شهدت قصيدة العامية المصرية منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي تطورات لافتة تمردت فيها على التجارب السابقة عليها سواء تلك التي كان يمثلها فؤاد حداد أو صلاح جاهين أو سيد حجاب أو عبر الرحمن الأبنودي ومن سار على نهجهم شعراء، وقد تواكبت هذه التطورات مع تطورات شكلت على الجانب الآخر قصيدة الفصحى، حيث اتخذت الأخيرة من قصيدة النثر متنا لها فيما تراجعت قصيدتي العمود والتفعيلة، وقد قاد هذه التطورات جيلا الثمانينات والتسعينيات، لكن قليلًا من النقد من توقفوا لدراسة النتاج الإبداعي الذي قدمته هذه التطورات خاصة بالنسبة لقصيدة العامية، من هنا تأتي أهمية كتاب الشاعر حاتم مرعي "تاريخ الهامش.. قراءات في شعر العامية المصرية" الصادر أخيرًا عن دار الأدهم.
يتناول مرعي التجارب الشعرية التي كتبت بالعامية من حقبة التسعينيات وحتى الآن، والتي تظهر التنوع في أشكال الإبداع بالعامية المصرية محاولًا رصد حركة تطور شعر العامية المصرية من الشعر الشعبي بكل ما يحمله من القيم الشفاهية، وحتى مرحلة التدوين وظهور قصيدة العامية التي تعتمد تقنيات القصيدة الفصيحة، بكل طموحاتها في التجدد، عبر لهجة محلية ولدت من رحم العربية الأم، وترعرعت على ضفاف النيل؛ لتعرب عن طموح الإنسان المصري والعربي في مجتمع أفضل تسوده قيم الحق والخير والجمال والحرية.
يتوقف مرعي مطولًا مع تجارب الشعراء مجدي الجابري، وليد طلعت، سعيد عبد المقصود، مجدي عطيه، عماد عامر، محمد خميس، صالح الغازي كما يتناول بالتحليل تسعة دواوين لشعراء العامية بإقليم القناة وسيناء صادرة عن مشروع النشر الإقليمي عام 2012، يؤكد "العامية ليست لقصيدة الفصحى؛ فالعامية كما ذكر الشاعر أحمد فؤاد نجم: "هي أكبر من أن تكون لهجة، وأكبر من أن تكون لغة"، كما يعترض الشاعر فؤاد قاعود على تسمية اللغة العامية فيقول: "لقد آن لنا أن نتخلص من هذا الخطأ الشائع والوهم الباطل، فليس هناك شيء بهذا الاسم، هناك لغة واحدة هي العربية, وليست لهجتنا إلا قراءة مصرية للعربية".
ويضيف في مقدمته للكتاب "لا يزال بعضهم ينظر إلى العامية من أبراج عاجية؛ هي في الأصل أبراج الوهم والتجمد، بتجاهلهم لإبداع العامية المصرية الثري والمتنوع. يقول الشاعر عبد الرحمن الأبنودي: "نحن الذين اخترنا السباحة في العامية، لنكون الواسطة بين الفكر وأهالينا البسطاء، ولم نفرط في قيم الشعر العليا، وتنبهنا إلى كل شعراء العالم الغربيين والشرقيين، وقرأنا أجدادنا الشعراء العرب على مر القرون، وخلقنا صرحا حقيقيا نفتخر به، وقد أثبت الشعر العامي في مصر أنه ابن أكثر إخلاصا عروبته لأنه نقل العربية للبسطاء، ولم يفرط في إرثها العظيم".
ويرى مرعي أن هذا ما فعله الشعراء الرواد، بداية من عبد الله النديم ويونس القاضي وبيرم التونسي، حتى ظهور فؤاد حداد وصلاح جاهين، وانفتاح الشعر العامي على آفاق ورؤى أرحب، وتحوله من الزجل إلى الشعر الحر أو شعر التفعيلة، وصلا إلى قصيدة النثرالعامية، التي ظهرت في منتصف التسعينيات؛ لتنتج شاعرية خاصة تتجاوز مع أطروحات القوالب والأشكال الأخرى التي تزخر بها العامية المصرية. ولسوء الحظ لا توجد حركة نقدية تلاحق هذا السيل الإبداعي في شتى ربوع مصر؛ تلاحق هذا السيل الإبداعي في شىتى ربوع مصر؛ فالإبدا ع يسبق النقد بسرعة صاروخ لسلحفاة، فمثلا عندما اكتملت تجربة بيرم التونسي وأصبحت حجر زاوية في حركة تطور الشعر العامي، كان انتقاد معاصريه لإبداعه انفعاليا غير مدروس؛ أقرب إلى رد فعل نتج عن صدمة مرعبة مثل مقولة (يا خفي الألطاف، نجنا مما نخاف) التي رددها أهل مصر في أثناء دك نابليون حصون القاهرة بالقنابل والأسلحة الحديثة، لكن يظل المبدع المهموم بقصيدته وإنسانيته في اتجاهه نحو تطوير القصيدة وكسر نمطيتها. وهناك كثير من الشعراء الذين يمتلكون من الخبرات الثقافية والمعرفية ما يجعلهم يكتبون الفصحى، واختيارهم العامية والانحياز لها كان سببا في إضافة جزء هام لتاريخ الإبداع العامي، وفي الوقت نفسه تعيرة الواقع النقدي؛ فنقاد العامية هم غالبا شعراؤها أيضا، كما أكد ذلك الشاعر محمود الحلواني (خيال الضرورة ومرجعياته).
