السبت 28 سبتمبر 2024

قصص دار الهلال النادرة.. «حديث في الظلام» قصة قصيرة لـ غبريال وهبة

حديث في الظلام قصة قصيرة لـ غبريال وهبة

ثقافة18-6-2024 | 13:22

بيمن خليل

يذخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتّابًا بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة دار الهلال، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.

نشرت مجلة الهلال في عددها الصادر في 1 مايو 1972، قصة قصيرة بعنوان «حديث في الظلام» للكاتب غبريال وهبة، تتناول القصة حياة رجل يشعر بأن زوجته صارت تكرهه، وأنه بعد مرور سنوات من الزواج توترت علاقتهما ولم تعد كما كانت من قبل، فيلجأ إلى طرق أخرى ليتجاوز هذه الضائقة.

نص القصة:

أدار المفتاح في ثقب الباب ودلف إلى الداخل وراحت يده تتحسس مفتاح الضوء.. إلا أنه وقف مترددا بضع ثوان وقد حبس أنفاسه ثم أسرع ثانية إلى الباب وأطل برأسه إلى الخارج، وقال:

- ادخلی با حبيبتي.. فلا يوجد غيري في الشقة.

ثم قفل الباب قائلا:

- لقد قلت لك أن فريال قد خرجت مع إحدى صديقاتها، ولو لم تأت معي اليوم، لكان عليّ أن أمضي هذا المساء وحيدا.. لقد طفح بي الكيل، ولم أعد أحتمل أكثر من ذلك.. إنني سأضيء النور فيما بعد.. أن المرء يجيد الحديث في الظلام، ولدي الكثير عن فريال لأقصه عليك وأفضل ألا تري وجهي، تعالي ودعينا نجلس.. اعطني يدك، وارتمي فوق الأريكة المجاورة لحجرة النوم متعبا مكدودا.. ثم قال بحزن:

- أخشى أن أضايقك.. ولكني أكاد أجن.

لقد برح بي الأسى ورأسي يكاد ينفجر.. وأشعر كان مطارق بخارية ضخمة تهوى فوقه تكاد تحطمه.. ويجب أن أتحدث هذه الليلة إلى شخص ما.. وعهدي بك دائما أنك تحسنين الإصغاء، ولا داعي لأن تتفوهي بكلمة واحدة، كل ما أرجوه منك أن تنسي جميع ما ستسمعينه، ويمكنك تصور حالتي کشخص يعاني من إعياء شديد من طول مكافحته للأمواج، وقد اكتنفته دوامة هائلة مسعورة، وأطبقت عليه من كل جانب، فطوته في أعماقها السحيقة، والفينة بعد الفينة تراه يطفو على السطح خائر القوى يتلمس النجاة مذعورا.

مرت لحظة سكن فيها صوته العميق، ثم استأنف حديثه في الظلام:

- كانت مفاجأة سارة لي عندما رأيتك أول مرة.. لقد حضرت لزيارتكم يوم وقفة عيد الفطر الماصي.. كم كنت رائعة وأنت ترتدين "البيجاما" وقد انحنيت فوق قطع الأثاث تنظفينها، وفجأة وقع بصرك عليّ وأنا أقف داخل حجرة الاستقبال بعد أن اجتزت بابها المطل على الحديقة.. فحييتك.. ودعيني أستعد ما دار بيننا من حديث وأعيد على مسامعك كلماتك العذبة التي صرت أحفظها عن ظهر قلب.. لقد ابتدرتك سائلا :

- هل حضرتك الدكتورة هدى؟

فهززت راسك بالنفي.. فسألتك مندهشا:

- إذن من تكونين؟

- إنني شقيقتها.

فزادت دهشتي لأنني كنت أظن أن والدتك لم ترزق سوى ابنة واحدة.. ثم قلت لك:

- حقا.. هذه أول مرة أراك فيها.. وأين الدكتورة هدى؟

- لقد تزوجت

- عقبالك..

- أشكرك!

