الأربعاء 7 اغسطس 2024

ضوابط الخطاب الديني الثقافي

مقالات5-8-2024 | 14:21

يلاحظ المثقف العربي أن مطلع القرن الواحد والعشرين الميلادي، يحمل في جعبته الملامح نفسها (فكريا) لمطلع القرن العشرين  حيث البحث عن هوية، ربما البحث عن ملامح جديدة ودعائم تضاف إلى الهوية السلفية التى ترى فى التراث ضالتها إلى حد القداسة!

فقد تطلعت الذهنية العربية منذ قرن مضى، إلى الغرب فكريا وحضاريا، وقد أصبح معبرا عن القوى الجديدة، بقدر ما قدمه العلم لهم، وبالقدر نفسه ما أمكن التخلص منه من سلطة البابا والفاتيكان. 

حينئذ برز عربيا الفكر التنويري والتعلق بأهداب الغرب وأفكاره، كما برز المزيد ممن تعلق بالفكر السلفي.. مدرستان للتعبير عن الموقف الثقافي، نحو هذا التوجه الجديد. ذاك الذي انقسم فيه جماعة المثقفين ما بين قبول كامل لمعطيات الغرب، وآخر رفض كامل لتلك المعطيات، وربما ثالث –قلة قليلة- أخذت بالوسطية. أي أخذ العلم والمعطيات الحضارية الجديدة من الغرب، مع التمسك بمعطيات التراث العربي الفكرية.

ومع ملاحقة المطبوعات والحوارات الفكرية منذ بداية القرن الواحد والعشرين الجديد، تبدو القضية متجددة: ألا وهى قضية البحث في ملامح "الهوية" و"أنا والآخر".. في مقابل المعطيات الحضارية الجديدة، من هيمنة التكنولوجيا الرقمية وثورة الاتصالات والإعلام، فضلا عن ثورات العلوم "الجينية والفيزيائية، وغيرهما". 

ولا شك أن الدعوة ﺇلى خطاب جديد للمفاهيم الدينية مع التمسك بالثوابت، نقل واقع الحال من حديث تنظيرى إلى البحث عن مناحى عملية لزحزحة القابض على ذاته من الأفكار القابلة للبحث والتعديل، إلى الحذف والإضافة.. إلى البحث عن مفهوم "الهوية" وعلاقة "الأنا والذات.. الأنا والآخر"، في ضوء المعطيات الجديدة حضاريا وفكريا وتكنولوجيا.. حتى كانت الدعوة لـ"تجديد الخطاب الديني".

لعل الاقتراب من مفهوم  المصطلح يعد خطوة أولى، حيث  " الْخطاب" فى المعجم الوسيط: هو "الْكَلَام، كل الكلام المرتبط بالدين، والتجديد معناه: إدخال جديد مكان القديم (بعيدا عن الأصول بل فى الفتاوى).. ومع ذلك فإن الاقتراب من الموضوع يلزم معه الكثير من الحذر والضوابط، نظرا لحساسية الموضوع الذى يحمل تراث عدة قرون من المفاهيم، ومنها ما رسخ في الذهنية الشعبية من المفاهيم وربما الفتوى التى كثيرا ما تبدو متداخلة وفى حاجة إلى المزيد من الفهم والشرح حتى تناسب الزمن الآني، وهو ما يمكن أن نطلق عليه ضوابط الخطاب الديني.

يمكن البحث في عدد من الضوابط القابلة للمزيد، من أجل توفير القيام على مهمة الحديث عن التجديد، وأيضا المخاطب المتنوع الذى يحمل تراث قرون من المقولات والأفكار، ثم ومن قبل اختيار المادة التى سوف يتحدث بها ومحاور كلام المجدد، ومنها ما يأتي:

بالنظر الى القائم على شان التجديد والحديث حوله؛ يجب أن يتسم بالإلمام الثقافى العام، وليس المعرفة الدينية فقط.. يملك ملكة التحليل والبحث عن الجذور، مع إبراز الروابط المشتركة بين المتعدد أو لعله المختلف ظاهريا.. وتلك السمات  الشخصية خطوة أولى للتفريق بين رجل حافظ وملقن للتعليم الديني، وبين ذاك المتفحص الباحث فى الشأن والمفاهيم الدينية، فى مقابل قبول الآخر المختلف معه والصبر عليه.

