الأربعاء 7 اغسطس 2024

العلوم الاجتماعية وتطوير الخطاب الديني


د. سامح فوزي

مقالات5-8-2024 | 15:05

د. سامح فوزي

هناك حديث ممتد لعقود حول «تطوير الخطاب الديني»، حيث يستشعر صانع القرار، على مستويات عديدة، أن الخطاب الديني السائد لم يواجه التطرف بما يكفي، بل إن هناك من المثقفين من يتهم الخطاب الديني بأنه مسئول عن التطرف الذي يضرب جوانب المجتمع لأكثر من نصف قرن. وقد قدمت عدة وصفات لتطوير الخطاب الديني، بعضها يتصل بنشر فكر معين، بمصطلحات جديدة مثل التسامح وقبول الآخر والمواطنة، وبعضها يرمي إلى تدريب الأئمة والدعاة على الفكر الديني الصحيح، ومواجهة التطرف والتشدد. ولكني أظن أن العائد من وراء ذلك رغم أهميته، لا يزال محدودًا. بالتأكيد هناك صمت عن التشدد، بفعل المتابعة اللصيقة للخطابات الدينية، ولكن لا يقترن ذلك بالضرورة بنشر خطابات تدعو إلى القيم الإيجابية التي تتصل بالتنمية والتسامح، وقبول الاختلاف. 

أولا: معنى الخطاب الديني 

لا يعني الخطاب الديني الدين، ولكنه يجسد الفهم البشري للنص الديني. وبالتالي فإن الحديث عن تطوير الخطاب الديني لا يذهب إلى النصوص الدينية، لكنه ينصب على تطوير الفهم البشري للنص الديني، وتقديم ما ينفع الناس. ويرتبط كذلك الخطاب الديني بالنظرة النقدية للتراث، بمعني أن نأخذ منه ما يتصل بتقدم المجتمع، ونبتعد عن القضايا التي كانت ترتبط بأحداث أو وقائع تاريخية معينة، أو كانت تصلح في زمانها ولم تعد كذلك في الوقت الراهن. والخطاب الديني بهذا المعني لا ينصلح حاله بتوجيهات تنساب من أعلى، قدر ما ينصلح بتطوير فكر الدعاة أنفسهم، ونظرتهم إلى الواقع، وهي مسألة ترتبط في الأساس بما يدرسون من علوم اجتماعية، تساعدهم على فهم المجتمع على نحو أفضل، وتحثهم على الاجتهاد الديني في التعامل معها. 

ثانيا: العلوم الاجتماعية والخطاب الديني 

هناك تلازم بين الخطاب الدينى والعلوم الاجتماعية، وهي مسألة تحتاج إلى تفصيل؛ لأن الشائع فى الممارسة أن الخطاب الدينى يمثل شأنًا يمارسه متخصص دارس للعلوم الدينية، ليس بالضرورة أن يكون على دراية بالعلوم الاجتماعية، لأن الدراسات الدينية لها أولوية فى تكوينه الأساسى. قد يكون ذلك صحيحًا على المستوى النظرى، فلا يٌنتظر من داعيه أو منتج خطاب ديني أن يتصدى للشأن الدينى دون أن يكون دارسًا للعلم الشرعى، فهذه مسألة مفروغ منها، وغير ذلك يؤدي إلى أن يصبح الحديث الديني نهبًا من جانب غير المتخصصين، والمدعين، وبالرغم من ذلك فإن تطور الحياة، وتعقد المشكلات الاجتماعية، بات يتطلب أن يكون منتج الخطاب الدينى ملما بالعلوم الاجتماعية، قادرًا على الإجابة عن تساؤلات لم تعد بسيطة أو سهلة مثلما كان الحال فى الماضى، أو تنحصر فقط فى المسائل الشرعية، بل صارت هناك قضايا متعددة متجددة كل يوم تتصل بتطور العالم مثل الذكاء الاصطناعي، الاستنساخ، نقل الأعضاء، وغيرها، مما يستوجب أن يكون الداعية على وعي بها، وقادر على إسداء الرأي بشأنها، ليس هذا فحسب، بل إن تعقد المشكلات الاجتماعية التي تترتب على الفقر، والتهميش، التي تعاني منه المجتمعات، خلق صورا من العلاقات الاجتماعية التي تحتاج إلى خطاب ديني واع يساعد الناس على مواجهة المشكلات التي تواجههم بصورة غير تقليدية. ولا يصح أن يتغير المجتمع، ويموج باطنه بتحولات شتى، بينما لا يبرح الخطاب الديني موقعه، ويظل على ثباته.

