الخميس 20 يونيو 2024

ثقافة القصيدة وخيال الواقع


تقى المرسي

مقالات5-6-2024 | 20:26

تقى المرسي

تطوير الخيال الشعري لابد أن يأتي من خلال حالة القصيدة العربية التي تطورت بفعل تراسل الفنون، والتناص مع الواقع والتراث والأسطورة

لا شك أن الواقع يرتبط بالذاكرة السيكولوجية، وهذا الواقع هو الرابط بين ذاكرة الشاعر والقصيدة، وقد يصبح الواقع هو المؤهل الذي يثقف القصيدة

 

يرتبط الخيال الشعري عند كثير من شعراء الوطن العربي ارتباطًا قويًا بالمجاز اللغوي، وذلك لأنه لا يربط النص الشعري الجديد برباط واحد، أو صورة شعرية واحدة، وإنما يعتمد على سياق جزئي يتنقل بين تداعياته انتقالا حرا، وبالتالي لا يمكن أن نقدم توصيفا لهذا الخيال إلا أنه خيال بياني، والمجازات اللغوية هي التي تسيطر على النص، واستبدل هؤلاء الوحدة الفنية من البيت في الشعر العربي القديم بالسطر الشعري، وفطن بعضهم إلى التطور الذي حدث في القصيدة العربية، والبعض الآخر ما زال مشغولاً بالصور الشعرية المتفرقة.

إن تطوير الخيال الشعري لابد أن يأتي من خلال حالة القصيدة العربية التي تطورت بفعل تراسل الفنون، والتناص مع الواقع والتراث والأسطورة، فأصبح ممتدا في القصيدة عند الأجيال المؤسسة للشعر القديم، والملفت أن هناك خيالا شعريا يتلمّس مفرداته من قلب الواقع، سواء كان هذا الواقع واقعا حقيقيا، أم واقعا افتراضيا، وأنا لا أرى أن هناك تناقضا بين موقف الخيال الشعري، وموقف الواقع الذي تنبع منه القصيدة، ولذلك يمكن أن نطلق على هذا النوع من الخيال مصطلح "خيال الواقع"، ومن هنا يمكن أن يأتي تطوير النص الشعري.

لم يعد الشعر كما كان يظنه الحالمون، ولم يعد الشاعر ذلك الكائن المحلق تاركًا الأرض بما فيها ليرفرف مع العصافير ويداعب وجنة القمر؛ فكيف للشاعر -وهو إنسان بالمقام الأول- أن ينفصل عن واقعه،  وهموم مجتمعه ووطنه وعالمه، بل وحياته اليومية؟

ولنا أن نسأل: ما الذي يمكن أن يفعله الشاعر ليربط القصيدة بالحياة الواقعية؟ هذا التساؤل الجوهري هو محور من أهم محاور العلاقة بين الشعر والواقع. فالشعر -وهو ينتمي إلى عالم الفنون- يقدم واقعًا آخرَ يفسر الواقع الحالي، هذه المقولة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بنظرية المحاكاة عند أرسطو، والتي تقوم على أساس أن الفنون ما هي إلا نوع من المحاكاة للحياة الطبيعية والواقعية على أساس الربط بينهما، ولكننا هنا نختلف عن أرسطو قليلاً، لنقول أن الشعر يقدم واقعًا موازيًا، أحيانًا يأتي هذا التوازي بمثابة التفسير للواقع المعاصر، وأحيانًا يأتي هذا التوازي بمثابة التأويل لذلك الواقع، ويأتي أحيانًا بمثابة التواصل أو الربط بين الحالة التي أيقظت روح الشعر عند الشاعر، وهيأت له كتابة القصيدة.

إن الانفعال بالواقع أو الانفعال بالتخييل، يُعد واقعًا نفسيًا، وهو من آن لآخر لا يمكن أن نقدم له تفسيرًا، غير أن هذا الانفعال ينبع من الواقع المعاصر، لذلك لابد أن نقدم تساؤلاً آخرَ يمكن اعتباره مكملاً للسؤال الأول، وهو:

هل تقبل القصيدة أن تكون شريكًا في الحالة الثقافية التي نعيشها؟ بمعنى آخر: هل تصبح القصيدة في حالة ما من حالات وجودها قصيدة مثقفة؟ هل تنقل عبر سطورها وأبياتها الوعي الدائم بحركة الحياة، والإدراك القائم على المعرفة الباطنة للأشياء، والفهم الذي يوازن بين حالة الوعي وحالة الإدراك؟