على الجانب الآخر يلزم النظر ﺇلى الآخر المختلف معه أو المراد تغيير رؤيته وأفكاره ومفاهيمه، مثل هؤلاء لهم طبيعة خاصة، تبدأ بالرفض التام لكل مخالف أو مختلف عما هو داخل رأسه ومفاهيمه شخصيا، ولا تنتهي بالمجادل والثرثار وخصوصا فى شأن الموضوعات الدينية عن غير علم كاف، بفهم خاطىء أنه كلما كان متشددا، كلما عبر عن تدينه أكثر وأقرب الى الله من محدثه.

استعداد صاحب الدعوة للتجديد على قبول بعض المقترح ممن يتناقش معه، حتى لا يبدو جامد الفكر ومتعصبا لرأيه فقط.. وهو لا يعنى الموافقة للموافقة، بل للتعبير عن الحرص على استمرارية الحوار على قناعه أنه أمام ذهنية قابلة للتحاور وليست مرفوضة الى حد العدوانية.

تبسيط الأفكار المعتدلة التى يتبناها القائم على تجديد الخطاب الدينى، تعد من الخطوات الهامة والواجب التدريب عليها ومناقشتها موضوعيا مع من هم على قناعة بها أولا، بالتدريب على قبول نقد الذات، وقبول وجهات نظر أخرى، قبول مجمل الافكار  للفحص والتحليل حتى المختلف معها، ثم التمهيد بعرض الفكر المعتدل البديل، ويقدمه بكل الثقة والاتزان.

الثقة في الذات وفيما يقدمه صاحب الفكر المعتدل لا تعني الاعتداء على من هم على وجهة نظر أخرى، هذا التعالى يعد عدوانية يرفضها جوهر تجديد الخطاب الدينى.

لعل الوعى بمجمل الآراء سواء المتشددة أو تلك التى يتبناه صاحب الخطاب الدينى الجديد، ثم عرض كليهما ضمن خطة مخاطبة المتلقى، يعد من الأمور القريبة من نفوس المستمع، حتى المتشدد فى أمور الدين، نظرا لأن تعدد وجهات النظر أكثر اقناعا للمتلقى.. ولا يعنى هذا تحلل صاحب الخطاب الدينى الجديد وأن يتنازل عن وجهة نظرة ودوره الذى تبناه. 

حاجة صاحب الدعوة لخطاب دينى جديد إلى البحث والتنقيب والدرس لمجمل وأهم وأشهر كتب التراث الديني، ليس لإعادة تكرارها وإعادة طرحها بحالها وأحوالها، بل لاختيار ما هو متفق من وجهته ورؤيته التى تتسم بالتبسيط والتكيف مع مستجدات العصر وتأكيد دعم الثوابت. ومن المؤكد إلى أن الإشارة إليها فى بعض المواضع، ينقل شعور المتلقى المتعصب لأفكاره الجامدة أنه يستمع إلى أقوال ودلائل هو على قناعة بها.

الكلمة الفصل لا يملكها صاحب الدعوة للتجديد الدينى، بل هى نتاج فكر جمعى للمتلقى، وهو ليس بالأمر الهين. لذلك لا يعد مشروعا فرديا، أو أن يقرر أحدهم أن يدعو الى خطاب دينى جديد.. بل هى النفرة الثقافية، نعم الثقافية التى تتبناها مؤسسات الدولة بكل طاقتها الإعلامية والدينية وغيرها.. وجهة واحدة تتولى المؤسسات مسئولية رواجها وتقديمها مبسطة إلى العامة من الناس، حتى تصبح سمة ثقافية جديدة لرجل الشارع، أى قبول فكرة تجديد الخطاب ادينى بلا أية حساسية الوقوع فى مزالق الاتهام بالتكفير أو الزندقة؟

وأخيرا 

لم يعد الجهد الفردى وحسن النية منه هو الوسيلة والخلاص، تعقدت وسائل التواصل وتنوعت، ما يلزم معه، التأكيد على دور مؤسسات الدولة، بداية بأن تخصصا عاما قادم للدعوة إلى فكرة تجديد الخطاب الديني، وبذلك تتحول القضية من المنحى الدينى فقط إلى المنحى الديني الثقافي العام.. ويشعر رجال الشارع أنه مشارك في قبولها أو رفضها، وهو أمر جيد فى كل الأحوال، وتصبح الدعوة، هي "تجديد الفكر الديني والثقافى" وتصبح قضية شعبية قابلة للتناول بلا محاذير.