حكيم يمتلك رجاحة العقل.. ورحابة الفكر.. والنظرة المتأنية الفاحصة.. واسع الصبر.. شديد السماحة.. تفيض الطيبة من عينيه.. يسير السلام في ركابه.. فيحنو ولا يغضب.. ولا يحمل ضغينة لأحد.. يعرف أقدار الناس.. يجيد الإنصات حتي مع من يخالفونه الآراء والرؤي.. شديد الذكاء.. سريع البديهة.. دائم التواضع.. شغوف بالقراءة.. واسع الاطلاع والمعرفة.. نهم لا يشبع من العلم في كل فروعه وروافده.. أخذ من الدراسات الإنسانية الرحابة والمرونة.. وأخذ من الدراسات العلمية الدقة والصرامة.. إنه البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية.. الذي اختارته العناية الإلهية.. ليتحمل مسئولية الكنيسة المصرية في توقيت شديد الخطورة والحرج.. ولكنه استطاع بكل ما يملكه من مخزون الحكمة والبصيرة.. أن يتفادي كل الأعاصير والأنواء.. وأن يتحول إلي رمز نبيل.. من رموز عشق هذا الوطن العظيم وحراس هويته شديدة التفرد والخصوصية.
ولد وجيه صبحي باقي سليمان في الرابع من نوفمبر 1952 بمدينة المنصورة.. وكان والده يعمل "مهندس مساحة".. مما جعله كثير التنقل بين المدن المصرية.. حيث عمل في المنصورة وسوهاج ودمنهور والإسكندرية.. وعاش الطفل وجيه في المنصورة خمس سنوات.. ولعبت والدته دوراً كبيراً في ارتباطه بالكنيسة.. حيث كانت من منطقة دير القديسة دميانة.. بالقرب من بلقاس في الدقهلية.. مما جعله يقضي الأجازة الصيفية في الدير.. وفي سوهاج ارتبط أكثر بالكنيسة.. وكان يدرس في المرحلة الابتدائية.. وفي دمنهور سكنوا في بيت بشارع الموازين والتحق بالمدرسة القبطية.. التي كانت تديرها "أبلة شفيقة" شقيقة البابا كيرلس السادس.. وعندما كان في الصف الثالث أو الرابع الابتدائي.. كانت الأسرة تعيش في دمنهور.. ذهبت به الأم إلي الكنيسة.. لكي تتم رسامته "شماساً".. ولكن كبير الشمامسة أخرجه من الطابور بحدة.. بدعوي أنه غريب وليس من أهالي دمنهور.. ورجعت الأم باكية إلي البيت.. وعندما عاد الأب إلي البيت وجدها حزينة.. وعندما عرف سبب حزنها.. قال لها لا تحزني "بكرة يرسموه أسقفاً".. وذلك علي سبيل تطييب الخاطر.. ولكن هذه الجملة صارت دعوة قبلها الله.. وكان والده مصاباً بقرحة في المعدة وكان الابن وجيه الولد الوحيد والابن الأكبر في الأسرة.. فله شقيقتان.. ولأنه الولد الوحيد.. فقد كان دائم الذهاب إلي الصيدليات لشراء الأدوية لوالده.. وكان يلاحظ أن الأب يشعر بالراحة بعد تناول تلك الأدوية.. فوقر في قلبه منذ طفولته.. أن الصيدلي هو الشخص الذي يريح الناس من آلامهم.. فقرر منذ صباه الباكر أن يكون صيدلياً.
