الأربعاء 17 يوليو 2024

المثقف الرقمي... جدليات وإشكاليات


زياد عبد التواب كاتب مصري

مقالات12-7-2024 | 20:46

زياد عبد التواب كاتب مصري

في كل مرة يتم التعرض للحديث عن الثقافة أجد أن العديد من الكتابات تبدأ بالعودة إلى محاولة تعريف مفهوم الثقافة وذلك من خلال استعراض عدد من التعريفات المستقرة، أو البدء في استحداث تعريف جديد من وجهة نظر الكاتب وهو ما يعتمد كثيرا على خلفيته الثقافية والعلمية وكذا أيضا يتوقف على الغرض من البحث أو المقال المعروض.

وهنا وبالرغم من أنى لا أحب أن أكون نمطيا وأنتهج نفس النهج إلا إنني أود الإشارة إلى الفرق بين الثقافة وبين أدواتها وأعراضها وأهدافها، فالثقافة هي المعرفة والحكمة وأدواتها متعددة، استقرت لسنوات كثيرة ما بين الحديث الشفهي بين مرسل ومستقبل وصولا إلى اللغة وأدوات التدوين والتسجيل وكذا أيضا آليات انتقال المحتوى الثقافي وصولا إلى عصر الأقمار الصناعية وما بعده وأقصد به عصر شبكات المعلومات والتطبيقات الإلكترونية، اما عن الغرض فيختلف ما بين تنمية الوعى والوصول إلى الحكمة وصولا إلى المتعة والسمو الروحي وتهذيب السلوك وتحسين حياة الإنسان على المستوى الفردي وعلى مستوى الجماعات أيضا.

