لكل شارع من شوارع مصر المحروسة حكاية وتاريخ وشخصيات بارزة في التاريخ المصري لها دور مؤثر في مجالها، وهو ما دفع الجهاز القومي للتنسيق الحضاري إلى إطلاق مشروع للتعريف بتاريخ الشخصيات المؤثرة التي أطلقت أسماؤها على بعض الشوارع ومن ضمن هذه الأسماء واحد من أشهر الشخصيات في الطب الحديث في مصر، هو انطوان كلوت بك الذي يحمل أحد شوارع منطقة وسط البلد بالقاهرة أسمه، فمن هو انطوان كلوت بك؟
مولده ونشأته
ولد أنطوان كلوت بك في "جرينوبل" بفرنسا في 7 نوفمبر 1793 من أبوين فقيرين، وربِّي في شظف من العيش، على أن ملامح النجابة كانت تظهر على وجهه، ومواهبه الطبية تتجلى في أعماله منذ كان صبيا؛ لأنه كان على صغره ولعًا بتشريح الحشرات ودرس طبائعها.
في سنة 1817 أتم دراسته، وعُينَ طبيبًا صحيًّا، وكان قد درس العلوم بنفسه وأتقن اللغة اللاتينية على أحد القسوس، ونال درجة بكالوريوس في العلوم. وفي سنة 1820 نال شهادة الدكتوراه، فعاد إلى مرسيليا وعيِّن طبيبًا ثانيًا بمستشفى الصدقة، ومستشارًا جراحيًّا بمستشفى الأيتام، فنمَّ به بعض ذوي الحسد فأُقيل من منصبه، ولكنه لم يسعَ في الانتقام، بل تضاعفت همَّته في العمل؛ أراد بذلك أن يبرهن على عدم اكتراثه بالسعاية والوشاية، وأنه إنما ينال الشهرة والسعادة بالسعي والاجتهاد، فكتب كتابًا في استعمال آلات الولادة في الأحوال الخطيرة، حتى صار دكتورًا في فن الجراحة، وذاع صيتُه في مرسيليا.
كلوب بك في مصر
وفي سنة 1825 قابله المسيو "تورنو"، وكان تاجرًا فرنسيًا يعمل بمصر، أرسله والي مصر "محمد علي باشا" لاختيار من يليق بمنصب طبيب لجيشه، فحبب إلى كلوت بك المجيء إلى مصر لشغل ذلك المنصب، فقدم على طيب خاطر، فرأى أمامه بابًا واسعًا للعمل؛ لما قد علم من حاجة البلاد إلى الإصلاح الطبي، فأخذ يعمل ليله ونهاره مفكرًا في الوسائل المؤدية إلى المراد.
فعهد إليه محمد علي باشا بتنظيم الإدارة الصحية للجيش المصري، وصار رئيس أطباء الجيش. منحه محمد علي باشا لقب “بك” تقديرًا لجهوده في النهضة الطبية التي أحدثها في مصر.
أعمال كلوت بك الطبية بمصر
أشهر المستشفيات التي بُنيت بناء على اقتراحه مستشفى أبي زعبل، وكانت مقر جنود الجيش المصري، وأنشأ في المستشفى بستانًا للبنات، وفي حوالي سنة 1827 أسّس كلوت المدرسة الطبية في أبي زعبل أيضًا، وكانت أول مدرسة طبية حديثة في الدول العربية، وكانت تضم 720 سرير. وقد أراد بذلك أن لا يقتصر الطب على الجيش، بل يتعلمه أبناء البلاد؛ حتى يفيدوا أبناء جلدتهم بتطبيبهم وتعليمهم، وكان في السنين الأولى من تأسيس هذه المدرسة هو وحده الذي يلقي الدروس بواسطة المترجمين؛ تسهيلًا لفهمهما، فتُرجمت حينها عدة كتب في الطب والجراحة والعلوم الطبيعية.
وفي سنة 1832 ذهب كلوت بك ومعه 12 تلميذ من تلامذة مدرسته هذه لامتحانهم في باريس، فامتحنتهم الجمعية العلمية الطبية، فحازوا استحسانها، وأظهروا كل نجابة وذكاء وبراعة؛ وقد كان نجاح هؤلاء المصريين في امتحانهم موجِبًا لسرور أستاذهم كلوت بك سرورًا زائدًا؛ لأنهم سيكونون له عونًا في نشر الفوائد الطبية والوصايا الصحية في هذه الديار.
وفي سنة 1838 نُقلت المدرسة الطبية من أبي زعبل إلى القاهرة، وهي المعروفة بمدرسة قصر العيني، ثم أنشأ فيها فرعًا لدرس فن القِبالة (الولادة)، يتعلمها النساء؛ لعلمه أَنَّ عوائد المشارقة لا تسمح بولادة النساء على يد أطباء من الرجال، وأنشأ لهن مستشفًى خاصًّا بهن، وكان لهذه الخدمة فائدةٌ عظمى؛ خصوصًا لأن النساء لا يؤذن للطبيب بمساعدتهن في الولادة، ولا الكشف عليهن في تشخيص بعض الأمراض.
ثم قام بإنشاء أماكن للاستشارة الطبية بالقاهرة والإسكندرية، وجعل في كل استشارة أجزاخانة، وأنشأ أماكن كثيرة لمعالجة المرضى؛ كالمستشفيات وغيرها في المدن الكبيرة، وأدخل تطعيم الجدري للأطفال، ولم يكن متداولًا قبل ذلك بمصر، فأوقف انتشار ذلك الوباء، وكان يموت بسببه قبل ذلك ألوف كل سنة، وقد ظهرت نتائج إجراءات الدكتور كلوت بك الصحية في ازدياد عدد سكان القطر إلى أضعاف ما كانوا عليه.
وأظهر كلوت بك سنة 1830 نشاطًا كبيرًا في مواجهة وباء الكوليرا ومعالجة المصابين ما يشهد له به التاريخ. وفي سنة 1835 ظهر الطاعون بالقاهرة، فخاف الأطباء واعتزلوا في بيوتهم خوفًا من العدوى، إلا كلوت بك وثلاثة من زملائه، فإنهم ثابروا على خدمة المرضى ومعالجتهم.
وفي سنة 1860 سافر إلى مرسيليا، وتوفي بها في 28 أغسطس 1868.