السبت 17 اغسطس 2024

مقالات17-8-2024 | 10:16

الصيف أحد فصول السنة وكان مصدر إلهام نخبة من الشعراء والكتاب فقدموا الجماليات لإثراء فكر ووجدان الإنسان فمن لا يحلق نحو السماء عندما تغرد الفنانة اللبنانية فيروز بكلمات وألحان الأخوين رحباني حبيتك بالصيف وشط إسكندرية؟ ومن لا يدندن مع الفنانة أنغام وهى تغني بكلمات الشاعر صلاح فايز ولحن والدها الموسيقار محمد علي سليمان أغنية هوا المصايف؟ لكن نتوقف مع عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي قدم مؤلفاته القيمة للمكتبة العربية ومنها كتابه من لغو الصيف إلى جد الشتاء الذي يعد من أشهر مؤلفاته حيث لاقى الصدى الطيب عند جموع المثقفين ولذا أعيد طبعه مرات كثيرة.


عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين عندما فتحت الجامعة المصرية أبوابها عام   1908 كان أول المنتسبين إليها وفي عام 1914 نال شهادة الدكتوراه وفي العام نفسه أوفدته الجامعة المصرية إلى مونبلييه بفرنسا لمتابعة التخصص والاستزادة من فروع المعرفة والعلوم العصرية فدرس في جامعتها الفرنسية وآدابها وعلم النفس والتاريخ الحديث بقي هناك حتى 1915 وواجه معارك وخصومات متعددة محورها الكبير بين تدريس الأزهر وتدريس الجامعات الغربية ما حدا بالمسئولين إلى اتخاذ قرار بحرمانه من المنحة المعطاة له لتغطية نفقات دراسته في الخارج لكن تدخل السلطان حسين كامل حال دون تطبيق هذا القرار فعاد إلى فرنسا من جديد لمتابعة التحصيل العلمي ولكن في العاصمة باريس فدرس في جامعتها مختلف الاتجاهات العلمية في علم الاجتماع والتاريخ اليوناني والروماني والتاريخ الحديث وأعد خلالها أطروحة الدكتوراه الثانية وعنوانها ( الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون ) وكان ذلك عام 1918 إضافة إلى إنجازه دبلوم الدراسات العليا في القانون الروماني والنجاح فيه بدرجة الامتياز وفي غضون تلك الأعوام كان قد تزوج من سوزان بريسو الفرنسية السويسرية الجنسية التي ساعدته على الإطلاع أكثر فأكثر باللغة الفرنسية واللاتينية فتمكن من الثقافة الغربية إلى حد بعيد.


الدكتور طه حسين في جامعة باريس درس التاريخ اليوناني والتاريخ الروماني والتاريخ الحديث  وعلم الاجتماع، ولما عاد إلى مصر عام 1919 تم تعيينه أستاذًا للتاريخ اليوناني والروماني في الجامعة المصرية وكانت جامعة أهلية فلما أُلحقت بالدولة عام 1925 عينته وزارة المعارف أستاذاً فيها للأدب العربي فعميداً لكلية الآداب في الجامعة نفسها وذلك عام 1928 م.


كتاب من لغو الصيف إلى جد الشتاء لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين يضم مجموعة من المقالات والخواطر عن الأحداث التي تعايش معها وهو في فرنسا كما يتناول مجموعة من الخواطر التي تعبر عن المشاعر الإنسانية المتناقضة والتي يمكن للمرء أن تحدث معه ويشعر بها وأيضا يتناول الحديث عن الكتب السماوية الثلاثة القرآن والإنجيل والتوراة فيعبر لنا عنها بصور أدبية وفلسفية إبداعية جميلة وقد سبق أن نشر الكثير منها في جريدة الرسالة عام 1932 وفي عام 1933 أنّ ألّف الدكتور طه حسين هذا الكتاب وطبع لأول مرة عام 1961.