لا شك أن الواقع يرتبط بالذاكرة السيكولوجية للشاعر، وأن هذا الواقع هو الرابط بين ذاكرة الشاعر والقصيدة، وقد يصبح الواقع هو المؤهل الذي يثقف القصيدة بما يسمح لها بالوجود والتأثير. ولكل عصر ثقافته ووعيه الخاص، الذي من خلاله يمكن التعرف على الحياة الثقافية لنصٍ ما، لأن القصيدة عدد من الحيوات التي تتداخل فيما بينها لتجعل من النص فرصة لالتقاء الإنسان ووعيه بالحركة التراثية للفكر الإنساني أحيانًا، وخياله وطموحاته أحيانَا أخرى، وهموم وتداعيات الواقع بكل ما يحمله من انكسارات وانتصارات في كثير من الأحيان، ولنأخذ مثلاً على ذلك ما أنتجه الفكر الإنساني عقب الحرب العالمية الثانية في مجال المسرح، وكيف ارتبط زمن ما بعد الحرب باتجاه العبث، بعد فقد البشرية نحو خمسين مليونًا من القتلى، وحالة الضياع والتشظي التي أحاطت وقتها بالكتاب والشعراء على اختلاف مواقعهم، وقد انتقلت هذه الحالة الفكرية والثقافية والسياسية والإنسانية إلى الشعر، فنجد شاعرًا مثل "إيليا أبي ماضي" وهو من شعراء مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يكتب قصيدته "اللاأدرية" بسبب انتهاء مقاطعها بقوله: "لستُ أدري"، والتي أطلق عليها فيما بعد قصيدة "الطلاسم"، حيث يقول:

جئتُ لا أعلم من أين ولكني أتيتُ 

ولقد أبصرت قُدّامي طريقا فمشيتُ 

وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيتُ 

كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ 

لست أدري 

 

 

أجديد أم قديم أنا في هذا الوجودْ 

هل أنا حرٌ طليقٌ أم أسيرٌ في قيودْ 

هل أنا قائدُ نفسي في حياتي أم مقود 

أتمنّى أنني أدري ولكن 

لست أدري! 

 

 

وطريقي ما طريقي أطويلٌ أم قصير 

وهل أنا أصعد أم أهبط فيه أم أغور 

أأنا السائر في الدرب أم الدرب يسير 

أم كلانا واقفٌ والدهر يجري 

لستُ أدري! 

 

 

أتراني قبلما أصبحتُ إنسانا سويا 

أتراني كنت محواً أم تراني كنت شيئا 

ألهذا اللغز حل أم سيبقى أبديا 

لست أدري، ولماذا لست أدري؟ 

لست أدري!

 

 

هذه الدلالات الظاهرة هي البديل الحقيقي عن الشعر، حيث استغنى الموقف الوجودي بالتفاصيل التي تشير إلى الواقع بأدوات خالية من المجاز التقليدي، والتي تشير بدورها إلى واقع مجاور للنص، إننا إزاء نوع من التخلي عن مفردات الشعر من أجل مفردات الحالة.

سيظل النص الشعري مهما كان منتميا لمذهب فني، أو أيديولوجي عصيا على التطويع وسلب المصطلح الذي يفرض عليه، ليس لأن المذهب الأدبي، أو انتماء الشاعر هو العبء الذي يجب أن يتخلص منه النص، ولكن لأن القصيدة يجب أن تكون حرة محلقة عصية على التصنيف المذهبي، أما إذا اختار الشاعر أن ينحاز إلى فكرة، أو مذهب، أو تراث، ليجعل منه صورة موازية لشبكة العلاقات التي تحكم النص، فهذا يزيد النص بهاءً، ولعل أبلغ ما يعبر عن هذا ما كتبه الشعراء فيما يُعرف بأدب المقاومة، وهي نصوص شديدة الالتصاق بالواقع، سياسيًا واجتماعيًا وإنسانيًا، يقول "توفيق زياد" في قصيدته "هنا باقون":

كأننا عشرون مستحيل

في اللد والرملة والجليل

هنا على صدوركم باقون كالجدار

وفي حلوقكم

كقطعة الزجاج كالصبار

وفي عيونكم

زوبعة من نار

هنا على صدوركم باقون كالجدار

نجوع؛ نعرى؛ نتحدى

ننشد الأشعار

ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات

ونملأ السجون كبرياء

ونصنع الأطفال جيلا ثائرا وراء جيل

كأننا عشرون مستحيل

في اللد والرملة والجلى

 

