الأحد 23 يونيو 2024

إبداعات الهلال.. «مَن العاقل؟!» قصة قصيرة لـ شيماء يحيى

شيماء يحيى

ثقافة12-5-2024 | 14:46

دار الهلال

تنشر بوابة دار الهلال، ضمن باب "إبداعات" قصة قصيرة بعنوان "مَن العاقل؟!" للكاتبة شيماء يحيى، وذلك إيمانا من المؤسسة بقيمة الأدب والثقافة ولدعم المواهب الأدبية الشابة وفتح نافذة حرة أمامهم لنشر إبداعاتهم.

قصة مَن العاقل؟

اعتدت رؤيته كل يوم صباحًا وأنا أستقل سيارتي في طريقي للعمل.. كل يوم كما هو في نفس المكان منذ سنتين تقريبًا.. نفسها ملابسه الممزقة ويداه المتسختان ووجهه المكسو بالتراب وشعره البائس الأتعس حالا من ذلك السلك الذي يستخدمونه في غسل الأواني المستعصية النظافة وبالطبع تعيش به كل أنواع الحشرات.. وعيناه الغائرتان الحاملتان الهم سنين طوال وكأنهما رأتا الهول فجحظتا وتوقفا على تلك الحال من وقتها.

نفس حركاته وضحكاته العالية وصرخاته التي كانت في بداية الأمر تخيفيني ثم اعتدت عليها.. والشيء الوحيد الذي يتغير فيه إنه يزداد اتساخًا وشيخوخة مع مرور الأيام.

في بادئ الأمر كان يرمقني بنظرات غريبة ويركل سيارتي بيديه وقدميه دون باقي السيارات في إشارة المرور التي نقف فيها كل يوم ما يقرب من الربع ساعة تقريبا.. وكنت أفزع من تلك الحركات ثم أصبحت جزء لا يتجزأ من يومي هي الأخرى، كما أصبح وجوده في الحياة بالنسبة لي أمرا مفروغا منه بل وإنني كنت أنتظره وأتوق للقائه اليومي العابر ذو الدقائق المعدودة.. ويبدو أنه اعتاد عليّ أيضا فلم يعد يضرب سيارتي بنفس القوة فقط يعبر من جانبي ويبتسم لي ابتسامة مخيفة ثم يطرق طرقات خفيفة على باب السيارة الخلفي ويكمل تجواله السريع العابر بين باقي السيارات، ثم يجلس على الرصيف بجوار العسكري وإشارة المرور ينظر لي أنا فقط دون الآخرين في صمت!.

ومنذ سنتين وأنا أتساءل تُرى لما وصل لتلك الحال!.. لماذا أصبح هكذا!.. وهل ما رأى في حياته من صعاب ومخاوف كان ثقيلًا عليه لتلك الدرجة التي أودت بعقله إلى غيابات التوهان والانتهاء من الصلاحية!.. وما الذي يتخيله يجعله يضحك تلك الضحكات الهستيرية اليومية!.. ومن أين يأكل!.. وكيف رغم عدم وجود عقل له مازال يحافظ على مواعيده اليومية في تلك الإشارة!.. بل أنني أشعر وكأنه يعرفني فنظراته وعيناه توحي لي بذلك.. حتي عدم ركله لسيارتي كما كان في البداية أمرا غريبًا، هل لأننا أصبحنا أصدقاء نظرات متبادلة!.. وهل حقا يفهمها ويبادلني إياها كما أتصور!

أحيانا كثيرة لا أعلم لماذا أشعر وكأنني حقا أعرفه بل وأريد الاقتراب منه والتحدث إليه ولكن هل سيفهمني!.. هل سيتجاوب معي أم سيضربني أو يقتلني!، ولن يجرؤ أحد وقتها من الدفاع عني فالطبع الجميع يخافونه، فهو رغم أنه بلا عقل إلا أنه قوي وهائج ويتحدث كثيرًا مع الفراغ!.

لكن الأكيد في كل ذلك أنه لا يشعر بشيء، لا يُؤسِسُه شيءٌ أو يضايقه أو حتى يفرحه.. فهو كالجثة الهامدة ولكن الفرق أنه يقوم بحركات عشوائية لا معنى لها ولا فائدة أو قد تعني له هو الكثير!.. تُرى هل يدرك ما حوله وما حل به أم أنه خاو من كل شيء!.. أهناك أمل أن يعود لصوابه!