مرت الثقافة والمعرفة بعدة محطات أساسية وفارقة في مدى القدرة على الانتشار والانتقال من المصدر إلى عموم البشر وخاصتهم، ربما يكون أول تلك المحطات المهمة هي اختراع آلة الطباعة بواسطة يوهان جوتنبرج في عام 1447 ميلادية حيث يعتبرها عدد كبير من الناس هي أعظم وأكثر اختراع تأثيرا في البشرية لأنها ببساطة سمحت بحفظ ونشر المعرفة بين عدد كبير من سكان الأرض فقبلها كانت الأمور في غاية الصعوبة فعدد النسخ من الكتب كان محدودا نظرا لمحدودية النسخ اليدوي، كما أن نشر العلوم واستفادة البشر منها كان محدودا أيضا بمحدودية وسائل الاتصال ولذلك فإن أمر خطير كطمس الحضارات والمعارف كان سهلا، فعلى سبيل المثال نجد أن حدثا كسقوط بغداد عام 1258 ميلادية على يد المغول حينما دمروا بيت الحكمة وغيره من مكتبات بغداد النفيسة بما تحتويه من تراث العرب الذى جمعه العباسيون عبر السنوات تم تدميره وإلقاء الكتب في نهر دجلة بين عشية وضحاها حتى أنه يقال إن لون النهر تحول إلى اللون الأسود، لون المداد الذى سطرت به المعرفة في هذه الكتب ولكن ومع انتشار تقنية الطباعة والتي بدأت يدوية ثم مع عصر الكهرباء والثورات الصناعية تحولت الطباعة إلى عملية تتم بسهولة ويسر وسرعة وبكميات مهولة في زمن قياسي.
 تزامن مع ذلك التطور الكبير في وسائل الاتصال من مركبات تجرها الخيول وصولا إلى السيارات والبواخر والطائرات مع التطور في وسائل انتقال المعرفة الأخرى كالإذاعة والتلفاز من خلال الشبكات المحلية أو حتى من خلال الأقمار الصناعية وهو ما يساهم في انتشار الثقافة والمعرفة والأخبار وباقي الفنون وذلك حتى بداية التسعينيات من القرن الماضي حينما بدأت شبكة الإنترنت في الانتشار وفي التوسع وزيادة المحتوى المعلوماتي بها بصورة رقمية حيث بدا التحول إلى العالم الرقمي للكتاب والجريدة والمجلة وباقي الفنون الأخرى، وكذا أيضا التقارير الدولية والأبحاث العلمية، وكذا أيضا انتشار تقنيات الوسائط المتعددة من صوت وصورة ومقاطع فيديو حيث باتت المعرفة متاحة كما لم تكن من قبل، فعصر الإنترنت هو الطفرة الثانية للبشرية فلا توجد حجة لأحد لعدم توافر المعلومات، فمن قال لا أعلم عليه أن يبحث ليتعلم ويفيد نفسه ويفيد من حوله، حيث أصبح المفتاح الآن هو  "الانتقاء"، أي كيف يمكن انتقاء المعلومات وتمحيصها وتحليلها وتنقيتها من الشوائب والأخطاء ثم استخدامها  للفائدة الخاصة أو العامة.
ومع الألفية الثالثة وتحديدا خلال العقد الأول منها ظهرت منصات التواصل الاجتماعي والتي سمحت للجميع بأن يتفاعل ويناقش وينشر ويحصل على تغذية عكسية سريعة بعد أن كانت المعرفة في اتجاه واحد من مرسل إلى مستقبل، أصبح الجميع مستقبلين ومرسلين في نفس الوقت وهى أمور ساعد عليها التطور التقني الكبير في سرعات الشبكات وأجهزة الحواسب الآلية والهواتف الذكية ثم مؤخرا بعد دخولنا إلى عصر نضج تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتحديدا بنهاية عام 2022 انتقلت المعارف والثقافة إلى مرحلة جديدة أصبحت فيها الآلة قادرة على محاكاه العقل البشرى ومنافسته أيضا.
الثقافة الرقمية والمثقف الرقمي
مع الحديث المتكرر عن الثقافة بمفهومها التقليدي والذي تعرفنا عليه في السابق وما يرتبط به من مصطلحات وشعارات أخرى مثل "العدالة الثقافية" و"التغطية الثقافية" وغيرهما من المصطلحات ومع ما حدث خلال العقود الثلاث الماضية من تطور كبير في المحتوى الثقافي الرقمي، نجد أن الأمر استلزم استحداث مصطلح جديد مرتبط بعصر المعلومات والذي تلعب فيه أدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات دورا كبيرا في إنتاج ونشر ومشاركة المنتج الثقافي بين الجميع، هذا المصطلح ببساطة هو "الثقافة الرقمية".
فالثقافة الرقمية بمفهومها الواسع تشمل المحتوى الثقافي التقليدي والذي يتم نشره وإتاحته وتبادله من خلال التقنيات الحديثة، كما يشمل أيضا المحتوى الثقافي الجديد الذي يتم إنتاجه بواسطة تلك الأدوات ولا يوجد له مقابل في العالم المادي مثل الأعمال الثقافية والفنية الرقمية مثل الكتاب الرقمي والفنون التشكيلية الرقمية والمقطوعات الموسيقية التي يتم إنتاجها بواسطة تلك الأدوات الرقمية وغيرها من مجالات الفنون.
من المبادرات المتميزة ما قام به المجلس الأعلى للثقافة باستحداث لجنة جديدة ضمن لجانه المتعددة تحمل مسمى لجنة "الثقافة الرقمية والبنية المعلوماتية الثقافية" والتي بدأت عملها منذ أكثر من أربع سنوات وتحديدا منذ شهر مارس 2020 لتقوم بالتعريف بالتقنيات الحديثة وكيف يمكن أن تؤثر على المجالات الثقافية والإبداعية المختلفة وهو أمر تزامن مع انتشار جائحة كورونا مما أعطى الموضوع ثقل وأهمية وإقبال واهتمام نظرا لما تم فرضه من إجراءات إغلاق وتباعد اجتماعي بين البشر لتقليل نسب واحتماليات الإصابة بالمرض، فالكتاب أصبح رقميا وأصبح مسموعا، والفنون التشكيلية المتعددة أصبحت رقمية، كما انتشرت المعارض الافتراضية وحفلات الأوبرا والحفلات الغنائية كما أمكن لمجموعة من العازفين أن يقوموا بتأدية عمل مشترك وكل جالس في منزله ويخرج العمل الإبداعي فيستمع له أو يشاهده الملايين في منازلهم أيضا.