توفي والده وهو في المرحلة الإعدادية.. ليجد في كنيسة الملاك الصدر الحنون.. الذي عوضه عن رحيل الأب.. فراح يتردد مع والدته علي تلك الكنيسة حتي أصبح خادماً بها.. وكان يحرص علي الجلوس داخل المكتبة حيث الهدوء والاطلاع والمعرفة.. من خلال قراءة الكتب في شتي المجالات.. واشتهر الفتي وجيه بالتفوق طوال حياته.. يذاكر في دأب.. ويجتهد في تحصيل الدروس.. وكان من الطبيعي أن يتفوق في الثانوية العامة.. ليعمل علي تحقيق حلمه القديم.. الالتحاق بكلية الصيدلة.. واشتهر في الكلية بقدرته علي تسجيل محاضرات الأساتذة بالكلمة.. بخط جميل وتنسيق رائع.. ورغم تفوقه الدراسي استمر ارتباطه بالكنيسة خلال المرحلة الجامعية.. حيث تعرف في ذلك الوقت علي الأنبا باخوميوس.. وصار من أقرب تلاميذه.. كما كان أمين الخدم في كنيسة الملاك بدمنهور وهو في الثانوية العامة.
حصل علي بكالوريوس الصيدلة في يونيه 1975.. ليعمل في مصنع أدوية تابع لوزارة الصحة في مدينة دمنهور.. وراح يترقي في عمله بشكل سريع.. حتي صار أحد مديرى هذا المصنع.. ودفعه حبه للعلم إلي إجادة اللغة الإنجليزية.. وإلي الحصول علي زمالة هيئة الصحة العالمية بإنجلترا في يونيه 1985.
وطوال تلك الفترة لم تنقطع علاقته بالكنيسة.. حيث واصل الخدمة بها.. ودرس في الكلية الإلكيريكية في الفترة ما بين 1979 – 1981.. وهي الفترة التي شهدت ذروة التوتر بين البابا شنودة والرئيس أنور السادات.. ذلك التوتر الذي انتهي بفرض الإقامة الجبرية علي البابا شنودة بالدير.. ورغم تفوقه في مجال عمله.. إلا أنه رفض العمل بإحدي الصيدليات بعد انتهاء عمله بالمصنع.. وذلك حتي يجد الوقت للخدمة في الكنيسة.. وازداد شغفه بهذا العمل التطوعي.. وواصل دراساته الدينية.. حتي حصل علي بكالريوس الكلية الإكليريكية في نوفمبر 1983.. وبعد هذا المشوار الطويل داخل أروقة الكنيسة.. كان لابد وأن يحسم قراره.. فذهب إلي دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون في أغسطس 1985.. ليترهبن في 31 يوليو 1988.. وتمت رسامته قساً في ديسمبر 1989.. انتقل بعدها للخدمة في محافظة البحيرة.. لينال درجة الأسقفية في يونيه 1997.. لتتحقق نبؤة والده.. التي تنبأ بها قبل سنوات طويلة.. والرهبنة هي الانسلاخ من الكل وترك الكل للذوبان في معية الله.. وعندما اختار طريق الرهبنة.. ترك اسمه الدينوى "وجيه صبحى".. وأصبح اسمه الجديد الراهب ثيوؤدور.. وانطلق من دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون في عام 1988.. ليبدأ في عام 1990 خدمته للشباب في محافظة البحيرة وكنج مريوط والقطاع الصحراوي.. واستمرت خدمته في هذا القطاع علي مدي خمسة عشرة عاماً.. إلي أن تم تجليسه علي كرسي مار مرقس.. وطوال هذه السنوات عمل علي ابتكار أساليب جديدة في خدمة الشباب وإقناعهم بما يتناسب مع العصر الحديث.. وقد استفاد في تعاملاته مع الشباب من دراسته للصيدلة وعمله في إنتاج الدواء.. حيث كان يحرص علي التدقيق والدقة في توصيل المعلومات المفيدة لهؤلاء الشباب.. وهذا الأسلوب يتسق تماماً مع شخصيته.. حيث يمتلك عقلية مفكرة.. ويعمل في صمت.. ويحرص علي انكار الذات رغم كثرة إنجازاته.. وفي تعاملاته مع الشباب كان يؤكد علي تأثير التنشئة الأسرية والمدرسة والإعلام.. علي تشكيل وعي الطفل في محبته أو كراهيته للآخر.. وعلي هذه المؤسسات الثلاث.. أن تعمل من خلال منظومة واحدة بتناغم وتلاحم.. ولذلك كان طوال خدمته مع الشباب يدعو إلي ضرورة الاهتمام بفصول التربية بالكنيسة منذ الصغر.. لأن تلقي العلم في الصغر كالنقش علي الحجر.. وأهلته هذه الأفكار.. ليعمل مقرراً للجنة الطفولة في المجمع المقدس وبعد أن نال درجة الأسقف في 15 يونيه 1997.. عمل علي مساعدة الأنبا باخوميوس.. مطران إيبارشية البحيرة ومطروح والخمس مدن الغربية.. وصار اسمه نيافة الأنبا تواضروس أسقف مطرانية البحيرة.. وتواضروس اسم قبطي يقابله باللغة اليونانية ثيؤدوروس.. ويقال أيضاً تادرس.. ومعني الاسم عطية الله أو عطا الله.