يقول عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين: نعم إذا أقبل الصيف دنوت من نفسى فاستفتحت بابها فإذا فتح لى هذا الباب نظرت فما أسرع ما أذكر الخطيئة حين رأى وجهه على صفحة الماء فهجاه أستعرض ما عملت فإذا هو منقوص وإذا التقصير يعيبه ويفسده واستعرض ما قبلت من الناس فإذا هو رديء مشوه مهين وإذا أنا قد هدأت حين كانت تجب الثورة وسكنت حين كانت تجب الحركة وسكت حين كان يجب الكلام وإذا أنا ساخط على ما أعطيت ساخط على ما تلقيت منكرا لكل ما أتيت وإذا أنا ضيق بنفسي وإذا نفسى ضيقة بي وإذا أنا أود لو ينقضى الصيف وأتمنى لو أستقبل فصل العمل فإن النشاط على مابه من قصور وتقصير خير من هذا الهدوء الهادئ الذى لا يرى الإنسان فيه إلا نفسه ما أشد عجبى للذين يطيلون النظر فى المرآة.


إن الذي يطالع كتاب من لغو الصيف إلى جد الشتاء لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين يرصد أنه اشتمل على رحلتين في أعماق فكره وأدبه أما الرحلة الأولى فكانت أثناء وجوده في فرنسا من أجل دراسته الجامعية لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة باريس حيث كان لهذه المرحلة دور كبير في هذا الكتاب حيث إنّه في إحدى ليالي الصيف الهادئة شعر بشيء مريح قد دخل إلى بدنه فالسماء الصافية والنجوم اللامعة كأنها درر مزينة والهواء المنعش العليل والحياة الجديدة بكل ما فيها من تقاليد وعادات وانفتاح وحرية جعل منه يبدأ بإمساك قلمه ليخط تلك الخواطر وينقلها لنا، فمنها ما كان جميلا مريحا للقلب والفكر ومنها ما كان سيئا فكرهه ولم يرغب به، ومع هذا فقد نقل جميعها دون أن يستثني منها شيئاً حيث كان أسلوبه ممتعاً ورقيقا فنقل مشاعره بكل صدق وذلك من أجل أن تعمّ الفائدة للجميع دون استثناء،  وأما الرحلة الثانية التي يتعرض لها الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي بإسهاب وتغلغل في أعماق تفكيره وخياله فهي التحدث عن المشاعر الإنسانية التي يمكن للمرء أن يشعر بها مهما اختلف مستواه الثقافي والاجتماعي كبيرا كان أم صغيرا رجلا أم امرأة فيتحدث تارة عن الفرُاق ما بين الأصحاب والأزواج وتارة يتحدث عن الحزن والألم الذي يعتصر فؤاد المرء جراء فقدانه عزيز على قلبه وتارة يتحدث عن قصص الصداقة التي تحفر بماء وغيرها الكثير الكثير من المتناقضات الإيجابية والسلبية التي تعترض حياة الإنسان كما يتحدث في هذا الكتاب عن الكتب السماوية الثلاثة القرآن والإنجيل والتوراة فيتناول الحديث عنها بصور أدبية جميلة وبأسلوب عميق يجعل من القارئ لهذا الكتاب شغوفا بقراءة المزيد دون أن يدخل الملل إلى فؤاده.


مما جاء في هذا الكتاب القيم للدكتور طه حسين أذكر قوله: (وانقضت في باريس وفي القاهرة أعوام كان فيها ما شاء الله من حلو الأمر ومره حتى كان يوم ٥ يوليو سنة ١٩٢٤ وإذا أنا في بورسعيد كما كنت آخر سنة ١٩١٥ م) . . وقوله: ( فهى تستطيع أن تجيبهم بما شاءت من جواب بأنك في البيت أو بأنك قد خرجت ؟ أليس إليها تتجه السُّلطة حين تريد أن تتعرف من أمر السكان ما تحتاج إليه لفرض الضرائب؟) وقوله: ( ومن الناس من يكتفي بمدينة من المدن ذات الحظ العظيم من الحضارة فيقضي نهاره فيها وليله كما كان يقضيهما في مصر إلا أنه هنا يستمتع بحظ من الحرية لا يستمتع به عادة في مصر).


هذا هو القليل عن صيف عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين فالحديث يحتاج إلى صفحات ومجلدات ولكن ماقدمته تذكرة لجمالياته فرحمة الله على روحه.