مبكرا جدا اهتمت قيادة ثورة يوليو بالثقافة لأنها وجدت فيها سلاحا مهما لإنجاز الثورة أهدافها.. فتم فى عام ١٩٥٦ إنشاء المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية فى شكل هيئة مستقلة ألحقت بمجلس الوزراء وترأسه وزير للتربية والتعليم، وبعد ذلك أقامت حكومة الثورة وزارة الإرشاد القومى التى أضافت بمبادرة من مفكرنا الكبير فتحى رضوان إلى مهامها الإعلامية والتوجيهية مهاما ثقافية فنية أيضا حينما أنشأت مصلحة الفنون وإدارة للثقافة والنشر ومركزا للفنون الشعبية وبرنامجا إذاعيا على موجة خاصة سمى بالبرنامج الثقافى للارتفاع بالذوق فى مجالات الأدب والفن والموسيقى، ثم فى عام ١٩٥٨ نشأت أول وزارة للثقافة فى مصر وكان أول من تولاها هو أحد الضباط الأحرار المثقفين ثروت عكاشة الذى يمكننا بحق أن نعتبره صانع ثقافة يوليو الذى نجح فى تحقيق نهضة ثقافية كبيرة واسعة فى البلاد وازدهار للفن والأدب، ولعل ذلك كان سببا لإعادة تكليفه بوزارة الثقافة مجددا فى عام ١٩٦٦ لأربعة أعوام أخرى مماثلة للأعوام الأربعة التى تولى فيها وزارة الثقافة فى مستهل إنشاءها عام ١٩٥٨.
وقد نجح ثروت عكاشة فى تحقيق هذه النهضة الثقافية التى يتطلع المثقفون لتكرارها مجددا منذ أن ترك وزارة الثقافة فى مطلع السبعينيات بعد وفاة ناصر، وهذا النجاح لصانع ثقافة يوليو يرجع إلى عدة أسباب مجتمعة، أولها أن الرجل كان مثقفا بالفعل وأحد الضباط الأحرار المهتمين بالفن والأدب وهو ضابط بالجيش، ثم فى المناصب المختلفة التى تولاها والتى كان آخرها قبل تكليفه بمسؤولية أول وزارة للثقافة سفير مصر فى إيطاليا، وكان آخر ليلة له فى روما سهرة فنية لأوبرا عالمية برفقة زوجته، وهذا يؤكد صحة المثل الشعبى الذى ينصحنا بأن نعطى الخبز للخباز الماهر.
وثانى الأسباب التى تفسر نجاح ثروت عكاشة فى تحقيق نهضة ثقافية هو سبب يتعلق به أيضا وتحديدا بقناعاته بأن للمواطنين حقوقا ثقافية مثل حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو ما أكده الإعلان العالمى لحقوق الإنسان عام ١٩٤٦، الذى أقر أن للإنسان الحق فى أن يشترك فى الحياة الثقافية للمجتمع دون قيد أو شرط، وأن يستمتع بالفنون، وأن يكون له نصيب فى التقدم العلمى وما يؤديه من ثمار.
ثم يأتي ثالث الأسباب ويتعلق بالنهج الذى تبناه ثروت عكاشة فى قيادة وإدارة الوزارة الجديدة التى تنضم للحكومة، وهو الاستفادة أو كما قال فى مذكراته الاستئناس بجهود أستاذنا النابه فتحى رضوان الذى حققت وزارة الإرشاد القومى فى عهده إنجازات فنية عظيمة، فيها الجد والابتكار وأرست أسسا للفنون على قاعدة صحيحة، وبهذا لم يقرر الرجل حينما تولى وزارة الثقافة أن يبدأ من الصفر كما يحلو لبعض المستوزرين وإنما استفاد من كل ما سبق من جهود والبناء عليها، خاصة وأنه رآها جهودا جديرة بالاحترام.
