أنهى ضيوف الرحمن من شتى بقاع الأرض وصولهم إلى الأراضي المقدسة استعدادًا لبدء أداء مناسك الحج خلال ساعات، والتي ستبدأ في يوم الثامن من ذي الحجة يوم التروية، وتتوزع مناسك الحج على الأيام بداية من يوم التروية حتى أيام التشريق.
مناسك الحج
وتبدأ مناسك الحج بالإحرام، فإذا كان الحاج تحلل من الإحرام بعد العمرة وأراد الحج فعليه في يوم 8 من شهر ذي الحِجَّة ويُسمَّى "يومَ التروية" أن يستعد للإحرام بالحجِّ؛ فيلبس ملابس الإحرام على طهارة، ثم يصلِّي ركعتين بالمسجد الحرام إنِ استطاعَ، وينوِي الحجَّ، ويقُول: اللهم إني أردتُ الحج فيَسِّرْه لي وتَقبَّلْه مني، ثم يردد ألفاظ التلبية المعروفة، ومتى قال ذلك -بعد تلك النية- صار مُحرِمًا بالحج.
ويظل يردِّدْ ألفاظ التلبية (لبيك اللهم لبيك...) في المناسك كلها، وسواء في السَيرِ أو الوقوف والجلوس فيما تبلي المرأة في سِرِّها، ولا تقطعها حتى تبدأ في رَميِ جمرة العقبة.
وفي يوم التروية يتوجه الحجاج للمبيت في منى، استعدادًا لتصعيدهم يوم التاسع إلى صعيد عرفات، اقتداء بسنة المصطفى "صلى الله عليه وسلم"، وقالت دار الإفتاء إن ما عليه الفتوى أن المَبيت بمنى ليلةَ عرفةَ مستحب وليس واجبًا، فيجوز للحاج أن يخرج يوم الترويةِ إلى مِنى فيُصلي بها الظهر، ويبيت ليلتَه حتى يُصلِّي فجرَ يوم عرفة، كما يجوز له أن يحرم بالحج من مكان الإقامة، ثم يذهب من مكة إلى عرفةَ مباشرةً.
مناسك الحج بالترتيب والشرح
والوقوف بعرفة هو الركنُ الأعظمُ للحج؛ كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» فمن فاته الوقوف فقد فاته الحج، ويبدأ وقتُ الوقوف بعرفة مِن طلوع فجر اليوم التاسع عند الحنابلة، ومِن زوال شمس يوم التاسع قُبيل الظهر عند الأئمة الثلاثة، ويستمرُّ وقتُ الوقوف إلى طلوع فجر يوم النحر؛ يوم العاشر من ذي الحِجَّة.
وقالت دار الإفتاء إن أقلُّ الوقت الذي يكون به الحاج مُدرِكًا للوقوفِ بعرفةَ هو أن يُدرِك فيها لحظةً في وقت الوقوف، والأفضل الجمع بين جزءٍ من النهارِ في آخره وأولِ جزءٍ من ليلة العاشر منه، أي: قُبيل غروب شمس يوم التاسع إلى ما بعد الغروب بقليل، فإن أفاض قبل غروب الشمس، أو لم يُدرك إلا لحظةً مِن الليل فلا شيء عليه.
وعن الوقوف بعرفة يحسُن للحاج أن يكون على طهارةٍ عند الوقوف بعرفة، وأفضل الدعاء حينها ما جاء في الحديث الشريف: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» أخرجه الترمذي.
ويجوز شرعًا للحاج أن يصلي الظهر والعصر مع الإمام في مسجد نمرة في يوم عرفة جمعًا في وقت الظهر وقَصْرًا أي: ركعتين لكل منهما، دون الفصل بينهما بنافلة، فإن لم يستطع ذلك فيجوز له أن يصليهما في مكان الإقامة كلًّا منهما في وقتها، أو جَمع تقديم في وقت الظهر، وعقب غروب الشمس يتوجَّه إلى مزدلفة.
النفرة إلى مزدلفة
بعد أداء الوقوف بعرفة، يتوجه الحجاج إلى مزدلفة وبها يصلي المغرب والعشاء جمعَ تأخير في وقت العشاء، ويجوز شرعًا أن يبِيت بمزدلفة، ثم يتوجه إلى منى، إن استطاع، حسبما قالت دار الإفتاء، وإن لم يستطع المبيت لا فِديةَ عليه، خصوصًا إذا كانَ صاحب عُذرٍ في ذلك.
ويتحقق المَبيت بمزدلفة بالمكث فيها مدةً تزيد على قدر وضع الحقائب وصلاة المغرب والعشاء وتناول شيء من الطعام في أيِّ وقت من الليل دون التقيُّد بمجاوزة نصفه، على مذهب المالكية، وهو المختار للفتوى، ومزدلفة كلها موقف، وهي المشعر الحرام، فأكثِر فيها من الذكر والدعاء.
ويستحب للحاج أن يجمع - من أرض مزدلفة أو من الطريق- الحصيات السبع التي سيرمي بها جمرة العقبة صباح يوم النحر بمِنى، ثم يلتقط في كل يوم من أيام التشريق 21 حصاة من منى أو عرفة أو من أي مكان.