ويقول "محمود درويش":

سجل

أنا عربي

أنا اسم بلا لقبِ

صبورٌ في بلادٍ كلُّ ما فيها

يعيشُ بفورةِ الغضبِ

جذوري

قبلَ ميلادِ الزمانِ رستْ

وقبلَ تفتّحِ الحقبِ

وقبلَ السّروِ والزيتونِ

وقبلَ ترعرعِ العشبِ

أبي من أسرةِ المحراثِ

لا من سادةٍ نجبِ

وجدّي كانَ فلاحاً

بلا حسبٍ ولا نسبِ

يعلّمني شموخَ الشمسِ قبلَ قراءةِ الكتبِ

وبيتي كوخُ ناطورٍ

منَ الأعوادِ والقصبِ

فهل ترضيكَ منزلتي؟

أنا اسم بلا لقبِ

سجل

أنا عربي

ولونُ الشعر فحميٌّ

ولونُ العينِ بنيٌّ

وميزاتي:

على رأسي عقالٌ فوقَ كوفيّه

وكفّي صلبةٌ كالصخرِ

تخمشُ من يلامسَها

وعنواني:

أنا من قريةٍ عزلاءَ منسيّهْ

شوارعُها بلا أسماء

وكلُّ رجالها في الحقلِ والمحجرْ

فهل تغضبْ؟

ربما تكون القضية الفلسطينية هي الأكثر تأثيرًا على الواقع الفني والأدبي الآن في وطننا العربي، ولذلك يمكن للقصيدة أن تتخلى قليلاً عن مظاهرها الفنية والجمالية، في مقابل الانحياز للفكرة الإنسانية، فالشعر يرسم أحيانًا أنماطًا من الحياة التي يطمح الشعراء للوصول إليها، والتمسك بالأرض مبدأ إنساني ووطني لا ينفصل عن الواقع، وبالتالي لابد أن يكون جزءًا من المشهد الشعري المعاصر.

ونلاحظ الفرق بين قصيدة إيليا أبي ماضي، والقصيدتين الأخيرتين لتوفيق زياد، ومحمود درويش، وهو الفارق بين الحيرة واليقين، بين البحث عن الوجود، والدفاع عن الوجود، بين البحث عن الطريق، وتحرير الأرض السليبة، في نصوص تحتفي بالواقع الحي ممزوجًا بالواقع الافتراضي.

وبالانتقال إلى قصيدة أخرى تحتفي بوجه آخر من وجوه الحياة الإنسانية والاجتماعية الحية والمعيشة، يقول الشاعر "صلاح اللقاني" في قصيدة بعنوان "متتالية الحديقة":

قليلُ من البرد يكفي لكي يتجعّد

جلد الهواء 

تراب حفيف يمس رخام السلالم

باب الحديقة 

كرسيه الخشبي 

على التربة الهشة 

انغرست في التراب قوائمه

نامت النار 

نظر الكلب من ذروة الانتباه 

إلى طائر كان ينظر 

من ذروة الانتباه إلى دودة تتمطى 

على فاصل الحوض.

...

في آخر المشهد ارتعب الرجل 

الذي كان يراقب الكل 

من نظرة لا ترى 

سلطت فوقه

 غضبًا

عالقًا في الهواء 

"الحديقة"

يشم الجوافة

مبتلة بالندى 

دار باب الحديقة

دون صرير

رأى الأرض مكسوة بحصى باهت اللون، 

والخضرة انتشرت 

في المكان بحسم 

دروب يهندسها الماء والزرع 

داس على صخرة أطلقت صيحة

 في الفضاء

....

كما نرى، تحتفي القصيدة بالحياة اليومية وتفاصيلها الإنسانية المنمنمة، في لغة لم تخلُ من بعض الصور البيانية الصغيرة، ولكن الملاحظ أن لغة الواقع غالبة على النص، وهذه المزاوجة تتيح للنص آفاقًا ممتدة من التأويل الجمالي، هذه الجماليات لا تنبع من المجازات التقليدية أو الصور البيانية، وإنما تنبع جماليات النص من الواقع، وتصبح اللغة الاجتماعية والإنسانية مركزًا للسرد الشعري الذي يعتمد على بنى حكائية منفصلة، وتحتفي مثل هذه القصائد بالموقف الواقعي والمعرفي، بالإضافة إلى الموقف الجمالي بالطبع، وهو جوهر الشعر.