السبت 1 يونيو 2024

المؤرخ رشيد الخالدي: النكبة الفلسطينية مأساة مستمرة

غلاف الكتاب

ثقافة16-5-2024 | 15:40

دعاء برعي

التهجير القسري للفلسطينيين نهج اتبعته الحركة الصهيونية منذ 100 عام وحتى الآن، منذ الدعوة الصريحة لهرتسل زعيم الحركة الصهيونية الناشئة الذي نادى بإنشاء دولة لليهود تتمتع بحق "السيادة" للسيطرة على الهجرة، وبدأ صياغة أفكاره حول بعض قضايا استيطان فلسطين، فكتب في مذكراته سنة 1895: "يجب أن نستولي بلطف على الممتلكات الخاصة في المناطق المخصصة لنا. يجب أن نشجع الشعب الفقير فيما وراء الحدود للحصول على عمل في بلاد اللجوء وعدم منحهم أي فرصة عمل في بلادنا. سيقف ملاك الأراضي في صفنا. يجب تنفيذ سياسات الاستيلاء على الأرض وتهجير الفقراء بتحفظ وحذر".

ويرتكز المؤرخ الفلسطيني الأمريكي رشيد الخالدي في كتابه "حرب المئة عام على فلسطين" الذي ترجمه دكتور عامر شيخوني إلى العربية على ستة نقاط تحوّل في الصراع على فلسطين، تبدأ بوعد بلفور سنة 1917 الذي حدد مصير فلسطين، مرورًا بالنكبة التي نحن بصدد ذكراها، ووصولًا إلى حصار إسرائيل لغزة وحروبها المتكررة على أهلها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وتُسَلِّط هذه المراحل الضوء على الطبيعة الاستعمارية لحرب المئة عام على فلسطين، وعلى دور القوى الخارجية في شَنَّ هذه الحرب.

ويبدأ رشيد الخالدي في كتابه الصادر عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" بعرض قصة الاستعمار الاستيطاني منذ أكثر من قرن، عبر ذكر ما سرده عن عمه الأكبر يوسف ضياء الدين باشا الخالدي الذي قال عنه أنه كان أكثر وعياً من أغلب معاصريه الفلسطينيين بقضايا طموح ومطامع الحركة الصهيونية الناشئة وقوتها ومواردها وجاذبيتها، وعرف جيداً أنه لا يمكن التوافق بين ادعاءات الصهيونية في فلسطين وهدفها الواضح في إنشاء دولة يهودية ذات سيادة وبين حقوق ومصالح سكان البلاد الأصليين، الأمر الذي دفع يوسف ضياء لإرسال خطاب استشرافي في 1899 إلى زادوك كان زعيم الحاخامات في فرنسا بنية تمريره إلى مؤسس الصهيونية الحديثة.

وأوضح الخالدي إن الخطاب تضمن تعبير عمه عن احترامه للدين اليهودي ولليهود، وأدرك خلاله دوافع الصهيونية مثلما استنكر الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في أوروبا، وعندما وصل إلى هدفه الرئيسي، قال "يجب الأخذ بعين الاعتبار تلك القوة العنيفة للظروف الموضوعية" وكانت أهمها "أن فلسطين جزء متكامل من الامبراطورية العثمانية، والأخطر من ذلك وجود أناس آخرين يسكنونها". حيث كان في فلسطين سكان أصليين محليين لن يقبلوا باستبدالهم أبدًا. وأكد أن تخطيط الصهيونية للاستيلاء على فلسطين سيكون "حماقة صافية". واستنتج قائلاً "سيكون الموقف أكثر عدالة وإنصافاً" لو وَجَدَ "الشعب اليهودي البائس" ملجأ آخر له. وتابع بدعاء عاطفي مخلص "بحق الله، دعوا فلسطين لشأنها".