ونبهت دار الإفتاء إنه ينبغي للحاج وهو يجمع حصيات الرمي ألا يعَرِّض نفسَه للخطر بالصعود إلى المناطق العالية من الجبال، وأن يحرص على عدم الانتشار الواسع في أرض مزدلفة، كما يصلِّي المغرب والعشاء جمعَ تأخير مع قصر عدد ركعات العشاء فقط، ويتجنب حافلات الأفواج بعد النزول بمزدلفة، ويسرع بجمع الحصى، وكذلك يتجنب الزحام الشديد الذي يكون مع إفاضة الحجيج إلى منى، ويحذر من التحرُّك على الصخور غير المستقرَّة لضمان السلامة.
وحصيات الرمي سبع حصيات كل واحدة منها في حجم حبة الفول، ويجوز للحاج أن يجمعها من أيِّ مكان غير مزدلفة، وله أن يجمع كل حصيات الرمي في الأيام الثلاثة ومجموعها 49 حصاة: سبع منها لجمرة العقبة يوم النحر، و21 للجمرات الثلاث في ثاني أيام العيد ومثلها في ثالث أيامه، ومن بقي بمنى إلى رابع أيام العيد فعليه رمي الجمرات الثلاث كل واحدة بسبع حصيات كما فعل في اليومين الثاني والثالث وبذلك يكون عدد الحصيات في حق من لم يتعجل سبعين حصاة.
رمي جمرة العقبة الكبرى
وفي يوم النحر، وهو أول أيام عيد الأضحى المبارك، يتوجه الحاج بعد المبيت وصلاة الفجر بالمزدلفة إلى جمرة العقبة بمنى وفيها يرمي جمرة العقبة الكبرى، بالحصيات السبع، واحدة بعد الأخرى على التوالي، ويبدأ وقتُ رمي جمرة العقبة الكبرى مِن منتصف ليلة النحر أو من طلوع فجر يوم النحر، ويمتد إلى آخر يومٍ مِن أيام التشريق، والوقت المستحبُّ لرَميها يبدأ مِن طلوع الشمس إلى زوالها ظُهْرَ يوم النحر 10 مِن ذي الحجة.
فيما قالت دار الإفتاء إنه يجوز للحاج أن يؤجل رمي جمرة العقبة الكبرى لآخر نهار يوم النحر ولا يجوز له الرمي بالحجارة الكبيرة أو العصي أو الزجاج أو غير ذلك كما يفعل بعض الناس، وإذا عجز الحاج عن الرمي بنفسه فيجوز له شرعًا أن يُنيبَ مَن يرمي بَدَلًا منه، سواء كان حاجًّا أو غير حاج، فإذا كان النائب عنه يؤدِّي المناسك فيجب أن يرميَ عن نفسه أولًا ثم يرميَ عَمَّن ينوب عنه، أو يرمي واحدة لنفسه والأخرى لمن أنابه وهكذا، ويجوز أن يُنيب الإنسانُ غيرَه في الجمرات الثلاث كلها أو بعضها.
وبعد رمي جمرة العقبة الكبرى يحلق الحاجُّ رأسَه أو يُقصِّر من شعره، وتُقصِّر المرأة الحاجَّةُ من أطراف شعرها، ولا تحلق، وبذلك يتحقق التحلُّل من إحرام الحج ويحل ما كان محرمًا ما عدا المباشرة بين الزوجين؛ فإن هذا لا يحل إلا بعد طواف الإفاضة.
طوافُ الإفاضة
وبعد رمي جمرة العقبة والتحلُّل -بالحلق أو التقصير- يذهب الحاج إلى مكة للطواف بالكعبة سبعة أشواط هي طواف الفرض، ويُسمَّى طواف الإفاضة، ثم يصلي ركعتين في مقام إبراهيم، ويشرب من ماء زمزم، ويسعى بين الصفا والمروة إن كان قد أخر ذلك إلى ما بعد طواف الإفاضة.
وقالت الإفتاء إنه لا مانع شرعًا من اتباع الحاج للفوج المرافق إذا بادر بالذهاب من المزدلفة إلى مكة ليلًا حتى يؤدِّي طوافَ الإفاضة والسعي، ثم يتحلَّل التحلُّل الأصغر بمكة، ويبيت بمكة ليلة النحر (أول أيام العيد، 10 من ذي الحجة)، وما يترتب على ذلك من عدم الوقوف بالمشعر الحرام صباح يوم النحر، لا حرج فيه ولا فدية؛ فالمعتمَد في الفتوى أن الوقوف بالمشعر الحرام سُنَّةٌ ولا شيء على مَن فاته.
ورمي الجمرة والحلق أو التقصير والطواف، هذه الثلاث إذا فعل المُحْرِمُ منها اثنين كان مُتَحَلِّلًا تَحَلُّلًا أصغر، فيحلّ له كل شيء من محظورات الإحرام إلا النساء، فإذا أتى بالثالث منها كان مُتَحَلِّلًا التَّحَلُّل الأكبر فيحلّ له النساء أيضًا، فلو رمى الجمرة وحلق أو قصر، جاز له أن يلبس ما يشاء من المباح وأن يتعطر، وأن يطوف بمكة بهذه الهيئة.
