أصوات وألحان جميلة أشرقت علينا منذ ثورة يناير ٢٠١١ ويونيو ٢٠١٣، وليست فقط الأصوات والكلمات والألحان، وإنما المجموعات، أي الفرق الجماعية التي أصبحت من أكثر الظواهر الفنية تعبيرا عن مرحلة جديدة في حياة مصر، وللدرجة التي أثرت في الكثيرين منا، لكنها، أي هذه الأصوات والألحان تبخرت وكأن وجودها كان مرهونا بدعم التغيير الذي طالب به المصريون وقتها منذ نزولهم للشوارع والميادين، ودفاعهم عن بلدهم، ورفضهم للإخوان الذين حاولوا الاستيلاء على الوطن والناس، ولمدة طويلة تخطت العامين ساهم الفن والفنان المصري بالكثير من الدعم لوطنه وناسه من خلال الأغاني والأناشيد، والمواويل، وأيضاً الأشعار والمسرحيات، والأفلام، القصيرة والطويلة التي تم إنتاجها برغم صعوبة عرضها في هذه الظروف، لكن هذا لم يمنعها، فطرق التعبير عن الحدث لم تتوقف عند أي معوقات، وبالطبع فإن جهاز الرقابة لم يكن في ظرف يسمح له بالعمل المعتاد ومن هنا استطاعت بعض الأفلام أن تفلت منه مثل (بعد الموقعة) للمخرج يسري نصر الله، وفيلم (الشتا اللي فات) للمخرج إبراهيم البطوط.
وفيلم (الميدان) للمخرجة المصرية الأمريكية چيهان نچيم وأفلام أخرى مهمة عن مصر وميدان التحرير وقضايا أخرى غيرها، كما استطاع الشباب المحب للمسرح أن يقيم عروضا في الشارع، بالقرب من ميدان التحرير من خلال مهرجان مبتكر لكل من يمتلك الموهبة اسمه (مهرجان دي كاف) أما الغناء فقد انتشر في كل مكان يمكنه استقبال واستيعاب الأصوات القديمة والجديدة فقد كان المطلوب هو فرصة للتعبير عن الموقف الإنساني والثقافي في إطار تغيير كبير شامل أحسته الأغلبية في مصر وقتها.
هل تبدأ الثقافة من جديد؟
التفاعل الكبير للمصريين مع الأحداث في ثورة يونيو من عام ٢٠١٣ جعل الملايين لديها اشتياق كبير لتجديد مسارات الحياة، من المسار الاجتماعي للثقافي للفني، وتمنيات بحياة أفضل وهو ما دفع الملايين منهم للخروج في الشوارع في اليوم المشهود الذي تم فيه الإعلان عن انتهاء الحقبة الإخوانية ورئيسها وانتصار الشعب والجيش معا في الحفاظ على مصر دولة مدنية لكل مواطنيها، وهكذا بدأ التفكير في صناعة ثقافة جديدة معبرة عن هذه المفاهيم وهذا التغيير الكبير الذي شارك فيه -ربما لأول مرة- الملايين، في كل محافظات مصر، فخرجوا، وجلسوا في الشوارع ينتظرون لحظة العمر (حين يتم الإعلان عن إنهاء الحكم الإخواني ورحيله) وبعدها، بدأت عملية إعادة صياغة الحياة من جديد، وكان من المهم أن تكون الثقافة واحدة من أهم أدواتها، وأن يكون الفن في قلبها باعتباره صانع الهدوء النفسي والبهجة لدى شعب يمتلك كل أدوات صناعة الفن الجميل منذ الاف السنين، وحتى الآن، فضلا عن أجيال من المواهب في كل مجالات الفنون كالسينما والمسرح والموسيقى والرسم والرقص والأدب، وأخيرا الدراما التليفزيونية التي قدمت الكثير من الأعمال