البرنامج الذي يقدمه الإعلامي محمد علي خير في الإذاعة حيث يقوم بتوعية المواطن بالوقائع الاجتماعية والسياسية وراء الظواهر المنتشرة في المجتمع مثل غلاء الأسعار وخلافه، التي يرجعها الشعب إلى القيادة السياسية أو بالأدق الرئيس، دون الوعي بالأسباب الواقعية لغلاء الأسعار بيد أن المطلوب الآن استحداث برامج على نمط البرامج سالفة الذكر يقوم بتقديمها إعلامي أو متخصص أو مفكر بمفرده بدون ضيوف وتكون محدودة الزمن ومركزة في فكرة ما أو مفهوم معين ومحدد ضمن خطة تحكمها رؤية تهدف إلى إحداث تكامل بين الدولة والشعب في "الجمهورية الجديدة".

ويحضرني في هذا المقام البرامج التي كان يبثها التليفزيون المصري في مطلع السبعينيات من القرن الماضي مثل البرنامج الذي كان يقدمه المفكر محمود أمين العالم، وعلى النقيض منه البرنامج الديني اليومي الذي كان يبث قبل نشرة التاسعة مساء تحت عنوان "حديث الروح" وكان الهدف منه تلقين الجماهير رؤية دينية تقوم على فهم أحادي لا يقبل الاختلاف بينما البرامج المنشودة ينبغي أن تقوم على مبدأ الحوار المتبادل لحرية الفكر ونسبية العقل.