رمي الجمرات في أيام التشريق
وبعد الطواف يتوجه الحاج مرة أخرى للمبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر، وكذلك الثالث عشر إن شاء، والمبيت بمنى أيام التشريق سنة ليس واجبًا عند جماعة من الفقهاء كالسادة الحنفية، وهو قول للإمام أحمد وقول للإمام الشافعي، بناء على أنَّ المبيت ليس مقصودًا في نفسه، بل مشروعيته لمعنى معقول، وهو الرفق بالحاجّ؛ بجعله أقرب لمكان الرمي في غده، فهو مشروع لغيره لا لذاته، وما كان كذلك فالشأن فيه ألا يكون واجبًا، وعليه فمن احتاج أن يكون بمكة ليلًا أو حتى جدة فلا بأس بتقليد من لم يوجب المبيت.
والمطلوب فعله أيام التشريق هو رمي الجمرات الثلاث، كل واحدة بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، يبدأ بالأولى وهي أبعدهن عن مكة، ويقف بعد رمي الجمرة الأولى والوسطى يدعو اللَّه مُسْتَقْبِلًا القبلة، ولا يقف بعد رمي الأخيرة.
ويجوز رمي الجمرات قبل الزوال وبعده، كما هو مذهب طائفة من السلف والخلف.
يجوز للحاج بعد طواف الإفاضة أن يعُود إلى منى في نفس اليوم، ويبِيت فيها ليلةَ 11، و12 من ذي الحجة، ويجوز له أن يبقَى في مكة ثم يتم الليلة بمنى، كما يجوز أن يستمر في منى ويتم الليل بمكة.
إذا لم يستطع الحاج أن يبيت بمنى لعذرٍ كعدم وجود مكان للمبيت أو بسبب المشقة أو استعجال العودة إلى الوطن؛ فالمختار للفتوى بناء على رأي السادة الحنفية ترك المبيت بمنى لأنه سنة ولا فِدية عليه، ولكن يلزمه أن يحضر إليها لرمي الجمرات إذا لم يوكل غيره بالرمي عنه.
أماكن رمي الجمرات
الجمرات الثلاث هي الصُّغرَى وهي القريبة من مسجد الخيف والوُسطَى وهي التي تليها وعلى مقربة منها والعَقَبة وهي الأخيرة.
ويرمي الحاج الجمرات الثلاث (الصغرى، والوسطى، والعقبة) في كلٍّ مِن يومَي الثاني والثالث من أيام العيد، كل واحدة بسبع حصيات، سواء قبل الزوال أو بعده، وهذا ما عليه الفتوى، وبعدها تنتهي مناسك الحج.
من السنَّة أن يقف في أيام الرمي كل يوم عند الجمرة الأولى إذا رماها، ويستقبل الكعبة، ويحمَد الله تعالى، ويُكبِّر، ويُهلِّل، ويُسبِّح، ويدعو، ويَمكث كذلك قدرَ قراءة سورة البقرة، ويفعل في الجمرة الثانية وهي الوسطى كذلك، ولا يقف عند الثالثة، وهي جمرة العقبة.
يجوز شرعًا للحاج أن يبيت بمنى ليلة (11 من ذي الحجة)، ثم يرمي جمرات أول يومٍ من أيام التشريق، وبعد منتصف ليلة (12 من ذي الحجة)، يرمي جمرات اليوم الثاني، والثالث من أيام العيد، ثم يغادر إلى مكة في نفس الليلة.
طواف الوداع
طواف الوداع هو آخر ما يفعله الحاجُّ قُبيل سفره من مكة بعد انتهاء المناسك، فهو بمنزلة توديع للبيت الحرام، عليه الفتوى أنه سُنَّة، فإذا أراد الحاج السفر بعده فورًا سافر ولا حرج عليه.
محظورات الإحرام
ويجوز للمُحرِم أن يلبس النظارة وساعة اليد والخاتم المباح، وأن يشدَّ على وسطه الحزام ونحوَه، كما يجوز للمرأة أن تلبس الحلي المعتادة والحرير والجوارب وما تشاء من ألوانٍ دون تبرُّج، وإن كان الأَولى البُعد عن الألوان اللافتة والزينة.
أما محظورات الحج للرجال، تشمل لبس المَخيط المفصَّل على البدن والثياب التي تحيط به وتستمسك بنفسها ولو لم تكن بها خياطة، كالجوارب والفانلات، كما يحظر له قتل الصيد- كتقليم الأظفار، أو التطيب والنساء.
ومن ارتكب محظورًا من محظورات الإحرام -غير الوطء، فالواجب فيه على التخيير: صوم ثلاثة أيام في أي مكان شاء، أو التصدق بـــ 7.5 كجم تقريبًا من طعام على ستة مساكين في أي مكان شاء، كما هو مذهب الحنفية والمالكية، أو ذبح شاة في أي مكان شاء.