بعد وفاة البابا شنودة الثالث في 17 مارس 2012.. تولي الأنبا باخوميوس قائم مقام البابا.. ليقوم بإعداد كل ترتيبات اختيار البابا الجديد.. من خلال القرعة الهيكلية.. ولم يفكر الأنبا تواضروس في ترشيح نفسه.. ولكن رشحه لخوض انتخابات الوصول لكرسي مرقس الرسول منافسه الأنبا رافائيل.. ووصل ثلاثة إلي المرحلة النهائية من القرعة الهيكلية "الأنبا تواضروس – الأنبا رافائيل – القمص أفامينا".. وقبل عملية الاختبار النهائي.. قال الأنبا تواضروس "نصلي في أماكن متعددة بروح واحدة.. ونشتاق لأن يختار الله إنساناً خادماً لا يعمل بمفرده.. وإنما يعمل في محبة مع كل شعب الكنيسة".
وفي يوم الرابع من نوفمبر 2012 تم إجراء القرعة الهيكلية العلنية.. حيث قام طفل تم اختياره من بين ستمائة طفل بسحب هذه القرعة.. ليخرج اسم الأنبا تواضروس.. في مصادفة عجيبة حيث تم اختياره للكرسي البابوي في يوم ميلاده الرابع من نوفمبر.. وتم تنصيبه بشكل فعلي يوم الثامن عشر من نوفمبر 2012.. وفي كلمته الأولي أكد علي أهمية العمل المشترك بين المسلمين والمسيحيين.. كما امتدح البابا شنودة قائلاً "قدم الخير لمصر وللكنيسة".
وما إن جلس البابا تواضروس علي الكرسي البابوي.. حتي وجد أمامه مجموعة من التحديات الكبيرة.. منها وجود الإخوان علي رأس الحكم في عام الرمادة الذي حكموا فيه مصر.. وتحالفهم مع السلفيين بخطابهم المتشدد.. ومن التحديات وجود بعض القلاقل والتوترات الداخلية.. التي وصلت إلي حد توقيع استمارة تمرد لإبعاد البابا.. ومن التحديات أيضاً المحاولات الأمريكية لاستخدام أقباط مصر كورقة ضغط لصالح تحقيق المصالح الأمريكية.. وهناك أيضاً التحدي الإنساني.. المتمثل في شخصية البابا شنودة.. بكل ما تحمله من كاريزما وتأثير قوي.. بعد أن جلس علي الكرسي البابوي لمدة 41 عاماً.. وقد استطاع البابا تواضروس بحكمته ورصانته نزع فتيل كل تلك الأزمات.. فعن التوترات الداخلية.. والتي بدأت مع متضرري الأحوال الشخصية.. كان البابا تواضروس علي يقين بأن تلك التوترات الداخلية.. ليست السابقة الأولي في الكنيسة المصرية.. حيث شهد العصر الحديث العديد من تلك التوترات.. بدأت مع البابا مكاريوس منتصف الأربعينيات.. والذي استمر علي الكرسي البابوي 11 شهراً فقط.. ورحل عن الدنيا في ظل معارضة شديدة أبعدته إلي الدير.. وجاء خلفه البابا يوساب ليجد معارضة ضارية من مجموعة أطلقوا علي أنفسهم "تنظيم الأمة القبطية".. بقيادة إبراهيم فهمي هلال المحامي.. والذي استطاع في عام 1954 مع مجموعة من أتباعه.. الوصول إلي غرفة نوم البابا.. وإجباره علي التنازل عن الكرسي البابوي.. وأبعدوه إلي الدير.. ولكن الدولة المصرية تدخلت بحسم لفرض