الإثنين 17 يونيو 2024

قصص دار الهلال النادرة| «الراقصة الحسناء».. قصة تدور حوادثها في الصين لـ بيرل بك

الراقصة الحسناء

كنوزنا26-5-2024 | 10:43

بيمن خليل

يذخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتاب بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة دار الهلال، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.

نشرت مجلة الهلال في عددها الصادر في إبريل لعام 1957، قصة قصيرة بعنوان "الراقصة الحسناء".. للكاتبة الأمريكية بيرل بك، قصة تدور حوادثها في الصين حول شخصية امرأة تراقب زوجها لشعورها بأمر غريب تجاهه، ولغيرتها الشديدة عليه، وتطلب مرافقته إلى الحفلات التي يذهب إليها، وتتوالى الأحداث.

نص القصة

كانت الأنوار الملونة المتناثرة في حلبة الرقص تكاد تخطف الأبصار.. وكانت الموسيقى تنساب هادئة راقصة حينا، قوية عنيفة أحيانا، والراقصون رجالا ونساء يدورون تحت الأنوار، وعلى نغمات الموسيقى، وفي ركن من قاعة الرقص جلست "مسز لنج" في هدوء، لا يكاد أحد يشعر بوجودها أو يحفل بأمرها..

وكانت عيناها الطويلتان المستطيلتان لا تريان شيئا في حلبة الرقص إلا رجلا بدينا، قصيرا، أشيب الشعر، يرتدي ملابس وطنية من الحرير الصيني الفاخر، وكانت عيناها تتنقلان معه حيث يتنقل هو من راقصة إلى أخرى من راقصات هذا المسهر الغربي بمدينة شنعهاي أن "مسز لنج" تنظر إلى حركات زوجها في صمت وكأنها بملابسها الوطنية المطرزة بخيوط الذهب والفضة تمثال أنيق لا يعبر وجهه عن شيء ولكن وجهها العريض، الشاحب كان قناعا يخفي ما يدور بنفسها من نوازع مختلفة.. إنها ترى زوجها الحبيب، وسيدها المطاع، ورب نعمتها، وأبا أولادها، وصاحب مصانع الحرير الكبرى بالمدينة، يضحك ويرقص مع غانيات أجنبيات جميلات، في ريق الصبا لتشعر.. وهي ترى هذا كله وأنها بأنامل باردة تعصر قلبها، وترسل الدموع إلى عينيها.

كانت، قبل أيام قليلة، لا تصدق ما يقال عن زوجها، وكانت أحيانا ترى في هذه الأقوال مبالغة رخيصة لا تليق به، ففي بيتها الكبير بالحي الشعبي ذي الحارات الضيقة، كانت تستقبل جاراتها وصديقاتها، فتسمع من هذه ومن تلك ما يشاع عن زوجها فزوج إحداهن رآه ذات ليلة وهو يدخل مسهرا من هذه المساهر الأجنبية المتناثرة في الحي الافرنجي.. وشقيق أخرى رآه في إحدى هذه الحانات التي تقدم مع الخمور الأوربية نساء مبتذلات مغامرات يسعين فقط وراء المال، وكانت "مسز لنج" تسمع بعد هذا كله تعليقات الجارات والصديقات ونصائحن أنهن يحرضنها على وقف الزوج عند حده حتى لا تخدش کرامته بین مواطنيه، وتهبط مكانته في نظر الجميع ولكن "مسز لنج" كانت ترى في كل ما يقال مبالغة وإسرافا في الشائعات.. أنها تحب زوجها وتحترمه وتقدسه، وتعتقد أنه أبعد الناس عن هذا الاسفاف ولعل الأمر لا يتجاوز تردده بين الحين والآخر على منتديات "السنج سونج" التي تقوم بالخدمة فيها فتيات جميلات من صميم الوطن، وليس في هذا حرج عليه، أما أن يتردد على هذه المساهر الأجنبية الموبوءة، فهذا هو المستحيل ولكنها، برغم هذا، كانت تشعر بقلق خفي، فهي لا تدرى ماذا تفعل لو صحت هذه الشائعات أنها منذ تزوجته، تنفق حياتها معه تدير شئونه المنزلية على أحسن حال، وتعاونه في الكفاح نحو الثراء والرخاء، وترعى أولاده منها، وكلهم بحمد الله ذكور.. تقوم بهذا كله في سعادة وقناعة ورضى فماذا يكون من أمرها لو صحت هذه الشائعات إنها لا تدري.. فحياتها معلقة بزوجها، أن استقام سعدت، وأن أعوج شقيت، وهذا هو سر قضائها الساعات ساهرة في انتظار عودة زوجها، هذا الزوج الذي لم يتعود من قبل السهر إلى ساعة متأخرة، وفي ذات ليلة مسهدة في فراشها حتى سمعت زوجها وهو يدخل مخدعه الأنيق، وينضو عنه ملابسه في هدوء، ثم يستلقي في فراشه الخاص.. فلما سمعت غطيطه، نهضت، وتسللت على أطراف قدميها، ومضت إليه، وانحنت فوقه، فإذا هي  لأسفها الشديد تشم هذه الرائحة البغيضة التي تنبعث من أنفاس السكير.. وعادت إلى فراشها مترنحة من فرط الحزن والأسى.. فقد ثبت لديها تماما أن زوجها يتردد على هذه الحانات والملاهي التي تقدم مع الخمور، غانيات أجنبيات، مغامرات.

وفي مساء اليوم التالي، دلفت إليه وهو يرتدي ملابس الخروج الفاخرة، وقالت له في صوت هادئ: إلی أین ستذهب الليلة يا عزيزي لنج؟

فنظر إليها بقلق، ثم غمغم:

- إلى حيث أسمر قليلا مع الأصدقاء..