-ثم أردفت قائلة:

-إنك لم تقل لي حتى الآن من حضرتك؟

-إنني قريبك.

-ولكنني لم أتشرف بمعرفتك قبل الآن.

- هذا لأنني لم أزركم منذ حوالي عشرين عاما.. لأن عملي كان خارج القاهرة.. وقد نقلت حديثا إلى العاصمة وكنت اليوم في مهمة رسمية في المعصرة فأتيت لتحية والدك الذي يعتبر من الرواد الأوائل لهذه الضاحية .

- وما هي وظيفة حضرتك؟

- سأترك ذلك لتقديرك

- حضرتك طيار؟

وهنا قلت لك باستغراب :

- كيف أكون طيارا وأنا أرتدي منظارا؟

- هذا لا يمنع..

- على أية حال فهذا يطمئنني على أنني مازلت شابا، وبصحة جيدة.

ثم سألتك :

- أنك لم تقولي لي إذن لم أصلح؟

- تصلح لكل شيء.

- أنك تزيدينني ثقة بنفسي.

- حضرتك مدرس؟

- كلا إنني مفتش

- مواد اجتماعية؟

- كلا.. إنني مفتش تموين

- حضرتك متخرج في أية كلية؟

- كلية الزراعة.

-إنني أميل إلى العلوم الزراعية

- وماذا تعملين؟

- أنا مدرسة علم نفس بمعاهد المعلمات .

- ماشاء الله

وسكت لحظة ازدردت فيها ريقي.. ثم استطردت قائلا:

- وهنا استأذنت مني لفترة وجيزة قدمت لي بعدها فنجانا من الشاي.. وبعد أن ارتشفته أخبرتني بمرض والدتك وأنها تطلب رؤيتي.. فقدتني إلى حجرتها، حيث رحب بي والدك أيما ترحيب.. ولا أطيل عليك الحديث، فقد تزاورنا عدة مرات بعد ذلك.

إنني أشعر دائما بارتياح في صحبتك وقد صرت بالنسبة لي كطوق النجاة بالنسبة للغريق، وسأقص عليكِ الآن ما أنوء بحمله، أنها طبعا فريال.. التي يجب أن أتعود من الآن فصاعدا عدم ذكر اسمها.. أتعلمین یا عزیزتي، أنه من أشق الأمور على المرء، عندما يكون متزوجا لمدة طويلة، أن يقرر عدم رؤية زوجته ثانية.. وأنها ستصبح شخصا غريبا عنه إذا ما التقيا وجها لوجه؟!

نشأت في أسرة محافظة، لم تكن تزور أو تزار إلا نادرا، وما أن تخرجت في الجامعة وعينت بوزارة التموين حتى فاتحت والدتي لتخطب لي ابنة الجيران.. التي لم يكن أمامي سواها، كانت في مستهل زواجي بها طيبة القلب، تكن لي كل تقدير واحترام.. وأظهرت لي شتى صنوف الحب، ولكنها للأسف وبعد عشرة دامت عشر سنوات، قلبت لي ظهر المجن.. اختلطت ببعض العاطلات بالوراثة فأدمنت السهر خارج المنزل، وأصبحت لا أراها إلا لماما، فشعرت بفراغ كبير ملأته بالدراسة بدلا من الجلوس في المقاهي.. کافحت كثيرا حتى نلت درجة الماجستير في مقاومة الآفات الزراعية، ثم ليسانس اللغة الإيطالية من القسم المسائي بمدرسة الألسن العليا .

توقعت أن أزداد قدرا في عيني فريال.. وأن تغمرني بحنانها وتشجيعها، ولكن خاب ظني.. إذ زاد تبرمها بالحياة معي، وأصبحت مسرفة اسرافا بلغ درجة السفه، مما أرهقني وأثقل كاهلي، وجعلني دائم الاستدانة لتلبية طلباتها.. فقد كنت لا أدخر وسعا لإرضائها وياليت الأمر اقتصر على ذلك، بل أنها كانت في كل مرة أعود فيها متأخرا من معمل بحوثي بالكلية تعتقد أنني أخدعها، فحولت حياتي الى جحيم لا يطاق بشكها الدائم..