أما رابع أسباب نجاح ثروت عكاشة فى إحراز نهضة ثقافية فى البلاد ترنو إليها أفئدتنا حتى الآن فهو أنه قرر أن يعتمد على المثقفين، كل المثقفين، النبهاء فى مجالات الفن والأدب والفكر، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية وانحيازاتهم الأيدلوجية، ولعل ذلك تحديدا قد عرضه لمؤامرات وتأليب وتحريض عبدالناصر عليه الذى اختاره لتولى وزارة الثقافة لثقته أنه الأجدر لتحقيق النهضة الثقافية ونشر ثقافة الثورة، وذلك بادعاء أنه يعتمد على المثقفين اليساريين المعادين لنظام يوليو، لكن الملاحظ أن ذلك لم يُخف الرجل أو يجعل يده مرتشعة وراهن على علاقته المباشرةَ والوثيقة مع عبدالناصر لإيضاح الأمور والمواقف والتصرفات وإحباط محاولات منع بعض الأعمال الفنية والأنشطة الثقافية، وقد شرح ذلك تفصيلا فى مذكراته، وقد كان رهانه هذا سليما لذلك استعان به ناصر مجددا لتولى وزارة الثقافة بعد أن تركها بنحو أربعة سنوات والتى استمر فيها إلى ما بعد وفاته، ثم غادرها.
بينما السبب الخامس لنجاح ثروت عكاشة فى تحقيق نهضة ثقافية فى البلاد فهو يتمثل فى قناعته بأن الثقافة ليست فقط حقا من حقوق الإنسان، وإنما هى فى الوقت نفسه ضرورة لإنجاز التنمية الاقتصادية التى كانت الشاغل الأول للدولة المصرية فى الخمسينيات والستينيات حتى هزيمة يونيو ٦٧، حيث صارت الأولوية لإعادة بناء القوات المسلحة لاسترداد الكرامة الوطنية والأرض المحتلة، ولذلك رأى أن السياسة الثقافية لابد وأن تكون جزءا لا يتجزأ من سياسة التنمية الشاملة، تتأثر بها وتؤثر فيها، مثلما تتأثر بالتطور التكنولوجى للمجتمع، ولذلك اعتمد الرجل فى عمله نهج العمل المدروس المخطط، وهكذا توفرت له مقومات وسبل تحقيق النجاح فى عمله، ومن يريد النجاح فى عمله عليه محاكاة ما فعله ثروت عكاشة لتحقيق نهضة ثقافية واسعة فى البلاد انتشرت من خلال السينما والمسرح والموسيقى وبيوت الثقافة والثقافة الجماهيرية والنشر والترجمة
والمثير أن هذا الرجل عندما كلّف لأول مرة عام ١٩٥٨ بوزارة الثقافة اعتذر ولم يقبل إلا بعد يومين من التفكير!، فقد فوجئ ثروت عكاشة بتعيينه وزيرا للثقافة فى تشكيل حكومى جديد وهو يستمع فى بيته برونا كما اعتاد كل ليلة لنشرة إذاعة القاهرة الساعة الحادية عشر مساء، وذلك بدون استشارته أو إعلامه مسبقا، فقرر أن يسافر فى الصباح فورا إلى القاهرة ليقدم اعتذارا عن المنصب الجديد لعبد الناصر، وحينما التقاه برر اعتذاره أنه لا يريد مناصب يصطدم فيها بشِلل أصحاب النفوذ ولذلك اعتذر من قبل عن منصب مستشار فى رئاسة الجمهورية، غير أن عبدالناصر بذل كل ما فى وسعه لإقناعه بقبول المنصب الوزارى الجديد الذى سيتيح له تحقيق أحلامه الثقافية والفنية للبلاد، موضحا له أن منصبه الجديد بعيد عن تلك الشِلل وأنه سيكون فى وسعه أن يلقاه أو يتصل به متى أراد، وأنه كفيل بحمايته من هذه الشِلل التى يخشاها، واستجاب عبدالناصر لطلبه بأن يحصل على ليلتين للتفكير فى الأمر مؤكدا عليه ضرورة القبول بالمنصب الوزارى الجديد لأن البلاد تحتاجه فيه، وهكذا لولا إصرار عبدالناصر على تولى ثروت عكاشة وزارة الثقافة لربما حرمت البلاد من فرصة إحداث نهضة ثقافية ترنو إليها حتى الآن القلوب والعقول.