بعيدا عن الخلاف التاريخى والجغرافى المصاحب لمصطلح "الشرق الأوسط" بات أن الهدف منه سياسيا وفقا لطبيعة الأهداف والمصالح التى يسعى الغرب لتحقيقها فى فترة زمنية محددة.. سواء كان الغرب الأوروبى أو الولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد.. وذلك لما تتمتع به دول المنطقة من موقع استراتيجى تتوسط به العالم.. ويطل بعضها على ممرات ومضايق مائية مؤثرة فى حركة تجارة تربط شرق العالم بغربه.. بخلاف ما تتمتع به أغلب تلك البلدان من ثروات طبيعية مهمة.
ومن منطلق الأهمية الجيوسياسية للمنطقة كان مهما للغرب أن يضع قدما دائمة له فى هذا الموقع المحورى، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.. بدأ العمل على تهيئة مسرح العمليات الجديد وتشكيل ورسم ملامح ذلك "الشرق الأوسط" بما يضمن استمرارية الحفاظ على مصالح الغرب من خلال إنشاء دول وأنظمة وكيانات وجماعات "وظيفية" تمت جميعها برعاية غربية.. لكل منهم أدوار يؤديها فى إطار محدد يتغير من وقت لآخر وفقا لطبيعة الهدف المطلوب.. وفى إطار إعادة تشكيل مسرح عمليات "الشرق الأوسط" من وقت لآخر نشبت حروب مباشرة، وأخرى بالوكالة.. أما المباشرة فكانت أولى موجاتها "العدوان الثلاثى"، أو ما يعرف غربا باسم "حرب السويس".. مرورا بحرب ٦٧.. والتى صد موجتها انتصار أكتوبر المجيد فى ١٩٧٣.. وبعد ذلك حربا الخليج الأولى والثانية.. ثم ضرب أمريكا للعراق.. بعد ذلك تقرر الانتقال للحرب بالوكالة لأسباب عدة.. وبلغت حروب الوكالة ذروتها مع حلول عام 2011 وما شهدته من أحداث أسماها الغرب "ربيعا عربيا".. كان ذلك الربيع الزائف بدعم ومباركة غربية صريحة قامت على استراتيجية استخدام جماعاته "الوظيفية" وعلى رأسها الإخوان الإرهابية وغيرها من الحركات التى خرجت من رحمها بهدف السيطرة على مقدرات الحكم فى بلدان الشرق الأوسط مقابل هدم الدول.. تلك الموجة تم صدها وكشف مآربها على يد الأمة المصرية فى ثورة 30 يونيو عام 2013.. لتبدأ الدولة المصرية بعد ذلك إعادة ترسيخ مفهوم "الدولة الوطنية" بالمنطقة والتأكيد فى كل المحافل الدولية والإقليمية على أهمية دعم المؤسسات الشرعية للدول.
مع كل محاولة لإعادة تجهيز مسرح العمليات فى الشرق الأوسط لمتغير جديد يبرز الدور المصرى لما له من محورية مركزية ورصيد طويل من الخبرات المتراكمة لدولة فاعلة فى الإقليم ولاعب مؤثر فيما يشهده العالم من متغيرات.. وكعادتها تحركت مصر مبكرا وقبل عودة الحروب المباشرة للمنطقة.. وحذرت قبل اشتعال الأحداث وتأزم الأوضاع فى الإقليم.. ووضعت مصر أمام العالم خارطة طريق خلال قمة جدة للأمن عام 2022 بحضور الرئيس الأمريكى جو بايدن.. الرؤية المصرية التى عرضها الرئيس عبدالفتاح السيسى عكست إيمان الدولة المصرية بضرورة أن يُغلب الجميع صوت العقل، وأن تسود قوة المنطق، ويختفى منطق القوة.. رؤية مصر شددت على عنصر الوقت وأهميته، وأنه آن الأوان لكى تتضافر الجهود لكتابة النهاية للصراعات المزمنة والحروب الأهلية طويلة الأمد التي أرهقت شعوب المنطقة، واستنفذت مواردها وثرواتها فى غير محلها، وأتاحت المجال لبعض القوى للتدخل في الشئون الداخلية للدول العربية، والاعتداء العسكرى غير المشروع على أراضيها، والعبث بمقدراتها ومصير أجيالها، والذى تم من خلال استدعاء نزاعات عصور ما قبل الدولة الحديثة من عداءات طائفية وإثنية وعرقية وقبلية، لا غالب فيها ولا مغلوب، وبما أدى لانهيار أسس الدولة الوطنية الحديثة وسمح ببروز ظاهرة الإرهاب ونشر فكره الظلامى والمتطرف.
