الثلاثاء 18 يونيو 2024

«الراهبة المزيفة» للفرنسي دو كوريل تكشف الآثار المدمرة للإحباط في الحب

غلاف الكتاب

ثقافة20-5-2024 | 18:20

دعاء برعي

صنّف بعض النقّاد الفرنسيين ومؤرخي الأدب مسرحيات الكاتب المسرحي فرانسوا دو كوريل في إطار مسرح الأفكار أو مسرح القضايا الاجتماعية والأخلاقية والفلسفية، أو المسرح الذهني، فدائمًا ما كان الكاتب يسعى لاستعراض التناقضات الفكرية بطريقة واقعية، من خلال تحليل مواقف الشخصيات والغوص في عواطفهم ونفسياتهم وتطور سلوكهم وتصرفاتهم بتطور أفكارهم ونظرتهم إلى الأمور.

وتأتي مسرحيته "الراهبة المزيفة" في هذا الإطار، حيث تدور أحداث المسرحية التي عرضت لأول مرة في باريس على مسرح تييتر ليبر في 25 يناير 1892، حول الآثار المدمرة للحب المحبط، والشروع في ارتكاب العاشقة (جولي) جريمة، ثأرًا لكرامتها المجروحة، لا من الحبيب الذي نقض عهوده لها بالزواج، وإنما بحق الغريمة التي تزوج منها خطيبها (هنري لافال)، وحلّت محلها في قلبه، وكانت حاملًا، حيث أعقب ذلك شعورها بالندم، وحاولت التكفير عن ذنبها بتضحية تفوق حجم الجريمة أضعاف مضاعفة، بانقطاعها عن الدنيا والتحاقها بسلك الرهبنة داخل أحد الأديرة مدة 18 عامًا، ولم تخرج منه إلا بعد علمها أن (هنري) قد مات، لتتقلب في عواطفها وتصرفاتها بين مواقف كثيرة ومتناقضة تدل على صراعًا نفسيًا عميقًا بين الوفاء للإيمان والأخلاقيات والمبادئ والمثل التي تعتقد أنها الشفاء الحقيقي لروحها، وبين مشاعر الغيرة والحقد والكراهية والميل للثأر والانتقام من الحبيب عن طريق زوجته في حياته، لتقرر بعد علمها بوفاته هجر حياة الرهبنة والعودة إلى المجتمع بهدف الانتقام من الحبيب عن طريق إفساد حياة ابنته الشابة (كريستين).

هذه الشابة كانت تحب (جولي) وتثق بها وتحترمها، وتصدق كل ما يصدر عنها وتطيعها مخدوعة بظاهرها التقويّ، تتراجع (جولي) عن قرارها بالانتقام حيث يستقيظ ضميرها بعد أن شعرت بأنها امرأة مفعمة بالشر، وتندم على ما حاولت فعله بـ (كريستين)، وتقرر مرة أخرى العودة إلى حياة الرهبنة.

 

المسرحية تحمل الكثير من التفاصيل الكاشفة عن أجواء الشخصية الرئيسية (جولي)، فهي ذهبت إلى الرهبنة لا عن مخطط  تنتويه في حياتها، وإنما بعد الصدمة التي تلقتها من الرجل الذي كانت تحبه ووعدها بالزواج وكانت تنتظر بلهفة عودته من باريس ليتزوجها، فإذا به يعود بزوجة جاء بها من هناك، وهي حامل، وحاولت ارتكاب جريمة بحقها وحق جنينها فنجت منها، ودفعها شعورها بتأنيب الضمير إلى الدخول في الدير مدة 18 سنة، ثم أنها خرجت من سلك الرهبنة بعد موت صاحبها بنية الانتقام من أرملته وإغواء ابنتها منه، وهكذا كانت تصرفاتها طوال المسرحية، لذا جاء اسم المسرحية (الراهبة المزيفة) هو أقرب العناوين إلى مضمون المسرحية بحسب المترجم، حيث كانت طبيعة (جولي) خبيثة  ثائرة متقلبة من حال إلى حال، لأن شخصيتها ذات بنية أنانية، تحمل في داخلها ردود فعل عنيفة وإجرام، ولكنها ومع ذلك كله تعود إلى أخلاقيات داخل كل إنسان بعد أن يعود لصوابه، لتشعر بالندم وتأنيب الضمير.    

 

وقال دو كوريل في مقدمته للمسرحية التي ترجمها د.محمود المقداد وصدرت عن سلسلة المسرح العالمي الكويتية "يتفق الجميع على منح عملي قيمة حقيقية، وعلى التعبير أيضًا عن صعوبة استيعابه، ولم يخطئ (سارسي) حين كتب إنها (مسرحية متعبة). كما أن الممثلين الذين عرضوها بدورهم مجمعون على موافقته في هذا الرأي".