 وقد تنبهت الأكاديميات الغربية إلى ذلك منذ فترة مبكرة، ولم تعد تفصل الدراسات الدينية عن العلوم الاجتماعية أو الإنسانية، بل صار المتخصص فى الشأن الدينى له اهتمامات تتجاوز تخصصه، وربما لذلك السبب ظهر بينهم من يبدع، ومن يجيد الحديث فى قضايا المجتمع، ولا يشعر المستمع أو القارئ له بذلك الانفصال الحاد بين لغة أهل الدين ولغة أهل العلم، لأن فى المجتمعات المتقدمة يتحدث الطرفان لغة واحدة، بذات المفردات، ونفس الأسلوب. هذه هى الحداثة الثقافية، ليس فقط فى أسلوب التفكير، ولكن فى إدراك مشكلات المجتمع. يعرف أصحاب الخطابات الدينية أن المجتمع يعانى من مشكلات اجتماعية متغيرة. التصدى لها ليس من خلال الوعظ المباشر أو النصح والزجر، ولكن من خلال البحث فى أسبابها، وطرح الحلول لها. في جامعة كامبريدج، على سبيل المثال، هناك معهد متخصص يسمي "فاراداي"، يقوم على دراسة العلاقة بين الدين والأخلاق والعلم، وله إبداعات مهمة من خلال ما يقدمه من ندوات ومؤتمرات وإصدارات وأنشطة بحثية، وهو ما يثبت أن الفكر الديني لا ينفصل عن البحث في العلوم الاجتماعية. 

ثالثا: كيف تطور العلوم الاجتماعية الخطاب الديني؟

تسهم العلوم الاجتماعية في تطوير الخطاب الديني على عدة أوجه:

تطوير نظرة منتج الخطاب الدينى. فى المجتمعات المتدينة، ولو ظاهريا، يتمتع رجل الدين أو عالم الدين- أيا كانت التسمية- بهالة من الاحترام والوقار، ويعتبر الناس كلامه عين الحكمة، وعنوان الالتزام الدينى، وهو ما يعظم تأثيره فى حياتهم، ونظرته القيادية لنفسه، ويعتقد أن كلامه نهائى، فهو يعرف فى شأن الدين، أعظم ما تحويه المجتمعات، ويتضاءل فى اقتناعه الشخصى دور العلوم الاجتماعية، باعتبارها كلام متخصصين يبحثون فى علوم الدنيا، أما هو فهو يحمل الناس على التفكير فى عمل الآخرة. المسألة ليست مفاضلة بين هذا وذاك. إذا تعلم منتج الخطاب الديني العلوم الاجتماعية، سوف يدرك أن الحياة أكثر اتساعا من نظرته الضيقة لذاته، وأن هناك بابا مفتوحا على مصراعية أمامه كي ينهل من العلم المتجدد، مما يسهم حتما في اتساع نظرته لنفسه. 

تلهم العلوم الاجتماعية الخطاب الدينى بالقضايا التى تمس الناس، وتشغل بال المجتمع مثل قضايا الفقر، والعدالة الاجتماعية، وتطوير نوعية الحياة، والنوع الاجتماعى، والأمراض التى تطرأ على المجتمعات نتيجة العطب الذى يصيب بنيتها الاجتماعية مثل العنف، وتفسخ الأسرة، وهكذا، إذ يؤدى انفتاح منتجى الخطابات الدينية على العلوم الاجتماعية إلى استلهام أفكار، وموضوعات، وقضايا، تشكل بؤرة اهتمام مشترك بينهم وبين الناس، ويجعل الخطاب الدينى يسير فى أفق الواقع، ولا يسبح فى عالم نظرى، لا يمس عقول وأفئدة واهتمامات الجمهور. بقول آخر تنبع أهمية دراسة العلوم الاجتماعية من كونها منشأ الأسئلة التى تلح على الداعية أو عالم الدين أو الواعظ، يفرضها تبدل أحوال المجتمع، واختلاف نظرة الأجيال، وظهور احتياجات اجتماعية متجددة، وهو ما يدفع منتج الخطاب الدينى إلى التخلى عن الإجابات النمطية، والبحث فى ظروف المجتمع المتغيرة. 