والأدهى من ذلك أنها تتحدث في هذا الأمر مع صويحباتها وأقاربها مما جعلني مضغة في أفواه الناس، أنها تغار منك بالذات غيرة عمياء.. ولم تدرك أبدا أنها كانت الشخص الوحيد في هذا العالم الذي أحببته بإخلاص.. إنني آسف يا كيكي.. ولا أقصد اغضابك.. وإني لا أنسى أنك ساعدتي في محنتي كصديقة عزيزة، والآن قد انتصرت.. فريال انتهت من حياتي، وأمست كأني لم أكن أعرفها، إن ذكرياتي عنها قد تلاشت بعد حديثي معك كما يتلاشى الدخان الذي يلفظه القطار من جوفه..

**

ومرة أخرى توقف برهة وقد أصاغ السمع كأنما ينصت لشيء ما.. ثم استطرد قائلا:

- أنني سأكف من التفكير فيها اطلاقا.. وإني أعلم یا کیکي أن استماعك إليّ ليس بالشيء السار، ولكنني فرغت الآن من قصتي ودعينا نتحدث عن أنفسنا يا حبيبتي فليس من الحكمة أن ترثي حبا ميتا.

كيكي.. اقتربي مني.. إنه لنبل منك أنك ساعدتني على نسيان فريال تماما.. أليس كذلك؟ ومع هذا فإن فريال تسمعنا الآن، وأرجو أن تسمع كل كلمة.. أنت لا تصدقينني، إنني أؤكد لك أنها تقف خلف باب حجرة النوم وتسترق السمع لكل كلمة نتفوه بها.. انصتي جيدا يا حبيبتي.. أتسمعين وقع أقدامها؟ لا ريب أن فريال كانت في حجرة النوم قبل مجيئنا وقبعت داخلها عندما أحست بنا.. أنها تعرف الآن كل شيء.. وقطعا ستغادر المنزل غاضبة طالبة الطلاق.. وسيصبح العالم لنا وحدنا نرتشف فيه كؤوس الحب والسعادة.

***

وفجأة سطع الضوء وغمر الردهة، كأن يدا سحرية أدارت مفتاح النور.. وسقط شعاع ضوئي، انبعث من الثريا المدلاة من السقف على وجه منير الذي التفت ناحية زوجته

مبتسما:

- مساء الخير یا فیفي!

فصاحت فريال من خلال دموعها وقد اختنق صوتها من الغضب:

- إياك أن تنطق باسمي على لسانك.. بعد أن ضبطتك أخيرا أيها الخائن! ثم صرخت في وجهه وهي ترتجف انفعالا:

- أين هي.. أين أخفيتها؟

فأجابها منير في هدوء وقد تصنع الدهشة:

-أين.. مَن؟ أوه.. أتقصدين كاميليا؟!

أغلب الظن أنها في منزلها.. وأنت يا زوجتي العزيزة، لا تسرعي بمغادرة المنزل غاضبة لأنني كنت أتحدث الحوار الذي يدور في مع نفسي، كنت أردد القصة التي سأبعث بها إلى المجلة...

اندفعت فريال صوب التليفون ورفعت سماعته وأدارت القرص في لهفة

- آلو !

- هل الأستاذة كاميليا موجودة ؟

- نعم.

-من حضرتك ؟

- أنني الشغالة يا سيدتي.

- أأستطيع أن أحادثها؟

- أنها نائمة.. فهل أوقظها ؟

- .......

- آلو.. آلو..

وضعت فريال السماعة في عجلة، وأسرعت إلى زوجها وطوقت عنقه بذراعيها ودفنت رأسها في صدره، وانفجرت باكية.. حاولت أن تعتذر فخرجت الكلمات من فمها متعثرة... وارتفع نشيجها.. فاحتضنها بقوة وأسكتها بقبلة طويلة...