 

وأضاف: "اكتشفت بإعادة قراءة مسرحيتي بعد عدة سنوات، أن طبيعة (جولي) لم تكن أبدًا تلك التي كنت أنوي أن أصورها. وهكذا خانت ريشتي، حديثة العهد آنذاك فكري، وكان عليّ أن ألاحظ فيّ ذلك في وقت أبكر، لأن التنبيهات لم تكن تنقصني، وهذا التنبيه واحد منها: ففي الفترة التي مثلت فيها السيدة (باسكا) مسرحية (المدعوة) بموهبة رائعة، حصل أن قلت لها إن نجاحها في شخصية مدام (دو غريكور) منحني الرغبة الواسعة في أن أراها في شخصية (جولي)، فأجابت بلا تردد(أوه هذا غير ممكن! وسأكون فخورة بأن أمثل كل الأدوار التي ستعهد بها جميعًا، باستثناء دور هذه المرأة الشريرة).. وعندما سمعت هذه الفظاعة اعتقدت أن السيدة (باسكا) غبية وأنها لم تفهم شيئًا، وللأسف لم تكن تملك شيئًا سوى أنها فهمت بإفراط، وأما الغبي فكنت أنا، فعندما عنونتُ مسرحيتي هذه باسم (القريص) كنت أعبر بوضوح عن واقعة تشبثت بها طيلة سنوات، ولم أفتح عينيّ عليها، وهي أن (جولي) في نسخة (الراهبة المزيفة) التي عرضت على المسرح الحر كانت وبلا جدال امرأة شريرة".

وأفصح كاتب المسرحية في مقدمته عن بعض أراء الكتّاب الفرنسيين في مسرحيته يقول: "كتب هنري فوكييه: (إنه لمن الصعب أن نجري مراجعة لمسرحية السيد دو كوريل (الراهبة المزيفة)، فالعمل في رأيي متفوق للغاية، ليس فقط كنص مسرحي، وإنما كدراسة في علم النفس، ولا يستطيع المرء أن يسير بيسر ضد رأي الجمهور، وهذا الانطباع هو أن (الراهبة المزيفة) مسرحية مزعجة جدًا، ولا يمكن ستر ذلك، فالناس الذين ذهبوا إلى المسرح من أجل أن يتسلوا أو ليكونوا متأثرين بأحداث مأساوية ضخمة لن يحققوا ذلك هنا، وليتذوق المرء (الراهبة المزيفة) ينبغي له أن يكون ممن يرون أن رواية (العلاقات الخطرة) هي واحد من أجمل الكتب في العالم، وأن يكون أيضًا ممن لا يتراجعون أمام قراءة غرانديسون)، وكتب هنري سيار يقول: (تعبر ملهاة السيد فرانسوا دو كوريل عن رهافة نادرة في الروح وبعد نظر نفسي أصيل تمامًا، وصدق كبير في العاطفة واحترام عظيم للأدب. ويمكن لمبدعي المسرحيات أن يصدروا جميع الملاحظات الصائبة التي يريدون، ولكنهم لن يقنعوني أن هذا المؤلف مجرد من الوفاق المسرحي، الذي يعرف كيف يجعل من مفاجآت حدث ذكي جدًا أمرًا مؤثرًا وكيف يجعل من تعقيدات مغامرة بلا تجليات خارجية ولا توجد إلا في ذهن الشخصيات أمورًا مهمة)، وكتب جان جوليان يقول: (ذاك هو سيناريو هذه المسرحية، الأكثر أصالة، والأشد قوة مما رأيناه منذ زمن طويل، ويمكننا أن نجحد بنية المسرحية، ولكن لا يمكننا أن ننكر دراسة الطبائع الحيوية جدًا والحقيقية جدًا، ولا يمكننا أن ننفي بعض المزايا المسرحية، ولا يمكننا أن نرفض أن تكون المسرحية عملًا أدبيًا من المرتبة الأولى)".

 

ووفق مترجم المسرحية يمكن إجمال تفاصيل حياة دو كوريل في ثلاث مراحل الأولى في ظل حكم الإمبراطور نابليون الثالث وشهدت نشأته وتحصيله العلمي الأولي، والثانية في ظل الاحتلال الألماني، حيث نال الشهادة الثانوية والتحق بـ(المدرسة المركزية للفنون والصنائع) وتخرج فيها، وضعف صلاته بموطنه دفعه إلى عدم العمل في مجال تخصصه بالهندسة المدنية في مصانع الأسرة، حيث جذبه ميله إلى الأدب، فسافر إلى باريس وصار يتردد على الأوساط الثقافية فيها، ويبحث عن وسيلة أدبية يعبر بها عن نفسه وأفكاره، فبدأ بالقصة والرواية، واستقر من بعد على الكتابة المسرحية التي اشتهر بها، وقد عانى في باريس كثيرًا من التشرد والقلق وعدم الاستقرار، أما المرحلة الثالثة من حياة المؤلف فحاز فيها على راحة نفسية عظيمة بعودة موطنه إلى حضن الوطن الأم فرنسا، وبتمتعه بالشهرة الواسعة والاستقرار، كما نشر فيها أعماله المسرحية الكاملة، وانتخب في 1918 عضوًا في الأكاديمية الفرنسية، وهي تضم أبرز العلماء والأدباء والفنانين والمبدعين الفرنسيين في مختلف الميادين، وعددهم أربعون عضوًا فقط.