74 عاما مرت على رحيل القارئ الشيخ محمد رفعت، "قيثارة السماء"، أول من افتتح الإذاعة المصرية بصوته الشجي، والذي كان ولا يزال علما بارزا من أعلام القرآن الكريم ليس في مصر فقط ولكن في العالم العربي والإسلامي، ومن الصدف في حياته أن يوم موله هو يوم مماته، إذ تحل اليوم الذكرى الـ142 عاما على ميلاده، ففي مثل هذا اليوم عام 1882 ولد، وفي مثل هذا اليوم عام 1950 رحل، إلا أن أثره وإرثه لا يزال حاضرا في وجدان المصريين.
محمد رفعت
لقب الشيخ محمد رفعت بـ«قيثارة السماء»، حيث أطلق عليه محبوه هذا الاسم إعجابا بصوتهم بعد عجزهم عن التوصل إلى وصف دقيق يصف صوته العجيب، فكان صوته روحاني ملائكي يدخل قلوب مستمعيه ويثير في وجدانهم حالة من الخشوع والإيمان، ولا يزال صوته مرتبطا بشهر رمضان المبارك حتى اليوم بقراءة القرآن وصوت الأذان.
ولد الشيخ محمد رفعت في حي المغربلين بالقاهرة، وتعرض لمحن عديدة في صغر سنه، ففي سن الثانية من عمره فَقَدَ بصره، لكن ذلك لم يمنعه من تعلم القرآن الكريم، فبدأ حفظ القرآن في سن الخامسة، وكان والده محمود رفعت، مأموراً في قسم شرطة الجمالية، وألحقه في كُتّاب «بشتاك» بمسجد فاضل باشا بدرب الجماميز بالسيدة زينب، إلا أنه توفي وكان الشيخ محمد رفعت لم يزل في سن التاسعة من عمره، لكنه أتم حفظ كتاب الله قبل أن يبلغ العاشرة من عمره، وحفظ الأحاديث النبوية.
بدأ الشيخ محمد رفعت رحلته في إحياء ليالي القرآن الكريم، بعد أن أدرك شيخه الشيخ محمد حميدة نبوغه، وبدأ يرشحه لإحياء الليالي في الأماكن المجاورة، ومع وفاة والده وجد نفسه مسئولا عن أسرته، لتنطلق رحلته في تلاوة القرآن الكريم في سن الرابعة عشرة من العمر، فطالت شهرته ربوع القاهرة ووصلت إلى الأقاليم، ورغم صغر سنه ذاع صيته، واختير عليه ليكون قارئًا للقرآن في مسجد فاضل باشا عام 1918م، وهو المسجد الذي بدأ فيه مسيرته في تلاوة القرآن وظل فيه لآخر أيام حياته، لم يكتف بتلاوة القرآن الكريم فقط، بل درس علم القراءات القرآنية وقراءة أمهات كتب التفسير.
وكان صوته القوي وسلاسة انتقاله بين المقامات الصوتية وخشوعه أهم ما ميزه، فكان يلمس قلوب مستمعيه، فيتأثرون بحروفه، أما عن شخصيته، فقد عرفه بطبعه الحنون الباكي العطوف والرحيم بالآخرين، فكان يجالس الفقراء والمحتاجين، وكان عطفه ينال الكبير والصغير.
اتسعت شهرته في أنحاء البلاد، حتى تم اختياره لافتتاح الإذاعة المصرية عام 1934م، لينطلق أثيرها بقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] من آيات الذكر الحكيم، ومما عرف عنه أنه عندما طلبت منه الإذاعات أن يسجل لها بعض التلاوات مقابل المال توقَّف في قبول العرض خوفًا من حرمة أخذ المال كأجر على تلاوة القرآن؛ ولكنه بادر بطلب الفتوى إذ استفتى آنذاك شيخَ الأزهر الإمام المراغي والذي أفتاه بجواز الأمر.
وعاش في رحاب القرآن الكريم، ليصبح رائدا في مدرسة التلاوة في العصر الحديث؛ إذ تأثر كثيرٌ من القراء بأدائه القوي وصوته العذب الشَّجي، وسار كثيرون بعده على درب مدرسته العظيمة في تلاوة القرآن الكريم.
أولاد الشيخ محمد رفعت
تزوج الشيخ محمد رفعت من الحاجة زينب، وأنجبا أربعة أبناء، كان أكبرهم محمد الذي ولد عام 1909م وكان بمثابة سكرتيره ومدير أعماله، ونجله الثاني أحمد ولد عام 1911 م واكن حافظا لكتاب الله ودرس القرآءات ونال الإجازة فيها، وابنته الثالثة بهية التي ولدت عام 1914 م، ثم الأخير حسين والذي ولد عام 1920 م، وقد توفاهم الله جميعاً، بينما يعيش أحفاده لإحياء سيرة جدهم، والحفاظ على تراثه، ففي رمضان الماضي أنهت الشركة المصرية لمدينة الإنتاج الإعلامي، مشروعها لصيانة تراث الشيخ محمد رفعت الذي كان مملوكا لأسرته، والتي توصف بأنها كنوز جديدة كانت لدى الأحفاد.
ولأن الكثير من تسجيلات الشيخ محمد رفعت قديمة، وتلك التي كانت بحوزة أسرته أو في الإذاعة المصرية، كانت "لا تصلح"، لم تكن لدى الإذاعة سوى شريطين من تسجيلات الشيخ الراحل، أحدهما لجزء من سورة مريم والثانى لجزء من سورة الكهف، إلا أن أسرته حاولت جمع تراثه وتسجيلاته التي كانت بحوزة أحد محبيه وهو زكريا باشا مهران، وبالفعل حصلت عليها من ورثته، وخلال السنوات الماضية عملت الشركة على إعادة ترميمها وصياغتها باستخدام التقنيات الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة التي أعادت الروح لها مرة أخرى، وفي مارس الماضي أعلنت الشركة ترميم تراث الشيخ محمد رفعت بمركز إحياء التراث السمعى والبصرى بالمدينة.
كيف مات الشيخ محمد رفعت
عاش الشيخ محمد رفعت حياته في جوار القرآن وخدمته رحمه الله تعالى ورضي عنه، فمن أقواله المشهورة: "إن قارئ القرآن لا يمكن أبداً أن يهان، أو يدان"، ولكنه ابتلي بالمرض حيث أصيب بمرض في الحنجرة في عام 1943م أقعده عن تلاوة القرآن، حتى توفي في مثل هذا اليوم، عن عمر ناهز 68 عاما.
وكان حلمه أن يُدفن بجوار مسجد السيدة نفيسة، وبالفعل مُنح قطعة أرض بجوار المسجد فبنى مدفنه عليها ودُفن به بعد وفاته.