رؤية مصر نابعة من تجارب تاريخية عديدة في المنطقة كانت دوما خلالها رائدة وسباقة فى الانفتاح على مختلف الشعوب والثقافات وانتهاج مسار السلام، والذى كان خيارها الاستراتيجى الذى صنعته، وفرضته، وحفظته، وحملت لواء نشر ثقافته، إيمانا منها بقوة المنطق لا منطق القوة، وبأن العالم يتسع للجميع، وأن سلام الأقوياء قائم على الحق، والعدل، والتوازن، واحترام حقوق الآخر، وقبوله.. فكانت الرؤية المصرية استشرافية وحذرت خلالها من تطور منهجية الصراع وعودة اللاعبين الرئيسيين النزول للملعب بأنفسهم من جديد.
ولأن تفاصيل المستقبل غالبا ما تختبئ بين أحداث الماضى.. فما بين سطور التاريخ يأخذنا إلى خمسينيات القرن الماضى حيث وثيقة نشرها "وليام جاى كار" فى كتابه "أحجار على رقعة الشطرج" عن الخطاب السرى للحاخام الأكبر إيمانويل رابينوفيتش فى 12 يناير 1952 فى المؤتمر الاستثنائى للجنة الطوارى لحاخامات أوروبا الذى عقد فى بودابست، والتى جاء فيها على لسان رابينوفيتش: "قد نحتاج فى هدفنا النهائى إلى تكرير نفس العملية المؤلفة التى قمنا بها أيام هتلر.. أى أننا قد ندبر نحن أنفسنا وقوع بعض حوادث الاضطهاد ضد مجموعات أو أفراد من شعبنا، وبتعبير آخر سوف نضحى ببعض أبناء شعبنا فى أحداث سنثيرها ونوجهها نحن من وراء الستار حتى نحصل على الحجج الكافية لاستدرار عطف ومؤازرة شعوب أوروبا وأمريكا وبقية العالم".. ويكمل الحاخام الأكبر خطابه ليؤكد: "قد تكون التضحية جسيمة ببضعة آلاف من أفراد شعبنا نعمل نحن بذاتنا على إبادتهم لإلصاق التهمة بغيرنا، قد تكون تضحية جسيمة ولكننا يجب ألا نقيم وزنا لأى تضحية كبيرة كانت أو صغيرة فى سبيل هدفنا النهائى".
ما جاء فى الوثيقة يفك طلاسم كثير مما يحدث حاليا فى الشرق الأوسط منذ أكتوبر 2023، ويوضح كيف بدأت مرحلة جديدة من إعادة تمهيده كمسرح للعمليات ينتظر تغيرات جذرية تشتد حدتها كلما اقترب موعد الانتخابات الأمريكية المقبلة، ويزيد من شراستها تزامن الصراع الإمبراطورى بين محور تقوده أمريكا وبريطانيا للحفاظ على النظام العالمى الحالى، فى مقابل تحركات المحور الآخر بقيادة الصين وروسيا لخلق نظام عالمى جديد.
وأيا ما كان الهدف النهائى الذى يقصده الحاخام الأكبر.. إلا أن ما حوته الوثيقة بين سطورها يكشف مآرب وطريقة التفكير التى لا تكترث بالأرواح.. ولا تعرف للشرف سبيلا.. وكل ما يسيطر على هذه العقليات هو الوصول إلى الهدف مهما كانت الوسيلة وأيا ما كان الثمن.. هذا الفكر الظلامى بكل ما يخلفه من موجات دمار وما يحيكه بشكل دائم من مؤامرات لإشعال الحروب، وإضعاف الخصوم يتطلب حكمة ومنطقا فى مواجهته.. فكثير من الحروب تحسم بالصبر والخداع وليس بالقوة.. والمقاتل الماهر يحارب وفقا لشروطه، أو لا يحارب على الإطلاق.. ففى النهاية يرى الجميع الفوز بالمعارك.. لكن ما لايراه الجميع هو القائمة الطويلة من الخطط التى سبقت المعركة وأدت للفوز.