قوبل هذا الخطاب برد سريع من هر تسل، في أول إجابة لمؤسس الحركة الصهيونية على اعتراض فلسطيني مقنع على مخططاته الأولية في فلسطين، أهمل فيه موضوع الرسالة الأساسي بأن هنالك في فلسطين شعباً يعيش فيها ولن يقبل أن يُنتَزَعَ مِن أرضه كما فشل في مناقشة جميع مسائل الخالدي الواقعية المقلقة بشأن خطورة البرنامج الصهيوني على المجتمعات اليهودية الكبيرة المستقرة في أرجاء الشرق الأوسط. مع التغاضي عن حقيقة أن النتيجة النهائية للصهيونية ستكون السيطرة على فلسطين.

يقول المؤرخ: (قدَّم هر تسل تبريرًا كان دائما الحجة الأولى للمستعمرين في كل الأماكن والأزمنة، وسيصبح حجة أساسية للحركة الصهيونية، حيث جاء في رسالته "ستفيد هجرة اليهود السكان الأصليين في فلسطين لأننا سنزيد رفاهيتهم وثروتهم، وسنفيد سكان فلسطين المحليين بإضافة ثروتنا إلى المجتمع". وأضاف هرتسل مردداً اللغة التي استخدمها في كتاب "الدولة اليهودية": "لن يشك أحد بأن السماح لعدد من اليهود بالهجرة.. يأتون بذكائهم ومهاراتهم المالية ووسائل استثماراتهم في البلاد سيؤدي إلى نتيجة سعيدة وتحسن الدولة كلها").

ويضيف في مقدمة كتابه: "الأكثر وضوحاً هو أن الرسالة تناقش قضية لم يطرحها يوسف ضياء أصلاً، واستنكر هرتسل: "سيدي، أنت ترى مشكلة أخرى في وجود شعب غير يهودي في فلسطين. ولكن، من الذي يُفَكِّر بتهجيرهم؟ يُلَمح هر تسل في إجابته على سؤال لم يطرحه الخالدي إلى الرغبة التي سجلها في مذكراته "بتشجيع" شعب الدولة من الفقراء "بحذر" للعمل في مهجرهم وراء الحدود. من الواضح في هذا الاقتباس المخيف أن هرتسل قد أدرك أهمية "اختفاء" السكان الأصليين في فلسطين لكي تنجح الصهيونية. بل إن ميثاق سنة 1901 الذي شارك في صياغته لشركة الأرض اليهودية - العثمانية تضمَّنَ المبدأ الأساسي نفسه في تهجير سكان فلسطين إلى "أقاليم ومناطق أخرى في الامبراطورية العثمانية. على الرغم من أن هر تسل قد أكد في كتاباته أن مشروعه يستند على أعلى مستويات التسامح" وضمان الحقوق الكاملة للجميع، إلا أن المقصود لم يكن أكثر من تحمل أية أقليات متبقية بعد طرد وتهجير الآخرين إلى أماكن أخرى. لم يدرك هرتسل أهمية رسالته، ويظهر في رسالة الخالدي أنه قد فهم تمامًا أن القضية لم تكن هجرة عدد محدود من اليهود إلى فلسطين، بل تحويل البلاد بأكملها إلى دولة يهودية".

