الجمعة 16 اغسطس 2024

الصيف المظلوم


عباس محمود العقاد

مقالات16-8-2024 | 15:19

عباس محمود العقاد

عرف المؤرخون الأقدمون علاقة وثيقة بين مناخ الإقليم وأخلاق أهله، فضلا عن العلاقة بين المناخ وأحوال المعيشة.

ولكن هذه الفكرة – فكرة العلاقة بين المناخ والسكان – لاقت رواجها الأكبر فى القرن التاسع عشر، لأنه القرن الذى شاع فيه تعليل كل شىء بالعلل الطبيعية، وأوشك الباحثون فيه أن يحصروا العلل الطبيعية كلها فى العلل المادية التى تدركها الحواس الجسدية.

ومنذ ذلك الحين، سمعنا كثيرا عن مناخ مصر وطاقة المصريين على العمل فى ذلك المناخ.

وكان الرأى الغالب أنه مناخ لا يساعد على الجهد والمثابرة، لأن صيفه غالب على شتائه، وحرارة الصيف فيه تميل بالسكان إلى الدعة والفتور.
فهل هذا صحيح ؟

هل حرارة الصيف عندنا باعث من بواعث الذكاء و"الحرارة" النفسية؟ أو هى باعث من بواعث الخمود وتفتير النفوس والعقول؟

إن الجهد جهدان: جهد بدني وجهد عقلى، ولا نحسب أن أحدا يرمى الفلاح المصرى بالكسل والعجز عن العمل، لأنه يعمل فى القيظ الشديد كما يعمل فى البرد القارس، ويصبر على الجهد البدنى ساعات فى وقدة الظهيرة وأشعة الشمس تنصب على رأسه العارى فى كثير من الأحيان، ثم يعاود العمل أياما بعد أيام وأسابيع بعد أسابيع، حتى ينتهى موسم الزرع أو موسم الحصاد.

وقد قيل إن عظام الجمجمة المصرية أقوى من عظام الجماجم فى الأمم كافة. لأنها مرنت على احتمال طويل لعوارض الحر الشديد، فيقضى الفلاح المصرى ساعات مكشوف الرأس تحت الشمس ولا يشكو ضربتها، ولو وقف غيره فى مكانه بعض هذا الوقت لأصيب بالرعن على الأثر، وربما فقد الحياة.

والعامل المصرى فى العمارة، يحتمل ما يحتمله العامل المصرى فى الزراعة، ويصبر على جهد بدنى لا يقوى عليه العمال المولودون فى البلاد الباردة.

فإذا كان الغرض من تأثير الصيف فى أبناء مصر أنه يضعفهم عن احتمال الجهد البدنى، فمن التعسف فى القول أن نتخذ من العاملين بأبدانهم فى مصر دليلا على صحة هذه الدعوى.

فإن لم نقل أن الواقع ينقضها فأيسر ما يقال فيها أنها دعوى بغير دليل.

أما العمل العقلى فليس مقياسه بطبيعة الحال عصر الركود والاضمحلال، لأن عصور الركود والاضمحلال فى جميع الأمم خلو من آثار الجهود الذهنية والمبتكرات العقلية، لا فرق فى ذلك بين الإقليم البارد أو الإقليم المعتدل أو الإقليم الذى تشتد فيه الحرارة.

وإنما المقياس الصحيح للجهود العقلية هو عصر القوة والحضارة، وعندنا منه فى مصر مثل فى الزمن القديم، ومثل فى هذا الزمن الحديث.

فهل يمكن أن يقال إن عهد الحضارة المصرية القديمة خلو من آثار الجهود العقلية، أو خلو من الأعمال الكبار التى تقوم على هذه الجهود؟

إن آثار هذه الحضارة كلها تدل على تمكن المصريين الأقدمين من علوم الرياضة والكيمياء كأحسن ما يمكن أن تعرف فى الزمن القديم.

وعلوم الرياضة التى نعنيها شاملة للرياضة الفلكية ورياضة الهندسة المعمارية، وبعض هندسة الرى والزراعة.

فقد رصدت الكواكب فى مصر أدق رصيد تسمح به آلاته قبل بضعة آلاف سنة، وضبط التقويم على هذا الرصد قبل أن يعرف فى العالم كله تقويم صحيح.

ولا حاجة إلى دليل على علم القوم بالرياضة التى تستخدم فى هندسة المعمار، فإنه ظاهر فى أكبر الآثار ظهوره فى أصغر الآثار.

ولا حاجة كذلك إلى دليل على علمهم بالكيمياء، فإن قدرتهم على مزج الأصباغ واستخدام العقاقير فى التحنيط تدل على خبرة "علمية" غير الخبرة العملية التى تأتى أحيانا من طريق المصادفة والاتفاق.

وليس من المعقول أن تقوم دولة، وتزدهر معها حضارة، وهى خلو من جهود المفكرين والمدبرين.

وأغلب الظن أن الكتاب الغربيين الذين ينكرون الجهد العقلى على الطبيعة المصرية ينخدعون عن الحقيقة، لأنهم لم يجدوا أمامهم أسماء وأعلاما كتلك الأسماء والأعلام التى تذكر فى تاريخ اليونان أو تاريخ الرومان، وينسب إليها اختراع هذه الصناعة أو تقرير تلك القضية.