- سمعت أنك تقضي سهراتك في الحي الافرنجي.. ويقال إنه حي جميل فاخر، فهلا صحبتك الليلة.. الليلة فقط!

فرفع الزوج حاجبيه في ضيق وقال:

-إنك لن تشعري بالسعادة في مثل هذه الأماكن.

- لماذا؟ إذا لم يكن هناك نساء فأنا أعتذر إليك.. ولكني سمعت أن الرجال والنساء في ملاهي الحي الأفرنجي يلعبون معا، ويرقصون معا، كالأطفال، وعندئذ ادرك "سو - لنج" أن الكذب لن يفيده شيئا فقال:

- حسنا.. ارتدي ملابسك لتصحبيني.. وركبت الزوجة مع زوجها في سيارته الفاخرة المستوردة من أمريكا، يقودها سائق أوربي بملابس موشاة، حتى دخلت بهما الحي الافرنجي، ووقفت أمام مرقص كان يسبح في الأضواء وتنبعث منه نغمات الموسيقى.

وها هي ذي "مسز لنج" جالسة في ركن من قاعة الرقص، لا يكاد يشعر بها أحد أو يحفل بأمرها أحد.. أنها واضعة يديها الصغيرتين في حجرها، وعيناها تتنقلان مع زوجها حيث يتنقل بين أذرع الراقصات وكان "سو - لنج" في بادئ الأمر متحرجا مضطربا، فكان يرقص وإحدى عينيه عليها، ولكنه لم يلبث أن استغرقته نشوة الرقص حتى كاد ينسى وجودها وفجأة شعرت "مسز لنج" كان قلبها ينتفض، حين رأت زوجها يخاصر غادة ممشوقة القوام، ذهبية الشعر، قرمزية الشفتين، جميلة الوجه إلى حد الفتنة الآسرة، شابة العمر، أنيقة الملابس، متألقة كالعروس كانت كأنها صورة ولكنها حية، من هذه الصور التي طالما رأتها على أغلفة المجلات الأجنبية.. وسمعت أحد الراقصين يقول لصاحبته:

 

- هذه أجمل وأبرع راقصة في شنجهاي..

وغامت الدنيا في عيني "مسز لنج" أنها تقارن بين نفسها وبين هذه الفتنة الآسرة، فتفزعها المقارنة فتلتمس المعاذير لزوجها وتضاعف القلق في نفسها، حتى غدا نارا تلتهب بها جوانحها، وتملأ المستقبل أمام خيالها بغيوم سوداء أنها لا تدري وقد ذوى شبابها ماذا تفعل للاحتفاظ بزوجها مع وجود هذه الغانية ومثيلاتها في المدينة.. إن شيئا واحدا يتبدى لها من خلال غيوم المستقبل، هو بيت حقير صغير في جوف الريف، تقضي فيه بقية أيامها، وحيدة، بائسة، لا أمل لها في الحياة ولا رجاء.

وفيما كان زوجها مع الراقصة يقتربان منها شعرت فجأة بالدموع تنهمر من عينيها على الرغم منها.. وظلت دموعها تنهمر وهي شاخصة إلى زوجها، من دون أن تطرف يدها بالمنديل لتخفي عينيها عمن قد يراها فيرثى لها.

ولما أطرقت برأسها في يأس، سمعت صوتا ناعما يقول لها:

- لماذا تبكين يا سيدتي؟

فرفعت عينيها في دهشة.. فإذا الغادة الراقصة واقفة بجانبها، منحنية عليها، ترنو إليها بنظرات ملؤها العطف والإشفاق، فهمست "مسز لنج" وهي تشير إلى زوجها الواقف في ارتباك:

- أن هذا زوجي.. أبو أولادي.. ورب بيتي.. وشريك حياتي وسیدي! ..

فاستدارت الراقصة في دهشة، وطلبت من "لنج" أن يبتعد قليلا ثم أخذت الزوجة إلى مكان منعزل حيث أنصتت - في عطف - إلى آلامها وأحزانها.. وأخيرا عادت بها إلى الزوج المرتبك وقالت له:

اسمع يارجل.. عد بزوجتك إلى البيت واقض سهرتك معها ومع أولادكما.. أنت الآن في سن الكهولة، فما تعلقك بأذيال الشباب؟ لماذا تحاول أن تشقى حياتك وحياة زوجتك الوفية.. وأولادك؟! لماذا؟ أتحسب أنني أو أية فتاة أخرى ترقص معك، أو تبتسم لغزلك ونجواك، حبا لك أو إعجابا بك أو شغفا بجسمك البدين القصير ويشبابك المفقود؟ إننا نرقص معك لمالك.. نبتسم لثروتك.. نحب فيك حافظة نقودك المتخمة، نشغف بدفتر صكوكك.. ثم لا يهمنا بعد ذلك مصيرك.. هذه نصيحتي لك أسديها إليك من أجل هذه السيدة، التي ينبغي عليك أن تكون فخورا بوفائها وإخلاصها.

وهنا لمحت الراقصة شابا طويلا نيقا، فتركت الزوجين، وهرعت إليه، فألقت بنفسها بين ذراعيه، ومضت تراقصه في سعادة وبشر، وقالت "مسز لنج" لزوجها الواقف مدهوشا كالذي يفيق من حلم مزعج :

أنني آسفة يا زوجي الحبيب.. لم أكن اقصد أن توجه إليك هذه الراقصة كل هذه الكلمات القاسية.. حقا أنها لا تعرف من أنت وما مكانتك بين أبناء وطنك فقال وهو يصحبها إلى خارج المسهر: لم يعد لي بها ولا بمثيلاتها.. هلمی نسرع إلى البيت، فإني مشوق إلى تناول العشاء الليلة وكل ليلة  مع أولادنا.