المهمة منذ بدايتها عام ١٩٦١ بعد إنشاء التليفزيون المصري، والتي بعد أكثر من نصف قرن زادت أهميتها لقدرتها على تقديم أعمال كان من الصعب تقديمها عبر أفلام السينما في بلد يزداد عدد سكانه بسرعة كبيرة في وقت يقل فيه عدد دور العرض السينمائي وبالتالي يصبح الرهان على العرض التليفزيوني هو الأمل في وصول أعمال معبرة عن الفكر القومي للدولة وما يتبعه من أفكار داعمة عن وحدة وتماسك المصريين وعن تاريخهم وحضارتهم العريقة وبطولاتهم، كل هذه المعاني التي تعبر عن مسيرة الثقافة المصرية وأهميتها في تنمية الوعي الجمعي والفردي لدى الشعب المصري تحتاج إلى بناء الكثير من أماكن تلقيها كقصور الثقافة ودور العرض المسرحي والسينمائي ومجمعات الأنشطة للأجيال الجديدة، وهو ما تسبب في تأخير هذه المهمة الملحة لكل أطياف المجتمع وطبقاته، وهي تنمية الوعي الجمعي والفردي
من أين نبدأ؟
في الستينيات من القرن الماضي، أطلق الكاتب والمفكر سعد كامل فكرة قصور وبيوت الثقافة التي تقام في عواصم ومدن المحافظات المصرية كنوع من العدالة الثقافية بين المصريين، ومضت الفكرة سريعا إلى غايتها، وحيث عرف الكثير من أبناء محافظات مصر معنى الذهاب إلى مكان يقدم لهم السينما والمسرح ومكتبة للقراءة ويتيح الفرص للموهوبين منهم لتعلم الفنون وربما إنشاء فرق للمسرح والفن الشعبي، وحتى نادي السينما بالقاهرة العاصمة، أصبح له فروع ضمن هذه القصور، ومن خلال هذا نمت أجيال جديدة من المثقفين ومحبي الفن في كل مصر، وبعد سنوات توقفت هذه القصور عن أداء واجبها مع عدم الاهتمام بإدارتها وإهمالها، لكن وزارة الثقافة حاولت استعادتها منذ سنوات في عهد الوزيرة إيناس عبدالدايم، التي قررت البدء ببرنامج (سينما الشعب) وفيه يتم عرض للأفلام المصرية الجديدة التي تعرض في الأعياد بأسعار ملائمة للأغلبية، وقد نجحت التجربة وأقبل عليها جمهور محب للسينما وأسعده أن يرى في محافظته البعيدة الأفلام الجديدة التي يراها جمهور العاصمة، غير أن التجربة على أهميتها تحتاج إلى استكمالها من خلال ترميم القصور واستعادتها كاملة لتقديم كل الأنشطة التي أنشئت من أجلها في الماضي، خاصة في زمن الجمهورية الجديدة ومع جمهور جديد، أغلبه من الشباب الذي ولد وكبر وعرف أنواع من الأنشطة عبر الشبكة الإلكترونية وأفلام وفيديوهات السوشيال ميديا، وأهمية أن يجد هذا الشباب قصر أو بيت في محافظته أو قريته يرى فيه عروض فنية حقيقية (وليست إلكترونية) ويمارس من خلاله الفن الذي يهواه، وهو ما يضيف إلى المجتمع نفسه إفادتين، الأولى هي دعم الذائقة الفنية للمواطن، والثانية هي اكتشاف الموهبة عند الموهوبين، ومن هنا فإن قضية استعادة قصور وبيوت الثقافة من أهم القضايا الحالية في مجتمعنا حتى يصبح اللجوء للفن والثقافة وتعاطيهما ضمن أولويات المواطن والمواطنة في المدينة والقرية.