الشرعية.. وأعادت البابا يوساب إلي الكرسي البابوي.. وجاء بعده البابا كيرلس السادس الذي تولي الكرسي البابوي "1959 – 1971".. وعاشت الكنيسة المصرية خلال تلك الفترة.. واحدة من أزهي فتراتها.. من خلال العلاقة الشديدة الإنسانية والحميمية.. التي ربطت بين الزعيم جمال عبدالناصر.. والبابا كيرلس السادس.. ثم جاء البابا شنودة الثالث مع بداية حكم الرئيس أنور السادات.. وحدث تنافر شديد بين الرجلين.. وصل إلي ذروته بعزل البابا وإبعاده إلي الدير.. ضمن قرارات سبتمبر 1981 الكارثية.. والتي انتهت باغتيال السادات في السادس من أكتوبر 1981.. ولم يعد البابا شنودة إلا في عام 1985 بقرار من الرئيس حسني مبارك.. لتتحول العلاقة بين الدولة والكنيسة إلي "المؤسسية" بدلاً من الشخصانية إيجاباً وسلباً في عصري ناصر والسادات.
وكانت كل هذه التوترات حاضرة في ذهن البابا تواضروس.. فاستخدم كل رصيده من الحكمة والصبر والتحمل.. وواصل تنفيذ رؤيته الإصلاحية.. تلك الرؤية التي عارضها الحرس القديم.. كما عارضوا توجه البابا للتقارب مع الكنائس الأخري.. ووصلت تلك المعارضة إلي ذروتها.. عندما زار البابا السويد.. وحضر قداساً قادته سيدة "كبيرة الأساقفة".. رغم أن ذلك مرفوض في الأرثوذكسية.. وتواصلت المعارضة ضد توجه البابا تواضروس بالتقارب بين الكنائس وزيارته للفاتيكان.. ورغم كل هذا استطاع البابا من خلال قدرته علي الدراسة المتأنية لكل الأمور.. وإتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.. أن يعبر كل هذه التوترات.. وأن يحقق أهدافه في "لم الشمل".. مما دفع الأقباط لأن يروه "هدية الرب" للكنيسة.. ويراه المسلمون "رجل الوحدة الوطنية" وراعيها.
أما تحدي وجود الإخوان علي رأس الحكم.. فقد تعامل معه البابا بذات الحكمة.. حيث رفض زيارة مرشد الإخوان للكاتدرائية بعد تنصيبه.. ورفض تسييس الكنيسة.. وقال "أناشد كل مسئول أن يتحمل المسئولية.. فتقاعس المسئول عن مسئوليته.. يؤدي إلي اضطراب الأمور".. وأكد البابا علي أن الكنيسة هي المؤسسة الدينية الروحية الرسمية للمواطنين المسيحيين المصريين.. ولكنها لا تمثلهم سياسياً".
وأكد أيضاً علي ضرورة ربط المواطن المسيحي المصري بالوطن والدولة.. وراح يؤكد علي حتمية لم الشمل والحوار مع الشباب.. واستمرار علاقة الأخوة بين المسلمين والمسيحيين.. انطلاقاً من كون الكنيسة مؤسسة روحية أولاً واجتماعية ثانياً.. كما أنها مؤسسة مستقرة ومستقلة عبر العصور.. وهي مخلصة دائماً للوطن.. خاصة وأن مصر وطن ليس له مثيل في العالم.. ويكفي أن أرضه مقدسة.. ولا يضارعه أي وطن في العالم.. كما أن شعب مصر طيب ومتدين.. وعاش المصريون طوال تاريخهم يجمعهم الحب والرخاء.