ويلفت إلى أنه لا يوجد سبب يمنع فهم ما حَدَثَ في فلسطين خلال أكثر من قرن على أنه صراع استعماري وقومي معاً، ولكن ما يهمنا هي طبيعته الاستعمارية لأن هذا الجانب لم يتم إدراكه وتقديره على الرغم من مركزيته، وعلى الرغم من أن السمات النموذجية لحملات استعمارية أخرى واضحة في تاريخ فلسطين الحديث. يقول مدللًا: "عندما يقوم مستوطنون أوروبيون بإزاحة أو بالسيطرة على سكان أصليين مثلما حَدَثَ في الأمريكيتين وإفريقيا وآسيا أو استراليا أو في أيرلندا، فإنهم يصفونهم دائماً باصطلاحات تحقيرية. كما يدعون دائماً أنهم سيتركون السكان الأصليين بحالة أفضل نتيجة حكمهم. وتُقَدِّمُ طبيعة "الحضارة" و "التقدم" لمشاريعهم الاستعمارية تبريرًا لجميع الفظاعات التي تُرتكب ضد السكان المحليين في سبيل تحقيق أهدافهم. لا يحتاج المرء سوى الإشارة إلى تصريحات الإداريين الفرنسيين في شمال أفريقيا أو المندوبين السامين البريطانيين في الهند. قال اللورد كرزون عن الحكم البريطاني للهند (أن تشعر في مكان ما بين الملايين أنك تركت بعض العدالة أو السعادة أو الازدهار، أو شعور بالرجولة أو بالكرامة الأخلاقية، ربيع من الوطنية، أو فجر من التنور الثقافي، أو شعور بالمسؤولية حيث لم يكن موجوداً من قبل. هذا وحده يكفي). هذا هو تبرير الرجل الإنجليزي لِعَمَلِهِ في الهند. الجملة "حيث لم يكن موجوداً من قبل" تستحق التكرار. فبالنسبة إلى كرزون وأمثاله من الطبقة الاستعمارية، لا يعرف السكان المحليون ما هو الأفضل لهم، ولا يستطيعون تحقيق هذه الأمور وحدهم. قال كرزون في خطاب آخر: "لا يمكنكم العمل بدوننا".

ويسرد المؤرخ عبر فصول كتابه تفاصيل أحداث "النكبة" الفلسطينية، يقول: "بدأت مرحلة النكبة الأولى في 30 نوفمبر 1947 واستمرت حتى الجلاء النهائي للقوات البريطانية وتأسيس إسرائيل في 15 مايو 1948. شهدت المرحلة الأولى جولات قتال مرير انتهت بهجوم صهيوني واسع على مدى البلاد تحت اسم الخطة دال في ربيع سنة 1948. شملت الخطة دال احتلال وتفريغ سكان أكبر مدينتين عربيتين في يافا وحيفا والأحياء العربية في القدس الغربية خلال شهر أبريل والنصف الأول من شهر مايو، بالإضافة إلى عدد من المدن والبلدات والقرى العربية مثل طبريا في 18 أبريل، وصفد في 10 مايو، وبيسان في 11 مايو. وهكذا بدأ التطهير العرقي للفلسطينيين قبل إعلان دولة إسرائيل في 15 مايو 1948".

ويواصل: "حوصرت يافا وتم قصفها دون توقف بمدافع الهاون وأنهكها القناصة. وعندما احتلتها القوات الصهيونية في النهاية خلال الأسبوع الأول من مايو تم تفريغها بشكل منهجي من معظم سكانها العرب الذين بلغ عددهم ستون ألفا آنذاك. على الرغم من أن يافا كان من المفترض أن تكون جزءاً من الدولة العربية التي ولدت ميتة حسب قرار التقسيم، إلا أن أحداً لم يحرك ساكنا لوقف هذا الخرق الصارخي لقرار الأمم المتحدة. بعد القصف والهجوم على الأحياء المدنية الضعيفة، تكبد المصير نفسه 60000 من الفلسطينيين في حيفا، و 30000 ألفاً في القدس الغربية، و 12000 ألفا في صفد و6000 في بيسان، و5500 في طبريا. وهكذا أصبحت غالبية السكان العرب الحضريين لاجئيين وفقدوا بيوتهم ومعيشتهم.

