الأربعاء 22 مايو 2024

لو كانوا على الإسلام لتعلموا من الأنصار!

15-1-2017 | 10:50

من عيوب العادة ، أنها تأتى على التيقظ والالتفات ، فلا نتفطن إلى قيم أو معانٍ نمر عليها مرور الكرام ، دون أن نلتفت إليها ولا إلى مغزاها .. بحكم العادة ربما نسينا أو لم نلتفت إلى أن « المدينة المنورة » هو اسم مستحدث لمدينة « يثرب » ، وهو الاسم الذى عرفت به طوال الجاهلية قبل الإسلام ، وبحكم العادة ربما نسينا أيضًا لماذا أطلق اسم « الأنصار » على أهل هذه المدينة ، الذين اعتنقوا الإسلام وناصروه واحتضنوه فى مدينتهم التى حازت لقب « المدينة المنورة » ، وضمت المسجد النبوى ومثوى الرسول عليه الصلاة والسلام وكثيرين من صحابته الأبرار.

ومع عدم الالتفات أو التفطن إلى « المسمى » يفلت المغزى ، والمغزى خلاصة قصة طويلة حملت معانى عميقة مستمدة من الإسلام ، انضوت فيه ومثلت أنشودة رائعة للعطاء والإيثار .. وإنكار الذات ..

قبل المدينة والأنصار ، كان الإسلام محاصرًا مخنوقًا فى مكة ، مطاردًا بنكال الكفار والمشركين من القرشيين وغيرهم ، يلاحقون المسلمين الأوائل بالإعنات والتضييق وبأشد وأعنف صنوف العذاب والإيذاء .. وطالت الأشراف كما طالت الفقراء والمستضعفين ، وامتدت من بطحاء مكة إلى البيت العتيق ، واجترأت على الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام ، فيلاحقه الغلمان والسفهاء فى أزقة مكة ، وتلاحقه أم جميل زوجة أبى لهب بإلقاء النجس على باب بيته ، ويلقى عليه أبو جهل أمعاء الذبائح أكثر من مرة أثناء سجوده فى البيت الحرام ، ويحثو السفهاء التراب على رأسه الشريف ، ويسعى أحدهم لخنقه بثوبه ، ويزداد الطغيان والحصار فلا يجد المسلمون مناصا من الفرار بدينهم إلى الحبشة ، وتحاصر قريش بنى هاشم ثلاث سنوات فى شعاب مكة ، ويلقى عليه الصلاة والسلام فى الطائف ما يلقاه بمكة ، حتى تفيض دموعه ويشكو إلى ربه فى دعائه المشهور الذى ختمه يقول 
 لربه : « لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك » !

من المكابدة والحصار بمكة

إلى رحاب الأنصار أنشودة العطاء والإيثار

لم يجد عليه الصلاة والسلام سبيلا إلاَّ أن يهاجر بدعوته من هذا الحصار المفروض عليها فى مكة ، فيعرض الإسلام على القبائل الآتية لزيارة البيت العتيق ، فأعرض كثيرون ، ولم تهب الأنسام الطيبة إلاَّ من يثرب ، ويتوالى الفرج مع الأوس والخزرج ، فيبايعون بيعة العقبة الأولى ، ثم العقبة الثانية فى العام التالى ، وتبدأ يثرب التى ستصير المدينة المنورة ، فى استقبال طلائع المهاجرين إليها من حصار وطغيان المشركين بمكة ، فتفتح لهم قلوبها وأبوابها وديارها وأحضانها وأمانها ..

وفى المدينة تتتابع فصول ومشاهد نصرة الأنصار الذين فتحوا رحاب يثرب لتستقبل الإسلام ورسول الإسلام ـ عليه الصلاة والسلام ، ولتهيئ الباحة والأمان والسلام لتنطلق الدعوة من هناك متخلصة متخففة مما لاقته من عنت ونكير وشنف وأذى وعذاب الكفار والمشركين وطواغيت قريش فى مكة ، ولتتحول ساحات العذاب والتعذيب فى رمضاء مكة ، وفى بيوت المشركين ، إلى واحة سلام ونصرة وأخوة وأريحية وكرم ورعاية وعناية وتضحية وفداء وافتداء بالنفس والمال على مدار نيف وعشر سنوات , حتى أبلغ 
 المصطفى رسالة ربه ، ودخل الناس أفواجًا فى دين الله ، وعَمَّ ضياؤه الجزيرة العربية وانطلق منها إلى ما حولها .

فى المدينة بدأت الصلوات تقام جهرًا , ويُبْنى للمسلمين مسجدٌ , ويُقام فيه منبر , وينادى للصلاة بالأذان , بعد أن كان المسلمون يتخفون بدينهم وتعبدهم بمكة .. وفى المدينة , يتوالى نزول القرآن الكريم بأحكام الإسلام , ومنها يتواصل جهاد الأنصار , ويتم تطهير شبه الجزيرة من الأصنام والأوثان , وتنطلق أنسام الإسماح النبوى وقبسات الهداية لتعم مكة وأرجاء الجزيرة , ويتوالى مقدم الوفود للمدينة والدخول فى دين الله أفواجًا ..

ويبدو إيثار الأنصار وإنكارهم لذواتهم فى أوجه , حين جمع الرحمة المهداة الأنصار والمهاجرين لتوزيع ما أفاء الله تعالى به من أراض , فبدأهم عليه السلام بالسؤال أن إخوانهم المهاجرين لا أموال لهم , فإن أحبوا أجرى القسمة بينهم وبين المهاجرين , فما أجابوا إلاَّ بأنهم إخوانهم . فعاود عليه السلام يسألهم إنْ أحبوا أعطاهم وخرجوا من 
 دورهم .