وينظر البابا تواضروس إلي الحراك الشعبي في 25 يناير 2011 نظرة إيجابية ويقول عنه "البداية كانت جيدة.. ثم انحرفت عن أهدافها.. ولم يعد أصحابها الأصليون موجودين".. ولذلك كان متعاطفاً مع الحراك الشعبي ضد حكم الإخوان.. وقال مساء 30 يونيه في قناة مار مرقس القبطية "أنا في الدير أصلي من أجل مصر.. وأولادنا الموجودون في الشارع يعبرون عن رأيهم للخروج من هذه الأزمة".. وعندما نجح الحراك الشعبي في الإطاحة بحكم الإخوان.. كان البابا تواضروس مع الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر.. من أهم الركائز التي انطلق منها وزير الدفاع في ذلك الوقت الفريق عبدالفتاح السيسي.. وهو يخاطب المصريين مساء الثالث من يوليو 2013.
أما عن تحدي تفويت الفرصة علي الأمريكان.. في استخدام أقباط مصر كورقة لتحقيق مصالحهم.. فقد زارت السفيرة الأمريكية في مصر آن باترسون البابا تواضروس يوم 17 يونيه 2013.. وتردد أن الزيارة كانت للضغط علي البابا لعدم خروج الأقباط يوم 30 يونيه.. حتي لا يسقط حكم الإخوان.. فأبدي البابا تحفظه علي سياسة أمريكا في المنطقة العربية.. ورفض أن تكون الهموم القبطية مخلب قط للأمريكان.. وقال للسفيرة بشكل واضح "إنها قضايانا وهمومنا نحلها معاً مسلمين وأقباط".. ولاحظ الجميع أن البابا لم يقم بتوديع السفيرة عند باب المقر البابوي.. واكتفي بأن يودعها سكرتيره لأقباط المهجر.. ولم تصدر الكنيسة أي بيان عن الزيارة.
وبعد 30 يونيه زار وفد من الكونجرس البابا تواضروس.. وحاولوا اللعب بورقة اعتداء الإرهابيين.. علي بعض الكنائس.. فقال لهم "كنائسنا ثمن بسيط للديمقراطية وحرية مصر.. وكشف نفاق الأمريكان.. وأنهم عبيد مصالحهم وقال "في الماضي كانوا يستخدمون الهجوم مثلاً عمل كنيسة واحدة لتضخيم الموضوع بشكل كبير.. أما الآن فلم نسمع لهم صوتاً أمام حريق عدة كنائس".
وبعد أن اعتدي الإرهابيون علي بعض الكنائس.. كانت مواقف الباب تواضروس شديدة الوطنية والحكمة.. حيث قال عدد من المقولات شديدة الأهمية مثل "وطن بلا كنائس.. أفضل كثيراً من كنائس بلا وطن". و "الكنائس يمكن تعويضها.. أما البشر وهدر الدماء لا يمكن أن ننساق للتضحية بها" و"الأوطان أبقي من الكنائس.. والكنيسة مؤسسة من مؤسسات الوطن وأمينة عليه".
ونفي البابا وجود أي اضطهاد للأقباط في مصر.. إلا من بعض الأحداث الفردية كما حدث في السبعينات من القرن الماضي لأسباب مجتمعية وسياسية ناتجة عن ضعف القانون.. وعدم حسم الدولة.. وقلة الوعي.. وعدم ضبط الخطاب الديني.. وطوال الوقت يؤكد علي أن الكنيسة المصرية كنيسة وطنية خالصة تحرس الوطن.. وتنظر إلي صالحه.. وتنشر محبته وهي الكنيسة الأم بين كل كنائس الدنيا ويعلن البابا أنه ضد أي تدخل خارجي في شئوننا الداخلية.. ويؤكد أن الأقباط يحتمون بالله وبأخوتهم المسلمين ويؤكد البابا تواضروس أن الكنيسة المصرية تمتلك ثلاثة أهرامات تاريخية.. شديدة الأهمية.. تجعلها الأبرز بين كل كنائس العالم وهي:-
أولاً: اللاهوت. فمصر هي من علمت العالم اللاهوت واستقامة الإيمان المسيحي.. ومدرسة الإسكندرية اللاهوتية.. أول مدرسة علمت اللاهوت للعالم.