في حين أن بعض النقاد لا يلتفتون إليها إلا لمهاجمتها، وأذكر اعتراض بعضهم على وجود كائن غريب يسمى قصيدة النثر العامية، وهو اعتراض يشبه الاعتراض على وجود التنين والشاطر حسن وسبايدر مان في خيال الأطفال, فيظل التراكم الإبداعي - في ظنهم- مجموعة من التجارب غير الواعية و غير المسؤولة؛ لأنها تمردت على الشكل السابق، لكن يظل بحر العامية هادرا خلاقا مشبعا بكل طاقات الشعر.
يتعرض مرعي في كتابه إلى قصيدة النثر بنصوصها المتحررة من قيود الموسيقي والوزن، لتتبنى قيما جمالية أخرى في طريق البحث عن معنى جديد، هي كتابات مختلفة المناهل والانتماءات الجمالية والنعرفية، وتنتمي أيضا إلى أماكن مختلفة في محافظات مصر، لتعبر عن ملامح العامية كما دونها شعراء قصيدة النثر.
ويقول "وعى مجدي الجابري في نصوصه الأولى أنه ينتج ما تم إنتاجه على أيدي هؤلاء الشوامخ, لذلك قرر تحطيم القيم الشكلية وأعاد تقييمه للدور الوظيفي للشعر وحتمية تحول اللغة الشعرية بالبعد عن المجاز التقليدي والتشفير والترميز والغموض دون الوقوع في فخ المباشرة والفجاجة. وديوان "عيل بيصطاد الحواديت" بداية التمرد الخلاق والثورة على كل ما يحمله من موروث ليعيد صياغة أسئلته الوجودية من خلال عالمه الشخصي لنأخذ ما يخصنا ضمن قناعاتنا ومعرفتنا والتجارب التي عشناها.
وفي قراءته لديوان "بلابل صاج" لمحمد خميس كنموذج من أعماله، يقول مرعي " نصوص محمد خميس تأخذنا بالتدرج من مراحل العقل، ثم القلب، ثم إلى الروح، محاولا إدراك حقيقة ما، والشعر وسيلته للسمو أو لتحقيق نشوة روحية من خلال ذات منقسمة بين عالمين، عالم الواقع بما يحمله من الأمل الإنساني اليومي وعالم الحلم بكل ما يحمله من شفافية وإشراق. ووظيفة الصورة الشعرية هي صناعة التداخل والتوحد بين الذات والطبيعة، كما بين المادة والروح، وما بين الرؤيا بمعنى الحلم، والرؤية بمعنى المشاهدة بالمعنى الحسي والعقلي، بلغة تلمح ولا تصرح، حميمية وقريبة، له قاموسه الخاص المنتمي للعربية الأم، وللدارجة المصرية بكل ما تحمله من موروث، لذلك فالجملة الشعرية مشحونة بالإيحاءات، ولها واقعها الخاص، يجنح إلى التكثيف الوجداني، ويبتعد عن الغموض والتعقيد حتى لو شبع بالرموز والدلالات، ويمتلئ بعاطفة متوهجة ومعان صوفية، تتجلى في نصوص محمد خميس - فصاحة العامية المصرية- وبساطتها وعمقها الدلالي المتجاوز للشفاهية والمنتمي إلى العامية الجادة.
ويشير مرعي إلى أن الشاعر مجدي الجابري يشكل أحد المجددين في قصيدة العامية المصرية عبر تاريخها الطويل، وهو أول من بدأ مغامرة جيله بكتابة قصيدة لنثر، وتحمل عبء هجوم المحافظين ، ليفتح الطريق لجيله ولأجيال لاحقة للتجريب على مستوى الشكل وإنتاج المعنى. انطلقت مغامرته من ديوانه الأول "أغسطس" الذي صدر في طبعة خاصة محدودة عام 1990، وطبع بعد رحيله في كتاب شعري ضم أعماله الكلاسيكية بعنوان "طرطشات موجة حلم" عن سلسلة كتابات جديدة عام 2002.