ولكن لما يعود! .. فانا أعتقد أن وضعه هذا أفضل من حالي كثيرا.. نعم أعتقد ذلك فهو لا يمل ولا يشعر بالضيق أو بالضجر ولا يأبه بشيء.. هو يستمتع بزحمة إشارة المرور وأنا أنتظر بها وأتأفف وكلي ضجر وملل وروتين يومي.. هو لا يخشى أحد أو يخاف شيء ولا يحمل للمستقبل أي أساور أو قلق بل أنه نسي أيضا كل الماضي ولا يشغل باله بالحاضر.. وفوق كل هذا لا يُحاسب مهما أرتكب من حماقات لا في قانون الدنيا ولا في القانون الإلهي.. أما أنا بالطبع أحمل هم المستقبل وأعيش بأوجاع الماضي وتعبت من تقلبات الحاضر وفوق ذلك أُحاسب علي كل فعل وكل قول بل ونية أيضا!.. أليس هو أفضل حالا مني!.. حقا أشعر أحيانا كثيرة إنني أحقد عليه لا مسئوليات ولا واجبات ولا التزامات، أيضا لا خوف ولا قلق ولا هم.. أتساءل كثيرا لما خُلقنا بعقل يجعلنا نُحاسب على كل أفعالنا!

ثم أنني أرى أنه أعقل من الآخرين في تلك الحياة، فهو رغم فقده لصوابه لا يؤذي أحد طالما لم يقتربوا منه، ولا يظلم أحد فقط يقضي وقته بطريقته المختلفة عكس الكثير من البشر الذين يظلمون ويحقدون ويتنافسون ويتصارعون علي متاع الدنيا الزائل!.. هل يعنيه أن يمتلك سيارة أو شقة أو حتي هاتف تجوال يكلفه الكثير من أجل المنظرة وبلا فائدة كل شهر!.. أعتقد أنه حر تماما من كل القيود والرغبات والأشياء التي تجعلنا نفعل أي شيء في سبيل تحقيقها أو امتلاكها.

هل يعنيه شكله أمام الآخرين وتلك الوجاهة الاجتماعية الزائفة التي بسببها نتجمل لنبدو في أحسن حال حتيى لو كان بعضنا سيء جدا من الداخل!.. لا فهو علي طبيعته وأعتقد أن سريرته نقية لا يشوبها شيء أو يعكرها تجمل مصطنع أو تزييف لحقائق الأمور، ولا يتعامل مع أحد من منطلق المصلحة أو الاستغلال.. كما أنه يضحك وبصوت عالٍ ودون أي أسباب وقتما يريد ذلك ولا أعتقد أنه يبكي!

هل يعنيه الوقت!.. فلا ينتظر شيء أو أحد، ولا يمل أحداثه اليومية المتكررة.. كما أن لديه متسع من الوقت لفعل أي شيء بلا حسابات وفي أي وقت فلا يأبه بمرور السنوات وهو على تلك الحال، ولا يخشى أنه يفوته أي قطار من قطارات الحياة التي ندعي نحن أنها تفوتنا فنندم ونعيش في حسرة وكأنه لم يعد هناك مزيد من القطارات آتية!.

هل هو يهتم بأحد أو حتى بنفسه!.. لا أولاد ولا أحفاد وإن كان لديه فهو نسيهم تماما أو قد يكونوا هم السبب فيما آل إليه حاله فكان جنونه هو خير عقاب وتجاهل لهم على ما فعلوه!.. أيضا هو لا يحسد أو يسخر من أحد فهو في حاله تماما ولا يتحدث إلا مع ذاته أو مع ذلك الفراغ بأصوات عالية.. هل تشتهي نفسه شيئا طعاما أو امرأة أو أي لذة من لذات الحياة التي تدفع بالبشر العاديين إلي الجنون وارتكاب الحماقات من أجلها!.

تٌرى بعد ذلك كله هل هو العاقل ونحن المجانين!.. اعتقدت ذلك فتمنيت حقا أن أكون مكانه..

وفي يوم اتخذت القرار بأن أتشجع وأذهب لأتحدث معه مهما كانت العواقب، ولو شعرت به سيضربني سأجري وأختبئ بالسيارة وأغلقها خلفي جيدا.. فانتظرته حتي يظهر كعادته وأنا في تلك الإشارة اللعينة ولكن نظرت حولي فلم أجده، وكأنه تبخر!..

فترجلت من السيارة وذهبت لذلك العسكري الذي كان يجلس بجواره دائما وسألته عنه.. ورغم نظرته المتعجبة مني إلا أنني لم أبال وكان كل الذي يشغل بالي أين ذهب فهو لم يتغيب يوما منذ سنتين!.. فأخبرني العسكري أنه وُجد في الصباح الباكر ميتا على الرصيف!.

يا إلهي كم صُدمت!.. أهكذا بسهولة مات دون أن يدري أني كنت أود الحديث معه بل وأنني كنت أحسده على وضعه هذا وأراه أفضل حالا وأعقل من كثيرين!.. مات كذلك في الشارع كما عاش بلا مأوى أو عقل أو أي تفاصيل أخرى سوف تُذكر له في يوم من الأيام!.. فهل هذا حقا ما أتمناه نهاية لي!، أم أن العيش في حياة المجانين والانخراط بها سوف يجعل لحياتي قيمة ولموتي هيبة وأناس يتذكروني ويدعون لي بالمغفرة والرحمة!.