ثانياً: الاستشهاد فالكنيسة المصرية مرت بأنواع كثيرة من الاستشهاد وقدمت شهداء عددهم يفوق الشهداء المسيحيين في العالم كله ومن هؤلاء الشهداء "مارمينا العجايبي – القديسة دميانة – إلخ".
ثالثاً: الرهبنة أول راهب نشأ علي أرض مصر هو الأنبا أنطونيوس الكبير.. وله دير مشهور في مدينة بني سويف.. ومن مصر انتشرت الرهبنة والأديرة في كل العالم.
كما أن لقب بابا مأخوذ من صعيد مصر.. حيث ينادي الابن علي الأب "آبا".. وعلي الأم "أما".. واستخدم لقب البابا في مصر أولاً.. ثم انتقل إلي روما.. وعلي مدي السنوات الماضية.. واصل البابا تواضروس نهجه الإصلاحي المستنير.. ذلك النهج الذي بدأ مع البابا كيرلس الرابع.. الذي جلس علي الكرسي البابوي في الفترة "1854 – 1861".. ويلقب بـ "أبوالإصلاح".. حيث أدخل المطبعة إلي الكنيسة.. وأسس مدارس لتعليم الأولاد والبنات.. وله نظرة إيجابية جداً تجاه المرأة.
وهذا النهج الإصلاحي.. هو الذي جعل البابا تواضروس يؤكد علي أن غياب الثقافة مع وجود تلوث الفكر.. يؤديان إلي انحراف البعض في التعامل مع الآخر.. ولذلك يدعو دوماً إلي الاهتمام بالتعليم والثقافة والإعلام لأن مسئولياتها أكبر من باقي المؤسسات.. ويري أن أهم شخص في تلك المعادلة هو مدرس الابتدائي.. لأنه يتعامل مع المادة الخام للإنسان.. ويطالب البابا بوجود منهج مشترك يتم تدريسه في المرحلة الابتدائية.. ليقدم لهؤلاء الأطفال المشتركات بين الإسلام والمسيحية.. ويؤكد علي أن الاستثمار في البشر أهم أنواع الاستثمار ومن هذا المنطلق عمل البابا تواضروس طوال الوقت.. علي إيجاد فهم أرحب للآيات المقدسة.. وفهم أكثر سعة لمصالح الناس.. ويعرف قيمة وحجم ومسئولية كونه بابا المصريين.. ويؤكد دوماً علي أنه رجل صلاة وليس رجل سياسة.
وتتعدي مسئولية البابا تواضروس حدود مصر.. إلي عشرات الدول الأخري.. فقد نجح سلفه البابا شنودة أن يتوسع بالكنيسة المصرية أفقياً.. ليصل بها إلي كل قارات العالم.. من خلال إنشاء العديد من الكنائس التابعة للكنيسة المصرية.. التي أصبحت موجودة في 60 دولة.. والأقباط منتشرون في 100 دولة.. وتلك المسئولية تجعله متعدد المهام "الرعوي – الوطني – الروحي – الاجتماعي – الإنساني".. ويساعد البابا في ذلك أن كنيستنا المصرية "مجمعية" وليست "باباوية".. بمعني أن القرار جماعي.. ويشارك البابا في إصدار القرار ويساعده في عمله "المجمع المقدس – المجلس الملي – الأوقاف".. ويؤكد البابا تواضروس علي أن نجاح العمل يحتاج إلي الإدارة المستنيرة واللوائح الواضحة.. والإدارة الناجحة لا تتعارض أبداً مع الديمقراطية.. وإذا حدثت أي مشكلات مع بعض المؤسسات.. فقنوات الاتصال بين الكنيسة والدولة قادرة علي حل تلك المشكلات في أسرع وقت.. وعلي المستوي الإنساني البابا تواضروس شخصية عشرية وابن بلد.. يعرف حقوق الجيرة والعشرة وصلة الرحم والأقارب.. وله