شملت قضايا الثقافة الرقمية أيضا استخدام الميتافيرس والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء وسلاسل الكتلة في اقتناء الأعمال الفنية وفى تداولها وبيعها وهذا الأمر فتح المجال للنقاش حول حقوق الملكية الفكرية ومحاولة رسم طريق لأسلوب تعامل الإنسان مع الآلة ومعالجة ما تنتجه من إبداعات مختلفة والإشارة إلى الحاجة إلى العديد من الاستراتيجيات الواضحة لقضايا مهمة مثل الأطفال والإنترنت والترجمة الآلية والإعلام الرقمي في مواجهة الإعلام التقليدي.. إلخ.
بالطبع شمل الأمر أيضا مفهوم "رقمنة الثقافة" وذلك لتحويل الإبداعات الثقافية السابقة من صورتها التقليدية إلى الصورة الرقمية، بالإضافة إلى مفهوم هجين لدمج الممارسات الثقافية المعتادة بتلك الرقمية وذلك بدرجات مختلفة طبقا للموقف والحاجة ودرجة الاعتمادية والنضج التقني ومدى التقبل لهذا الانتقال وهو أمر يتباين كثيرا بين الأجيال المختلفة بين مرحب بشدة ورافض تماما وبينهما طيف عريض من الآراء المتضادة ووجهات النظر المتقابلة.
وهنا نحتاج أن نتعرض لسؤالين بمحاولة الإجابة أولهما ما هو تعريف المثقف الرقمي وهل ساهمت الثقافة الرقمية في زيادة الحصيلة الثقافية والمعرفية لدى البشر؟
أسئلة ولا إجابات
 لأول وهلة ربما يمكن اعتبار أن الإجابة المباشرة لتعريف المثقف الرقمي هي أنه الشخص المهتم بالثقافة والقادر على الحصول عليها من مصادر رقمية تعوضه أحيانا أو تزيل العوائق التي كان يتعرض لها حينما كان مثقفا تقليديا، أي أنه الشخص القادر على قراءة الكتاب الإلكتروني أو الاستماع إلى الكتاب المسموع، القادر على حضور المعارض والفاعليات الثقافية الافتراضية والقادر على البحث الحر على شبكة الإنترنت من خلال محركات البحث التقليدية أو من خلال الاستعانة بأدوات الذكاء الاصطناعي الحديثة مثل شات جي بي تي ChatGPT والمستبدل أيضا للصحف الورقية ونشرات الأخبار التليفزيونية بالنسخ الرقمية وتطبيقات الأخبار وغيرها، كما أنه في مرحلة لاحقة يكون قادرا على نشر المعارف وإبداء الآراء وإنتاج أعمال ثقافية رقمية، فيستطيع أن يكتب كتابا إلكترونيا أو يشارك في ندوة افتراضية أو يتحدث في بودكاست Podcast  عن أي من موضوعات الثقافة أو يتابع الأعمال الدرامية من خلال المنصات المخصصة لذلك فلا يذهب إلى دور السينما أو قاعات المسرح.
ولإننا في مرحلة انتقالية بين الأجيال الرقمية (جيل اكس وجيل زد وجيل ألفا) فان هذا المثقف الرقمي قد يستخدم مصادر الثقافة والمعرفة بأسلوب هجين أي يجمع بين التقليدي والرقمي مع توقع بانتقال المعارف والثقافة إلى الصورة الرقمية وتراجع المصادر التقليدية تدريجيا حيث نجد تراجع في نسب إصدار الكتاب المطبوع أمام الكتاب الرقمي والفنون التشكيلية التقليدية أمام الرقمية وهكذا.
هذا التطور والانتقال الحادثين وبصورة سريعة يتعرضان لموجات متلاطمة ومتضادة من القبول والرفض بناءً على انتماء صاحبهما لأى من الأجيال السابق الإشارة إليها ولكن ومع هذا الجدال أو هذا الصراع القائم فإنه ولاشك لا يمكن إنكار أن الثقافة والمعرفة قد انتشرتا بصورة غير مسبوقة وبات الحصول عليهما والاستفادة منهما أسهل من أي وقت مضى أي أن الجهل أضحى اختيارا ولا يمكن إرجاعه لأى معوق أو لأى ظرف قهري كما كان الأمر في السابق ولكن ولأن لكل أداة مميزات وعيوب فإن عيوب هذا العالم الرقمي الجديد كثيرة أيضا، فالسيل المنهمر من المعارف والثقافات والأخبار وإمكانية التفاعل اللحظية والمستمرة على مدار الساعة وكذا أيضا مع زيادة الاعتمادية على أدوات الذكاء الاصطناعي في الحصول على المعلومات وفى توليد المعارف وكل أنواع الإنتاج الثقافي مثل كتابة الروايات أو إنشاء الأعمال الفنية المتعددة مثل اللوحات الفنية الرقمية أو تأليف المقطوعات الموسيقية بمجرد كتابة سطر بسيط يوضح ما يريد المبدع أن ينتجه، فإن القدرة على الإبداع البشرى الخالص تتضاءل، فالتأمل والهدوء وقدرة الإنسان على التفاعل والاندماج ومعايشة الواقع والتفكير فيه تقل كثيرا، هذا بالإضافة إلى ما يشكله من عائق أمام حرية الإبداع وحمايته وحماية حقوق المبدعين الفكرية والأدبية وغيرهما. 
ختام

قضية الثقافة الرقمية ومستقبل المثقف الرقمي لا يمكن معالجتها في مقال صغير فالأمر يحتاج إلى التعمق أكثر في المميزات والعيوب ليس بصورة عامة ولكن بتدقيق يتضمن كل فرع من فروع الثقافة وكل فئة من فئات المثقفين، كما يحتاج الأمر إلى النظر إلى مناقشة دور المؤسسات الثقافية الحكومية والعامة والخاصة وإلى آراء المثقفين وكيف ينظرون إلى هذا المستقبل ولابد أن يتم ذلك في إطار من ضرورة القبول بالأمر الواقع وأن يكون الغرض هو محاولة الوصول إلى صيغة توافقية تضمن لإنسان العصر ولإنسان المستقبل استمرار القدرة على الاستفادة من الثقافة ومن الاستمتاع بها وكذا أيضا القدرة على توليد ثقافات ومعارف جديدة، فالثقافة بصورتها التقليدية باتت ضئيلة الأثر والارتماء التام في أحضان التقنيات الحديثة قد يسلب الإنسان أعظم نعمة أنعم الخالق بها عليه ألا وهى نعمة العقل ونعمة الإحساس.