الإثنين 17 يونيو 2024

إبداعات الهلال.. «الكحل» قصة قصيرة لـ دعاء بركات

دعاء بركات

ثقافة26-5-2024 | 11:07

دار الهلال

تنشر" بوابة دار الهلال"، ضمن باب "إبداعات" قصة قصيرة بعنوان "الكحل" للكاتبة دعاء بركات، وذلك إيمانا من المؤسسة بقيمة الأدب والثقافة ولدعم المواهب الأدبية الشابة وفتح نافذة حرة أمامهم لنشر إبداعاتهم.


قصة الكحل
الشمس توعدت زبائنها.. ستشرق حارقة هذا الصباح، الشوارع تدفع البشر من أحشاءها كأم  تلد أطفال عديدين من بطن واحدة،  ارتدت هي ملابسها وتأكدت من وجود منظارها الشمسي، سيخفي جزء كبير من وجهها، عيناها، جفناها المنتفخان والسواد المحيط بهما كدائرة داكنة تركت بصمتها على الوجه البيضاوي.

أشبعت عيناها من الكحل، جديدا عله يحارب فضح الأعين لمشقات الروح خلال طريق العمل بات طنين الأحداث يطرق أذنيها دون استئذان.. لقد ذهب الزوج دون رجعة، هكذا أكد بأنه لن يعود، أربعة أطفال.. لا يهم.. المهم أنه تركهم جميعا مؤكدا على استحالة عودته.

آلام أنثوية تسري في جسدها، أسفل ظهرها وكأن يسكنه الجحيم.. تريد أن تصرخ.. لقد صارحها الأب بزواجه من يافعة تقاربها بالعمر.. بعدما كيل لها العديد من اتهامات بالتقصير والعقوق والإهمال، فكانوا ذريعة جيدة للزواج بفتاة صغيرة.

الحذاء المرتفع عن الأرض يقسم ظهرها.. تشعر أن الألم قد فاق مداه وهي تمشي مسرعة تجاه بناية العمل، ربما كان من الأفضل لو ادخرت ثمن الكحل،  أحد الأبناء أولى بثمنه.. لكن شيئًا ما دفعها للشراء ودفع مبلغا ليس ببسيطًا مقابل ذلك المسحوق الذي يزين أعين النساء.. وكانت قد نسته من زمن..

العمل يضيق بها وكأن كسرة الخبز قد شاركتها مع ألف جائع، الذراع الضعيفة باتت ثقيلة لكثرة ما تحمله من سيوف تدفع بها قهر الأيام.. وضيق يد وحيلة سيدة مثلها كلما اقتربت من عينها بناية العمل وجدتها ابتعدت من جديد.. كلتاهما تركض من الأخرى، الزوج كان قاسيا لكنها أحبته.. وحملت في داخلها أطفاله الأربعة تباعًا علها ترضيه وتلصقه بحياتها أكثر.. فلا يستطيع تركها، صبّت أملها في ميلاد الاستقرار والحب مع ميلاد أطفالها، كانت عاشقة ساذجة، ترك لها كل شيء إلا نفسه.. وفر ليبدأ حياة جديدة.


تذكرته وتساقط دمعها، ونجح المنظار الشمسي في إخفاء ملح الأعين، تسرع في سيرها فيطول الطريق.. ينكسر كعب حذائها الرخيص، تجلس فوق رصيف قريب لتدارك الأمر.. تصب عليها الشمس سوط جحيم، فتعاود النهوض والسير بقدم تبدو متعرجة، يتدفق سائلاً سميكًا من بين فخذيها يسحب معه من قطرات روحها.. تريد الصراخ، فتتذكر صراخ طفلتها الرضيعة باحثة عن حليب لا يتوافر كثيرًا لارتفاع ثمنه، تلحق ببناية العمل أخيرا وتدخل بها.. اضطرت لانزال المنظار الشمسي. 

الكحل لم يتحرك من عينيها، ثابتاً كما وضعته.. رغم كل الدمعات التي انهمرت من عينها، وكل العرق الذي كبدتها إياه شمس يوليو، تدخل في حالة يرثى لها.. تأتيها زميلتها الجالسة أمامها "ماذا بكِ ياتعسة ؟!"  فترد  متهمة الكحل بأنه لا يناسب عينها.. وهو المتسبب في كل ذلك البكاء، تنظر إلى يدها التي تمسك بجزء من ظهرها في ألم شديد.. وإلى قدمها التي خلعت عنها حذاء منكسر الكعب ثم تتركها بلا مبالاة .


تأتيها زميلة أخرى آتت لتستفسر عن الرواتب في منتصف الشهر.. تسألها عن حالها وحالتها، فتجيبها بأن كل شيء على مايرام.. أطفالها الأربعة بخير، زوجها في عمله ينتظر ذهابها إلى البيت، أبيها يحادثها في حنان وود عن حالها وحال أطفالها، لا شيء فقط سوى نوع جديد من الكحل وضعته.. على مايبدو لا يناسب عينيها! تكذب في إصرار على إبعاد شعور الشفقة عنها ممن حولها.. يدخل زميل آخر يلقي بتحية الصباح، ثم يقف قليلاً ليتأملها ويسألها ماذا بكِ فترد  بابتسامة مصطنعة واهنة  "لا شيء أنه الكحل"، يتبدل الوافدون والخارجون إلى الغرفة.. ويتكرر السؤال عليها "هل أنتِ بخير؟  ولا أحد يقتنع إلا رغبة منه في عدم الانشغال بموظفة تتألم وتبكي .

 
تشرد.. ولا تنزل يدها الماسكة بأسفل ظهرها متألمة.. ولا تسكت عيناها عن ذرف الدموع، وجدت الكحل مبررًا لطيفًا وعزيزًا لتتخذه ذريعة.. إنه الكحل
ظلت ترددها كلما سألها أحد نفس السؤال.. " إنه الكحل "  حتى انتهى موعد العمل.. وكان عليها خوض رحلة الذهاب التي خاضتها صباحا.. وتنهيها بالتوجه إلى مدارس أطفالها لأخذهم، ثم الذهاب إلى السوق لشراء الطعام.. ثم العودة لطهيه.. ثم الاهتمام بأطفالها، ثم الخلود إلى النوم دون نوم.. وتردد وهي جثة بها الروح ليلاً قبل أن تستعد لخوض نفس الحرب غدا "لا شيء بي.. كل شيء على ما يرام، فقط إنه الكحل.. إنه الكحل!.