أي قضايا نحتاجها؟
حين نتحدث عن أهم القضايا التي لابد من تناولها عبر الفن، سنختار بالطبع فن الدراما الأكثر انتشارا وشعبية، سواء في السينما أو التليفزيون، ولكن هناك أعمال لا يمكن إنتاجها إلا بمستوى يليق بها وهو ما رأيناه عام ٢٠٢٠ من خلال مسلسل (الاختيار) في جزئه الأول، والذي قدم قصة صعود الإرهاب على أرض سيناء من خلال جماعات إرهابية حاولت الاستيلاء على هذه المنطقة الغالية والشديدة الأهمية، وكيف واجه أبطال الجيش هذا الإرهاب. وبينهم البطل (أحمد المنسي) قائد الكتيبة ١٠٣ الذي تصدي بشجاعة فائقة لهجوم مقاتلي دولة الخلافة الإسلامية ولكنهم قتلوه بعدها في كمين ليصبح أسطورة، وفي الجزء الثاني (٢٠٢١) نعرف قصة رجال الظل، أو أبطال الشرطة المصرية الذين دافعوا عن الوطن وقتل الكثيرين منهم منذ عام ٢٠١٣ وما بعده، أما الجزء الثالث من هذا المسلسل الكبير، (٢٠٢٢) وعنوانه القرار، فيدور حول الأزمات التي شهدتها مصر خلال السنوات التي أعقبت ثورة ٢٥ يناير عام ٢٠١١ ووصول جماعة الإخوان إلى الحكم والأزمات التي تسببت فيها والغضب الشعبي الكبير الذي انتهى بقيام ثورة ٣٠ يونيو، هذا العمل لم يكن ممكنا إهمال تقديمه، ولم يكن ممكنا إنتاجه من خلال أي شركة إنتاج وإنما من خلال الدولة نفسها وذراعها الإعلامي، المتحدة للخدمات الإعلامية، الذي يواصل مهمة قام بها من قبل قطاع الإنتاج في التليفزيون المصري حين أنتج مسلسلات مثل (رأفت الهجان) بأجزائه الثلاثة، و(دموع في عيون وقحة) وغيرها من الأعمال الوطنية، لكن الجديد هنا هو تلك الالتفاتة إلى الأعمال التاريخية البعيدة عن تاريخنا المباشر، والتي تخص العالم كله، ونحن منه، في إطار تنمية الوعي العام للمشاهد- المواطن بما يحاك ضد بلده من مخاطر ومؤامرات، مثل مسلسل (الحشاشين) الذي رأيناه هذا العام ٢٠٢٤.
الحشاشين
لعل إنتاج وتقديم مسلسل (الحشاشين) وعرضه على شاشاتنا المصرية في رمضان الماضي هو نقلة مهمة تعبر عن فهم جديد لاهمية الفن في مسيرة الشعب والدولة في مرحلة مهمة نعيشها الآن وتمتلئ بالتحديات، وبينها بالطبع تحدي الإرهاب بكل أنواعه، وصناعة فن قادر على التأثير من خلال كل عناصر الجودة، بداية من الكتابة للقيادة الإخراجية للتصوير ولاختيار الأماكن الأكثر تعبيرا عن القضية وما حولها، واختيار الممثلين وجميع عناصر (صناعة القصة) وليس الصورة فقط، وهو ما استطاع فريق العمل في هذا المسلسل تقديمه ليضعنا في إطار مستوى جديد تصل إليه صناعة الدراما المصرية على كل المستويات، مستوى اجتذبنا لقصة (حسن الصباح) الذي نصب نفسه إماما واجتذب أنصار صدقوا كلماته وخاصة أنه يمتلك (مفتاح الجنة) بينما كان كل همه امتلاك مفاتيح القلعة التي عاش بها، وامتلاك أسوار المدن التي حارب جيوشها، والشخصيات التي اغتالها، وتقديم رحلة رجل قادته أحلامه وغروره الذاتي إلى ارتكاب مجازر ومحاولات غزو بلاد والسيطرة على شعوب حتى أوصلته إلى حالة من الجنون في النهاية قبل الموت، ومن المهم هنا معرفة أن هذا العمل بقصته (مأخوذ عن حكاية طائفة الحشاشين الدموية الإرهابية كما حكاها التاريخ)، وبجودة صناعة عناصره قد اجتذب بلاد أخرى لشرائه ورؤيته، وهنا تصبح جودة الإنتاج الفني، أو لابد أن تصبح جزءا من مسيرة صناعة الفن في مصر مستقبلا، لأنه لا يمكننا تعويض الجودة في المحتوى، والمستوى الفني، ومن هنا أيضا فإننا نحتاج إلى خريطة عمل للثقافة والفن المصري في السنوات القادمة تؤكد على أهمية اختيار ما يتم إنتاجه من أعمال جديدة، وأهمية إتاحة عرض هذه الأعمال للأغلبية من المصريين، وأهمية الاهتمام بالتراث الفني، خاصة تراث الموسيقى والغناء، وإتاحته للغالبية من خلال شاشات التليفزيون والعودة لأرشيف غال متخم بأغنيات وقصائد لم نعد نراها، واستعادة حفلات (أضواء المدينة)، و(ليالي التليفزيون) بكل ما قدمته من أغنيات وقصائد ومقطوعات موسيقية،، نعم،، الفن والثقافة هما عمودان من أعمدة النهضة المصرية في السنوات القادمة، ويجب الاهتمام بهما ودعمهما بكل الجهد والرعاية الممكنة.