السبت 25 مايو 2024

أحمد شوقى بك.. أمير الشعراء

19-1-2017 | 11:49

بقلم – عادل سعد
 

لما حضر الموت الفطحل الكبيرالشاعرالحطيئة قال: «الشعر صعب وطويلُ سلّمه، إذا ارتقى فيه الذى لا يعلمه زلت به إلى الحضيض قدمه،والشعر لا يستطيعهُ من يظلمه.يريد أن يعربهُ فيعجمه .. وقال البحترى من بعده: «الشعراء أربعة: شاعرُ يجرى ولا يُجرى معه.وشاعر يسير بين المعمعة.وشاعر تملُّ أن تسمعه.وشاعر تود لو أن تصفعه».

٩٠ عاما مرت على تنصيب أحمد شوقى بك أميرا للشعراء. وقد كان رحمه الله مثالا للشاعر. جاء فى زمن صعب - يكاد يكون مثل زماننا الآن- ساد فيه الإحساس بتفوق اللغات الأخرى على اللغة العربية والادعاء بأنها لا تستوعب العلوم ولغة العصر. بل وصار من يتكلمون العربية فى الطبقات العليا يخلطونها بالفرنسية والتركية والإنجليزية تعاليا على لغة لا تستوعب تدفق أفكارهم العالية.

أما الشعر فقد كان ميتا مُدرجا فى أكفانه منذ قرون. ومنذ زمن أبى العلاء والمتنبى لم ينشد الشعراء ما يستحق الالتفات. إلا ما ندر. بل ويُنظر إلى لقب الشاعر والشعر باعتبارهما لفائف من القبور أو أوراق صفراء قديمة.

جاء شوقى وأطلق أجنحة الشعرليحلق بعيدا. وترن كلماته فى كل أذن عاشقة للغتنا الجميلة. ليعيد إحياء أمة بأكملها. تتطلع للنهوض والخروج من عصور الظلام إلى النور. ولكم حاربت الخفافيش والأقزام شوقى طويلا. وكان رحمه الله لا يلتفت لهؤلاء كثيرا. وكان يعلو عليهم بشعره. ويمطرهم بفتح مجالات جديدة للشعر كالمسرحيات الشعرية وقصائد الأطفال بل والمساهمة فى النهوض بالأغنية والموسيقى.

فى عام ١٩٢٧ كان شوقى بك قد بلغ قمة نضجه. واستوى على عرش الشعر أميرا للشعراء بلا منازع وفى الحفل الذى بايعه فيه شعراء العربية. وقف حافظ إبراهيم يلقى قصيدته نيابة عن كل الشعراء العرب ويقول:

« أمير القوافى قد أتيت مبايعا وهذى وفود الشرق قد بايعت معي».

كان شعره صوتا لعصره لا يترك حدثا كبيرا ولا موقفا بارزا ولا شخصية رفيعة إلا ويرتج وجدانه الشعرى ويفيض بروائعه تأثرا واستجابة. وهكذا اتسعت شاعريته لتسع العصر كله. وتلك يلخصها ببيت يقول:

كان شعرى الغناء فى فرح الشرق.. وكان العزاء فى أحزانه.

بعد ٩٠ عاما على تكريمه تظل قيمة شوقى الشعرية شاهدا على عبقريته وحبه لوطنه مصر. وتظل تلك الكيمياء الخفية بين سطور كلماته والصياغة المتأنقة والموسيقى الرقراقة تجيش وتصطخب. ليظل صوتا شعريا كبيرا يرمز إلى عظمة دور الشاعر عندما يكون الشاعر عظيما. ولعل ذلك ما دفع مركز الهلال للتراث لإصدار عدد تذكارى فخم عن أحمد شوقى ليشاهد قراء العربية شاعرهم الكبير من خلال العديد من الزوايا الإنسانية ويتعرفون على صور نادرة لأبيه وأمه وأولاده وأحفاده بل وأجداده مع تقديم باقة من أجمل أشعاره.

ولد شوقى فى عام ١٨٦٨م بشهر أكتوبر وهو الشهر نفسه الذى رحل فيه.

وفى شوقيات الطبعة الأولى الصادرة فى ١٨٩٨ م كتب مقدمة جميلة عن حياته قال فى مقطع منها: « أنا الآن أحبو إلى الثلاثين» الغريب أن هذه المقدمة تجوهلت بعد ذلك فى طبعات الشوقيات وأسقطت نهائيا لتحل محلها مقدمة لدراسة كتبها الدكتور محمد حسين هيكل للشوقيات سنة ١٩٢٦م وأصبح قراء شوقى ودارسوه يفتقدون هذا الجزء العزيز من تراث شوقى الذى يتحدث فيه بأسلوبه النثرى الفاتن عن أسرته ونشأته وتعليمه ورأيه فى الشعر والشعراء الذين استوقفوه بالمتابعة والاهتمام ونصيحته للمشتغلين بالشعر.

شوقى - رحمه الله – يرد أصله إلى الأكراد فالعرب. قدم والده للديار المصرية يافعا يحمل وصاية من أحمد باشا الجزار حاكم عكا إلى والى مصر محمد على باشا. وكان يحسن كتابة العربية والتركية خطا وإنشاء. فأدخله الباشا فى معيته وتداولت الأيام. وتعاقب الولاة وهو يتقلد المراتب العالية ويتقلب فى المناصب السامية. إلى أن أقامه سعيد باشا أمينا للجمارك المصرية فكانت وفاته فى هذا العمل عن ثروة راضية. لكن تلك الثروة بددها والد شوقى كلها فى سكرة الشباب. ثم عاش بعمله غير نادم ولا محروم. وعاش شوقى – وهو واحده – يسمع بما كان من سعة رزقه ولا يشعر بضيق حتى يندب هذا السفه. بل كان رأيه كما رأى لنفسه دائما أن الأفضل ألا يقتات من فضلات الموتى.

أما جده لوالدته أحمد بك حليم ويعرف بـ « النجدة لي» فينتسب إلى نجدة إحدى قرى الأناضول. وفد إلى مصر فتيا فاستخدمه والى مصر إبراهيم باشا من أول يوم ثم زوجه بمعتوقته - جدة شوقى – التى رثاها فى الشوقيات. وكان أصلها من مورة. جُلبت منها أسيرة حرب لا شراء. وكانت رفيعة المنزلة عند مولاها. وكان زوجها محبوبا عنده كذلك. فما زالا مغمورين بنعمة بيته الكريم حتى توفى الجد وهو وكيل لخاصة الخديو إسماعيل. فأمر بنقل مرتبه برمته إلى أرملته. وأن يُحسب لها معاشا لا إحسانا.

يعقب شوقى على كل هذا بقوله: « أنا إذن عربى تركى يونانى شركسى بجدتى لأبي. أصول أربعة فى فرع مجتمعة. كفلتها مصر كما كفلت أبواى من قبل. على أنها منشئى ومهادى. ومقبرة أجدادى. ولد لى بها أبوان. ولى فى ترابها أب وجدان. ولبعض هذا تحبب إلى الرجال الأوطان. «

رحم الله شوقى القائل: « وطنى لو شغلت بالخلد عنه.. نازعتنى إليه فى الخلد نفسى «

فها هو بعد ما يقرب من قرن على تنصيبه أميرا للشعر.يدافع عن العربية بشعره الخالد على مر الأزمان.