العديد من العظات الروحية والكتابات.. التي تنم عن ثقافة واسعة.. واطلاع متعمق.. ومثل هذه السجايا تجعله يدرس كل الأمور بدقة شديدة.. قبل اتخاذ أي قرار.. ليختار مصلحة الوطن قبل أي شىء.. ويردد دوماً "أنا مواطن مصري.. أعشق تراب بلدي.. وأخدمها في أي مكان.. وأدرك حجم مسئوليتي جيداً".. ويؤكد دوماً أن التنوع قوة وثراء.. فالشكل الواحد فقر.. والحياة الإنسانية لا تقبل الشكل الواحد.. ونحن كمصريين لا نقبل أيضاً الشكل الواحد.. ومن هذا المنطلق يحرص البابا تواضروس بشكل دائم.. علي التواصل مع الإمام الأكبر د. أحمد الطيب.. ومع مؤسسة الأزهر الشريف للعمل معاً علي خدمة مصر.. ومواجهة التحديات التي تواجه المجتمع.. فالمسيحيون والمسلمون متجذرون في هذا الوطن.. يعشقونه ويحرصون علي التمسك بكل قواعد الانتماء.
ويتمتع البابا تواضروس منذ طفولته بروح المبدع.. ورؤية الفنان.. ويمتلك دوماً النظرة المستقبلية.. ساعده علي كل هذا عشقه للثقافة بمفهومها الموسوعي والشامل.. مما جعله ينتقل من القراءة إلي الكتابة.. حيث أصدر العديد من الكتب.. جزء كبير منها صدر قبل أن يجلس علي الكرسي البابوي.. وتنوعت هذه الكتب ما بين النظر في الكتاب المقدس.. والحياة الروحية.. والفنون الكتابية المختلفة.. وبعضها عن الخدمة والخادم الروحي والقراءات الكنسية.. ومن هذه الكتب "هذا إيماني – ليس بالخبز وحده - كل ما يصنعه ينجح فيه – مختصر تعليمي لأسبوع الآلام – خطوات – يوميات الفرح – الكتاب المقدس أعظم وثيقة جمالية – أسبوع الآلام "كتابياً – كنسياً – روحياً" – الحياة ثلاثيات – المنجلية القبطية الأرثوذكسية – مقالات وعظات ديرية – حياة الرضا والسعادة – منهج الحب في الحياة الروحية – علي أصابع اليد الواحدة – كرامة الكهنوت – لآلئ الحياة" وهناك سلسلة بعنوان "درس من عظة".. مأخوذة من عظاته بعد أن جلس علي الكرسي البابوي.
وحظيت بعض تلك الكتب بالترجمة إلي اللغات الأخري.. مثل هذا إيمان الذي ترجم إلي الإنجليزية.. وكل ما يصنعه ينجح فيه.. الذي ترجم إلي اللغة الألمانية.
وتقدم مسيرة حياة البابا تواضروس الثاني.. نموذجاً مبهراً لكل الشباب.. فهو الشاب المتفوق.. الذي يتحمل مسئولية أسرته بعد رحيل والده.. وينجح في كلية الصيدلة بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف.. ويلتحق بمصنع الأدوية.. ويترقي بجهده وعرقه ليصبح أحد مديري هذا المصنع.. ثم يقرر "ترك" كل هذا والذهاب إلي الدير.. إنه "زهد القادرين".. ومن خلال مسئولياته كراهب.. يعمل بجد وإخلاص لخدمة المجتمع.. يقرأ ويكتب.. ويقدم عصارة فكرة لخدمة الإنسان.. ولكل ذلك كان لابد وأن يكون له من اسمه نصيب تواضروس.. التي تعني عطية الله.. فقد اختارته العناية الإلهية.. وأعطته تلك المكانة الرفيعة الراقية.. تلك المكانة التي زادته تواضعاً.. وعشقاً لهذا الوطن العظيم وحرصاً علي هويته المتفردة.