هنالك أجاب الأنصار : « بل تقسمه بين المهاجرين , ويكونون فى دورهم كما كانوا » ويزيد على ذلك بعضهم فيقولون : « بل أقسم لهم من أموالنا ما شئت يا رسول الله » . وفى إيثارهم نزلت الآية التاسعة من سورة الحشر تقول : « وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »

لا يتسع المقام لحصر عناوين عطاء الأنصار للإسلام , ولا لمواقف إنكارهم لذواتهم , وقد عرف عليه الصلاة والسلام لهم هذا الفضل , فلم يوص فى مرض موته إلا بهم , 
 فقال : « يا معشر المهاجرين , إنكم أصبحتم تزيدون , والأنصار لا تزيد على هيئتها التى هى عليها .. هم عيبتى [ خاصتى وأهل سرى ] التى أويت إليها , أكرموا كريمهم , وتجاوزوا عن مسيئهم .. احفظونى فيهم » .

صدمة السقيفة

وإيثار الأنصار

لست أريد , ولا يسمح الحيز , بعرض تفاصيل ما جرى بسقيفة بنى ساعدة يوم قبض المصطفى عليه الصلاة والسلام , ولا ما تم تبادله يومها بين الأنصار والمهاجرين عن ولاية الأمر , فالذى لا خلاف عليه أن أرق ما صدر يومها من المهاجرين كان حديث أبى بكر الصديق , الذى هدأت عباراته الرقيقة الحليمة من ثورة النفوس , إلاَّ أن هذه العبارات كانت واضحة جلية فى أنه مع فضل الأنصار وأهليتهم , إلاَّ أن هذا الأمر لن يكون إلاَّ فى قريش .

على أن اللافت الكاشف عن إيثار الأنصار ونكرانهم لذواتهم ، وإخلاصهم للإسلام بلا حدود وبلا أى عصبيات ، أنهم بادروا ـ ورغم غضب كبيرهم سعد بن عبادة ـ فبايعوا أبا بكر الصديق بالخلافة ، وحفظوا الإسلام والمسلمين من فتنة لا يعلم مداها إلاًّ الله ، بيد أن الأيام حفظت لهم ، وحفظ لهم التاريخ ، أنهم أخلصوا العون للخلفاء الراشدين وجاهدوا تحت إمرتهم ، وسطروا مع المسلمين صفحات مجيدة تجل عن الوصف فى العراق وفارس ، وفى الشام ، وظل عطاؤهم مستمرًا بلا حدود فى إيثار عظيم وإنكار للذات يجل عن أى وصف !

لم يكن تطلع الأنصار لولاية الأمر بعد النبى ـ تطلعًا نابيًا ، ولا كان طمعًا بلا سند .. فهم عدة وعمدة المدينة التى صارت بما قدموه من نصرة للإسلام ورسوله ، صارت عاصمة الدولة الإسلامية ، وفيهم كبار جدًّا من أجلة الصحابة الذين صاحبوا النبى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وتلقوا عنه وعملوا بهديه وسنته وتحت رايته ، واضطلعوا بأعباء جسام اختارهم لها اختيارًا رشيدًا لما وهبوا من مقومات الرشد والقيادة ، وعناصر الريادة فى أمور الدين وسياسة الدنيا ، ولم يخل مشهد من المشاهد الإسلامية إلاَّ وكان للأنصار قصب السبق وعراضة العطاء فيه .. وحتى رحيل المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولحاقه بالرفيق الأعلى .

وقد قيل يوم السقيفة ما يغضب ويمض ، ويثير الشجن والأسى ، ويدفع إلى أتون العصبية والانتصار للذات ، بيد أن الأنصار سرعان ما هدأوا وسكنوا وقبلوا كلمات الصديق أبى بكر برغم أن فيها ما يمكن أن يبرر النقاش والاختلاف ، ولكنهم ارتفعوا وتعالوا إلى الغاية العليا لاستمرار دعوة الإسلام بلا شقاق ، وقد تصارع غيرهم تصارعًا طويلاً على سدّة الحكم ، بيد أن الأنصار لم يفعلوا ذلك ، وتجاوزوا موقف السقيفة فى إيثار رائع ، وانخرطوا فى القافلة المباركة بقيادة أبى بكر ثم باقى الخلفاء الراشدين من بعده ، جنودًا للإسلام بلا مآرب أو أغراض ، ومضت الأعوام وتقلبت الدنيا بين أغراض السياسة ، ولكن الأنصار بقوا على عطائهم الموصول للإسلام , فكانوا فى طليعة المجاهدين فى حروب الردة بالعراق وفارس , وأبلوا أعظم البلاء فى فتوح الشام , فكانوا عدة الإسلام فى زمن الراشدين , وفى الدولة الأموية , ثم العباسية , ولم ينقطع قط مددهم وإيثارهم اللذان استقبلا بهما الإسلام , وظلوا عليهما ما امتد بأى منهم حبل الحياة .

قيمة عطاء الأنصار ليست فقط فيما قدموه من نصرة للإسلام , وإنما فى المثل الأعلى الذى ضربوه فى الإيثار وإنكار الذات . ما أحوج المسلمين اليوم إلى العودة إلى هذه القدوة الرائعة التى ضربها الأنصار لتكون مرشدًا على طول الزمان ، وهاديًا وسط الأعاصير التى هبت بفعل الأغراض والمآرب التى كثيرا ما جرت إلى ما يبتعد ابتعادًا مخيفًا عن الإسلام !!!

من المؤسف أن هناك الآن من يتباهون بانتمائهم للإسلام , ويتشحون به , ويرفعون رايته , ولكنهم يشذون في سلوكهم عن روحه وعن أحكامه.

لو كانوا على الإسلام , لتعلموا من الأنصار !

كتب :  رجائى عطية