ويشير: "اتضحت مشاهد الهروب في البلدات والقرى الأصغر في كثير من أنحاء البلاد. هرب الناس مع انتشار أخبار المذابح مثل تلك التي حدثت في 9 أبريل 1948 في قرية دير ياسين قرب القدس حيث قتل مئة من سكانها بينهم 67 امرأة وطفل ومسن عندما اقتحم القرية مهاجمون من الإرغون والهاغانا. وخلال المرحلة الأولى من النكبة قبل 15 مايو 1948، أدى نمط من التطهير العرقي إلى طرد وتهجير وهرب حوالي 300000 فلسطيني، وتدمير معظم المراكز العربية الحضرية الرئيسية الاقتصادية والسياسية والمدنية والثقافية. ثم جاءت المرحلة الثانية بعد 15 مايو عندما هَزَمَ الجيش الإسرائيلي الجديد الجيوش العربية التي انضمت إلى الحرب. أدت خسارة الجيوش العربية وحدوث مزيد من قتل المدنيين إلى هجرة أعداد أكبر من الفلسطينيين، وتم طرد 400000 فلسطيني آخر من منازلهم إلى الدول المجاورة في الأردن وسوريا ولبنان وإلى الضفة الغربية وغزة اللتان شكلتا بقية 22% من فلسطين التي لم تحتلها إسرائيل. لم يُسمح لأي منهم بالعودة، وتم تدمير بيوتهم وقراهم لمنعهم من العودة طُرِدَ مزيد من الآخرين مِنَ الدولة الإسرائيلية الجديدة بعد توقيع اتفاقية الهدنة سنة 1949، كما تم تهجير أعداد أخرى بالقوة بعد ذلك، وهكذا يمكن فهم النكبة الفلسطينية كمأساة مستمرة".

وتمثل النكبة شلالاً مستمراً في تاريخ فلسطين والشرق الأوسط، فقد غيّرت أغلب مناطق فلسطين عما كانت عليه منذ ألف سنة كانت خلالها منطقة عربية بشكل عام وتحولت إلى دولة جديدة ذات غالبية يهودية كبيرة وفق الخالدي.

أما الأقلية الصغيرة من الفلسطينيين الذين تمكنوا من تجنب الطرد والتهجير (حوالي 160000 شخص) وظلوا في الجزء من فلسطين الذي أصبح إسرائيل فقد صاروا مواطنين في تلك الدولة. إلا أن الحكومة الإسرائيلية التي كرست جهودها أولاً وقبل كل شيء في خدمة الأغلبية اليهودية الجديدة في الدولة فقد كانت تنظر إلى هؤلاء المتبقين من السكان بشك كبير باعتبارهم طابورًا خامسًا. عاش معظم هؤلاء الفلسطينيين حتى سنة 1966 تحت وطأة قانون طواري صارم، وتمت مصادرة كثير من أراضيهم بالإضافة إلى أراضي الذين أجبروا على مغادرة بلادهم وأصبحوا لاجئين. مُنحَتْ هذه الأراضي المسروقة بالاستملاك الذي اعتبرته دولة إسرائيل قانونيًا، وكذلك معظم الأراضي الصالحة للزراعة إلى مستوطنين يهود، أو إلى سلطة الأراضي الإسرائيلية، أو وضعت تحت تصرف الصندوق الوطني اليهودي الذي اشترط ميثاقه العنصري على أن تلك الممتلكات لا يمكن أن تستخدم إلا لصالح الشعب اليهودي. دل هذا الشرط على أن العرب الذين انتزعت ممتلكاتهم لا يستطيعون شراءها من جديد ولا تأجيرها، ولا يستطيع ذلك أي شخص آخر غير يهودي.

عُزل السكان العرب داخل إسرائيل بقيود السفر العسكرية، كما أبعدوا عن التواصل مع بقية الفلسطينيين في الوطن العربي.

سكن في مخيمات في الأردن 2.2 مليون لاجئ مسجل في الأونوروا، وكانوا أكبر جماعة. بقي منهم 370000  لاجئ في المخيمات، وكذلك بقي ربع اللاجئين من المسجلين الذين بلغ عددهم 830000 في مخيمات الضفة الغربية. كما بقي في المخيمات أقل من ربع اللاجئين إلى سورية الذين بلغ عددهم 550000 قبل الحرب الأهلية التي اندلعت فيها. وبقي أقل من نصف اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان الذين بلغ عددهم 470000 في المخيمات.

 وربما كانت النسبة ذاتها تقريبًا بين اللاجئين المسجلين في قطاع غزة المزدحم وبلغ عددهم فيها 1.4 مليون لاجئ تحت الحكم المصري حتى سنة 1967.