•  الخطاب الدينى لا ينفصل عن تكوين من يقومون على إنتاجه، فلا يمكن أن يخرج خطاب حداثى من عقلية تقليدية، أو المناداة بالمساواة بين الرجل والمرأة من تفكير ذكورى محض، أو الدعوة إلى التسامح من ذوى نفوس تربت على الشعور بالأفضلية تجاه الآخرين. تكوين صاحب الخطاب الدينى، أيا كان المعتقد الذى ينتمى إليه، ينبغى أن يكون حداثيا، مستنيرا، يقف على الإنجازات التى بلغتها الإنسانية فى العلوم والفنون والآداب، وينظر إلى العالم المحيط بانفتاح، ورغبة فى المشاركة الجادة. بالطبع، أصحاب الخطابات الدينية ليسوا منفصلين عن المجتمع المحيط، ولا يعيشون فى أبراج عاجية، بل هم نتاج تربية أسرية، وتعليم، وإعلام، بل ما أصابه من خلل، ولكن ليس ذلك قدرا محتوما، وإلا نكون قد سلمنا بإعادة إنتاج ثقافة سلبية فى كل مناحى الحياة. ينبغى أن نتطلع دائما إلى التغيير، وأحد مسالك هذا التغيير هو التعليم، الذى يعيد صياغة العقل بأفكار، واهتمامات، وتطلعات مختلفة. وهو ما يمكن أن تسهم به العلوم الاجتماعية. يدفعنا ذلك إلى التفكير فى قضية أعمق وهو العلوم البينية، أى المساحات التى تتلاقى عندها العلوم، وتسهم فى تكوين الشخص، هنا يبرز دور علم الاجتماع فى الدراسات الدينية.

رابعا: لماذا لا يحدث التلازم بين الخطاب الديني والعلوم الاجتماعية في المجتمع المصري؟

إجابة السؤال في كلمة واحدة "الاستقطاب". هناك اعتقاد لدي كثير من منتجي الخطابات الدينية أن الأساس في المعرفة هو العلوم الدينية، وما عدا ذلك ليس ضروريا، وقد يقبلون علوم الهندسة والطب وفروعها باعتبارها لازمة لحياة المجتمعات، أما العلوم الاجتماعية، فيرون، دون تصريح في أغلب الأحيان، أنها نتاج ثقافات مادية وإلحادية، ظهرت في بيئات غربية لا تناسب المجتمعات الإسلامية، ويحتاج الاستعانة بها إلى "أسلمة" مثلما ذهبت بعض التيارات الإسلامية إلى نشر علم الاقتصاد الإسلامي، وعلم السياسة الإسلامي، إلخ. على الجانب الآخر، فإن قطاعًا من الباحثين في العلوم الاجتماعية يرون أنها تسبق غيرها في تطوير المجتمعات، وينظرون بعدم إكتراث وربما باستهانة إلى الخطابات الدينية، ويسعدون كثيرا بإظهار المثالب التي بها. 

عندما نتجاوز الاستقطاب، ويري منتجو الخطابات الدينية أهمية في العلوم الاجتماعية، وينظر أساتذة العلوم الاجتماعية باهتمام إلى الخطابات الدينية، ليس بمنطق المصلح والمرشد، ولكن انطلاقا من أهمية تحقيق الثقافة الإنسانية الحقيقة لدى الجماهير بجناحيها الديني والاجتماعي، هنا سيحدث التلاقي، وسوف يسهم التقاء العلوم الاجتماعية بالخطاب الديني في تطوير نظرة الاثنين معا، دارس العلوم الدينية، ودارس العلوم الاجتماعية.